الكاتب : حيدر الجوراني
رُبما سَيتبادرإلى الذهن السؤال التقليدي من هو المُثقف؟
هذا السؤال خُيضَ فيه كثيراً وكُتِبَت فيه نَظريات. بَيدَ أنَ هذا السُؤال هو الآلية الأَنجع التي تستخدم كالدُخان الأَبيض للهروب من الخوض في دَور المُثقف الحَقيقي.
في العراق تَحديداً، إتَضحَ إنَ دَوراً مَفقوداً يَجب أن يُمارسهُ المُثقف بيَن السُلطة والمُجتمع، إلا أنَ المَهمة لَيست بالإمر اليَسير، كما قد يَتصور البَعض، أو بالإحَرى هيَ – أي مهمة المُثقف – سؤالاً آخرَ قد يَطول الحَديث فيه أيضاً.
يَبدو أنَ الديمُقراطيةَ تَفرضُ هكذا تَساؤلات مُحرِجة، و إن كانَ على ما يَبدو أن السَنوات الأخيرة بعد حَركة الإِحتجاجات في تشرين 2019 وَضعت النِقاطَ على الحُروف في الكَشفِ عن دَور المُثقف (كحلقة مفقودة بينَ السُلطة و المُجتمع). كَما ليسَ من الإِنصاف التَجاهل أن هذا الكيان الَمفقود (المُثقف) هو فرداً من المُجتمع أيضاً. هُنا تُسكَب العَبرات و يَكمنُ المأزق للمُثقف و دَورهِ في التفاعل الدينامي بَينَ السُلطة و المُجتمع في الحَياة السياسية وَ الإِجتماعية.
تبدأ إشكالية الإجابة على هذهِ التَساؤلات في داخل المُثقف نفسهِ، فَحريٌ بهِ أن يَحسمَ هذا الصِراع النَفسي (كَمُثقف و عَليه دَورهُ) و أَيضاً كَفرد يَنتمي إلى المُجتمع بِذات الوقت، و ينتمي إليه، ويتبنى ثقافته و أفكاره ومُعتقداته و إتجاهاته. سايكولوجياً، عَليهِ أن يُواجه تحديد الذات في شَخصيتهِ و أن تتضح رؤية العَتبة الحسية لهُ بالوَعي وباللاوَعي في كَونهِ مُثقفاً و فَرداً بِآنٍ واحد وإحداث حالة التَوازن الشَخصي و النَفسي.
و للإنصاف، لم تَمنح الحياة السياسية و الإجتماعية للمُثقف العراقي على مدى عُقود أن يحافظ على وجود دَورهِ (الطَبقة التي هي حيزهُ في خلق وضبط التوازن الدينامي بين السُلطة و المُجتمع)، قد يَحتاج هذا التشخيص إلى دراسة أكثر عمق. إلا أنني أفترض هنا أن النُظم السياسية التي مارَست السلطة في تأريخ العراق السياسي والإجتماعي و كذلكَ الوعي السياسي للمجتمع العراقي جَعلا من المُثقف العِراقي أمام خِياران لا ثالث لَهما إما التَماهي مع السُلطة خِشية الإقصاء أو النَفي كمُعارض.
إلا أن الحال لم يَتغيرعن سابقهِ بعد 2003، سِيَما وأنَ الديمقراطية هي عُنوان النظام الحاكم، وإن كانت هيَ المرة الأولى في المئة الاولى من عمر الدَولة العراقية الحَديثة، إلا أن الديمقراطية كَتَغيَيرعَنيف تَحتاج إلى تَمرحل تَأريخي لتَترسخ كَقيمة مُتَجسَدة في بِنية العَقل السياسي للنُخبة و الوَعي السياسي للجماهير. من هُنا – وفقاً للتَجارب و الدِراسات يأتي دَور النخبة المُثقفة كَطبقة وَسيطة تَضبط إيقاع التَحولات الإجتماعية و تَرسيخ المَفاهيم المُلازمة لها و إعادة إنتاجها بما يَنسَجم مع السياقات الإجتماعية والسياسية وفقاً للزمان والمكان.
إن الخَلل (المُرَكب) النَاجم عن عَدم تَجسد الديمُقراطية، كقيمة و تَطبيق للنُخبة السياسية وكَمُتَبنى في الوعي السياسي للمُجتمع، حَكمَ على المُثقف العِراقي إما أن يَتماهى مع مُغريات السُلطة و شَهوة المَكانة الممنوحةَ له، أو أن يَكون مَنفياً نَتيجة التَهديد أو التَشريد أو التَهديد بالقتل. أي، أنَ السُلطةَ تَستدرجُ المُثقفَ ليُضاجِعُها الخِيانة دينامياً فَتُسقِطه في ظُلمة “ نَرجسية المُثقف».
إلا أن مفهوم “ خيانة المُثقف” لا يُبَرر و تِلكَ هي لَعنة دَور المُثقف.
يَقول جوليان بيندا في كتابهِ (خِيانة المُثقفين): “وَعلى حدٍ سَواء فَخيانة المُثقف واحدة، سواء من الشَرق الأوسط المُزدهر بالكَراهية الدينية و الطائفية، أو الغرب و أوروبا ذواتا المُطالبة بالإصلاحات السياسية و التَعددية الثقافية فيها” إذ يَرى جوليان بيندا بقولهِ “ إن خيانة المُثقفين تَلعب دوراً في خلق دراما غير مُهذبة” ويسترسل قائلاً “ إن كارثة هؤلاء الذينَ يُعلمون العالم المَفاهيم الأخلاقية – يقصُد المُثقفين- يُهشمون بِتلك الدِرامات زَوايا الحَياة الثَقافية بِشكل يومي».
إنَ تَصور بيندا هذا كان رداً على التغيرات ضمن الواقع الفرنسي، و تَصوره هنا – أنَ المُثقف كائناً كَونياً إينما يَكون. وفي ذات السِياق يتفقُ معَهُ فينكيل كراوت في كتابهِ (خَراب الفِكر) واصفاً الخِيانة الثَقافية حينما يَجتمع المَوهومون من المُثقفين بِمُعاداة التَنوير والوقوف بالضِد من المَعرِفة الظاهِراتية – دونَ تَزييف – والتي تَستند على العِلم. ومن وجهة نظرهِ، أنَ خيانة هؤلاء المَوهومون – المُثقفون – هي فِكرة مَفادُها أنَ التأريخ أُسطورة، لذلكَ فإن الحَقائقَ العِلميةَ لا تَعدوا مُجرد مُخيلات يَتم تَبنيها كَما يَتمُ إرتداء المَلابس المَممنوعة. وَهنا يَرى فينكيل كراوت أنَ العقل واللغة يُصبحان عاجزان عن إكتشاف الحَقيقة عندَ هؤلاء المثقفين (الخَونة حسب وَصفهِ)، كَما أن الحَقيقةَ نَفسها قَد تُخادع البِناء الأيديولوجي وهذا ما أسماهُ فينكيل كراوت “بالسَخافات الفكرية».
بعدَ ذلكَ طَورَ إدورد سعيد في كِتابهِ (خيانة المُثقفين – النصوص الأخيرة) ما أتى به جوليان بيندا و فينكيل كراوت، يبدو أن النزعة القَومية (وأزمة مفهومها السائد) و تَناقضات مُكتسباته – كأدورد سَعيد نفسهُ- من الثقافتين الشرقية الأُم والغربية المُضيفة له، جَعله يُشَخصُ خِيانة المُثقف بقوله:
« أخيراً، إن كانت الحَياة الإنسانية مُقدَسة، يَجبُ أن لا يُضَحى بها بإحتقار وإِن لم يَكُن الضحايا مِنَ البيض و الأوروبيين. يَجبُ دائماً على المرء أن يَبدأ مُقاومتهُ مِن وَطنهِ ضِدَ السُلطة، كَمُواطن يُمكِنهُ التأثير، لكن يا للأسف، فقد سيطرت القَومية المُقَنعة بالوَطنية و المصلحة القَومية على الشعور النَقدي – يقصد هنا عند المُثقف طبعاً- الذي يَضعُ الوَلاء للأمة فوقَ كل إِعتبار. في تِلكَ النُقطة لَيسَ هُناكَ سِوى خِيانة المُثقفين و الإفلاس الأخلاقي الكامل».
يُحسَب لإدورد سَعيد تَشخيصهُ للحَلقة المَفقودة بينَ “ الدراما غير المُهذبة” و “ السَخافات الفكرية” كأشكال لِخيانة المُثقفين. أن الخيانة قد تأخذ أشكلاً مُتعددة إلا أن السَببَ في ذلكَ هو – من وجهة نَظر إدورد سَعيد- أن ما يَجعل المُثقف خائناً هو بقاءوهُ مأسوراً للولاء. أياً كان سواءً للقومية أوالدين أو الطائفة أو التوجه و المُعتقدات.
أما خِيانة المُثقف العِراقي، فإنها قد لا تَختلف من حيث الأشكال للخيانات التي ذكرها المُنَظِرون، لكن أسبابها أبعدُ من الولاء الذي قد يَكون هو السَبب الأوضح الذي يَحسمُ قرار الخيانة إما إلى التماهي مع السُلطة أو مُعارضتها و العَيش في المَنفى. فالتَشظي السياسي و الإجتماعي المُنبثقانِ عن سببين الأول: هشاشة الدَولة كَمؤسسات ديمقراطية، و الثاني: هشاشة “مُركب السُلطة” ذاتها (السُلطة السياسية، السُلطة الدينية، السُلطة العشائرية). هذا المُركب الذي تَضخمَ و تَغولَ نَتيجة (الصَدمة التأريخيةَ) و التي هي تجارب صَدمية عابرة للأجيال عِبرَ ذِكريات السُلطات الثلاث في تأريخ العراق الحديث. وهذا ما يَجعل الخَوف من الخسارة و الفقدان (لشهوة السُلطة) حَتمية دافعةَ لأي سُلطة للتَشبث بِتلابيب خيانة المُثقف العراقي بآلية الوَلاء.
لايَعني ذلك أن المُثقف يَتجَرد عن فَردانيتهِ كَميول و إِتجاهات. ولكن يبقى مأزقهُ الأَوحد، هوَ التَفريق بينَ دورهِ في خلق الطبقةَ مع مُثقفين آخرين، أي بتَعبيرٍ آخر- ضَبط إيقاع البيئة الإجتماعية السياسية بين السُلطة و المُجتمع خارج مِطرقة الولاء و الإغراء من (ثالوث السُلطة المُركب في العراق)، و سِندان الإنتماء كَفرد للمُجتمع وفقاً لهَويته المَرجعية.
غالباً ما يكون الولاء و الإغراء عَقبتان ناجِمَتان عَن الوقوعِ في فَخ “التَقديس”. وهذا ما قد يُسبب حالة التَيه للحَركات الإجتماعية، ولا تَجد لَها مُثٌقفين بالقَدرالكافي يؤمنون لَها تلكَ المنطقة الآمنة للتَحولات بين المُجتمع الذي إنطلقت منه وبين السُلطة التي تَرزح تحت هَيمنتها. حَتى حركة الإحتجاجات في تشرين مثلاً: أُدخِلت حَيزَ التَقديس و رُبما أُختُرِقت من قِبل (مُركب ثالوث السُلطة). وبالتالي تَعذرعلى الكَم الهائل من مُثقفيها أن يَخلِقوا لها مساحة تُمكنها من الإستمرارعلى أقل تَقدير بالمُطالبة بالقَصاص العادل من الجُناة، لأن القَضاء نَفسهُ مُقدَس وخارج مَديات النَقد. وذات الحال مع المؤسسة الدينية و العَشيرة و الطائفة و كل ما هو مؤدي إلى هوية فرعية في شخصية المُثقف العراقي نَتيجة الأُطر المفاهيمية و المَعرفية التي أُسس عَليها بعد 2003، و من هنا تَبدأ الخِيانة.