ديسمبر 4, 2024

الكاتب : حسن العاشور

لقد تأسس حزب الله بوصفه أولا وقبل كل شيء فصيلا مقاوما للاحتلال الإسرائيلي، ولن انسي تلك الأمسية التي دعاني اليها صديق لبناني أوائل تسعينيات القرن العشرين، في ضيعة تتاخم الشريط المحتل، الذي نصب عليه الإسرائيليون احد عملائهم، تناولنا عشاءنا وتجاذبنا اطراف حديث مع ثلة من شبان تحسبهم ملائكة، بل هم ملائكة حقا، وما ان انتصف الليل واويت الى فراشي، ظننت انهم سينامون في الديوانية، وهي كبيرة تتسع، ولكنهم اعتذروا، وقالوا لي سنتناول الفطور معك ان شاء الله، وودعوني وذهبوا، فاسر لي صاحبي أن الشبان ذهبوا ليرابطوا على ثغر من ثغور الامة، علمت انهم مقاومون، فدعوت الله ان ينصرهم ويحفظهم، وقرأت قوله تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَىٰ مَعَادٍ﴾، وعندما جاءوا صباحا كما وعدوني، سررت كثيرا وحمدت الله على سلامتهم.

هذه هي صورة المقاوم في وجداني، وفي وجدان كل من تعامل معه، مؤمن نبيل تراه دائما ذاهبا الى ربه، طريقه واضحة، عبدتها خطى السابقين، قويمة لا اعوجاج فيها، ولا اغالي اذا ما قلت ان حساباتهم بريئة من الاحتمالات السياسية، التي تنفتح على الممكن حد نسجه ذرائع قد تلوى اعناقها للضرورات، لانهم قريبون من الله، قربا يلهمهم الوجود الواجب، ويعتقهم من حيز الممكن، بهذه الروحية ارهبوا العدو، عندما واجهوه بنيانا مرصوصا، مصداقا لقوله تعالى ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾.

   ان وجودهم المقاوم هذا كان لا يكلف الدولة اللبنانية شيئا، جلهم طلاب وموظفون، لا يتقاضون على عملهم المقاوم راتبا او مكافأة، بل ان وجودهم يقوى موقف الدولة التفاوضي في استرجاع ارضها المحتلة، ولا احد يستطيع ان يلاحقهم قانونيا على ما ينزلونه بالعدو من خسائر لانهم يقاومون محتلا كما قاومت كل الشعوب.

   بعد دخول حزب الله الى معترك السياسة تغير الامر، صيرت المقاومة فصيلا له تمثيل سياسي جهد من اجل اسباغ الشرعية القانونية على قوته العسكرية بصيغة الجيش والشعب والمقاومة التي كان يصر على تضمينها في البيانات الوزارية، كما ان دوره لم يعد محصورا بمقاومة المحتل، فقد قاتل خارج لبنان، قاتل داعش في سوريا، وحسنا فعل، الا انه دعم في الوقت نفسه نظام بشار عسكريا، ما احدث شرخا في علاقته مع المعارضة السورية، من غير الجماعات الإرهابية من داعش واخواتها، ولا اجد فرقا بين إرهاب بعث الاسد في سوريا وبين إرهاب بعث صدام في العراق، لا في الشكل ولا في المضمون، وهذا امر يضيق مقامنا هذا بتفصيله.

   الأمانة في التعامل مع الواقع تقتضي القول إن المقاومين كانوا مؤمنين يطالبون بحق، يكفله الدين، وهو مسوّغ جهادهم الأول، بل هو المسوغ الوحيد، ويكفله القانون، وهذا يسوّغ الحراك السياسي، الذي لا يعنيهم كثيرا، بدليل انهم جنود مجهولون، لا يبحثون عن وجاهة الا عند الله، لا يعرفهم المجتمع الذي يعيشون في وسطه حياة عادية جدا، الا بعد استشهادهم رضي الله عنهم وارضاهم.

   عندما قرر سياسيو حزب الله فتح جبهة اسناد عزة، وربما كان ذلك بالتنسيق مع الإيرانيين، الذين رفعوا شعار وحدة الساحات، استعد المقاومون لمواجهة مشرفة، ولكن إسرائيل لم تواجه، بل استعملت قوة صارخية تدميرية هائلة جوية وبحرية، ما كان القرار السياسي بالمساندة قد أصاب في حسابها، خاصة وان ما وافق عليه لبنان لابرام الهدنة التي نسال الله ان تدوم، كان اقل بكثير مما كان يعرض على حزب الله ويرفضه، فالهدنة ابرمت لصالح إسرائيل على وفق ما هو اكثر من القرار 1701، ومن يقرأ فقرات الاتفاق الثلاث عشرة يجد انه قرار 1701 موسع، وحتى هذه الهدنة التي حصلت وبشروطها المؤلمة، ما كانت لتحصل لولا بسالة المقاومين وشجاعتهم.

    إن هدف إسرائيل بعد مجزرة البايجر والاغتيالات هو الاجتياح، وهي كانت تفكر بالوصول الى نهر الأولى، أي تقف على مشارف بيروت، بدليل ان انذراتهم لسكان البلدات الجنوبية بالنزوح الى ما بعد نهر الاولي، ولكن الاجتياح يتطلب التحاما قتاليا يصل في بعض الأحيان الى قتال بالسلاح الأبيض، وهنا اصطدمت إسرائيل بالمقاومين المؤمنين الذين يقاتلون كالبنيان المرصوص، فعلى الرغم من تفوقها في العدة والعدد انهم وقفوا في وجهها سدا منيعا، شعارهم النصر او الشهادة، رحم الله الشهداء منهم، ومن على الجرحى بالشفاء، وحفظ الاحياء وبارك فيهم.  

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *