اسم الكاتب : صادق الطائي
أنهار من المداد والدماء أريقت في الصراع على هذا السؤال؛ قومية عراقية أم قومية عربية؟ ومازال السؤال قائما كلما مر العراق بأزمة ما، هل هناك قومية عراقية جامعة لابناء البلد الذي يعيشون على أرضه وتجمعهم معا روابط وطنية؟ أم أن العراق يمثل جزءا من تكوين أكبر، سواء كان أمة إسلامية أو أمة عربية؟ والسؤال في جوهره سؤال هوية، فمنطقة المشرق العربي الحديث التي ولدت من رحم تفكك الامبراطورية العثمانية بعد الحرب العالمية الأولى، أنتجت كل الدول التي نراها اليوم.
لماذا إذن كانت أزمة الهوية العراقية متمايزة عن هويات اقرانه في المشرق العربي الجديد؟ ولماذا بقي الصراع على الهوية متأججا في العراق؟
كما هو معلوم أن نظرية الهوية الاجتماعية تعد من النظريات الحديثة في العلوم الاجتماعية، اذ أن هذه النظرية ظهرت في الحياة الأكاديمية في سبعينيات القرن العشرين، ففـــي جامعة بريســـتول في بريطانيا قدم عالم النفس الاجتماعي هنري تاجفيل عام 1972 نظريته حول (الهوية الاجتماعية) التي تمت صياغتها بعد ذلك بهذا الاسم، بالاشتراك مع عالم النفس الاجتماعي جون تيرنر عام 1979، ليفسرا بها كيف تستمد الذات معناها من خـــلال السياق الاجتماعي، ويرى تاجفل وترنر أن هناك ثلاث مراحل لعمليات عقلية تستخدم في تقويم الآخـــرين إلى (نحن) و(هم)، والمرحلة الأولى هو التصنيف، فنحن نصنف الأشياء بهدف فهمها وتعريفها. والثانية المطابقة الاجتماعية، حيث يتبنى الفرد هوية المجموعة التي يصنف نفسه فيها. والثالثة المقارنة الاجتماعية، بمجرد تصنيف الفرد لنفسه بأنه جزء من مجموعة ما ويحدد هويته ضمنها، فانه يقوم بمقارنة جماعته بالجماعات الأخرى، وهذا أمر حاسم للمحاباة والتحيز، فبمجرد تعريف المجموعتين لنفسيهما ستصبحان في وضع يجبرهما على المنافسة لغرض إدامة تقديرهما الذاتي. وبناء على هذا الاطار النظري سنحاول النظر في المشكلة العراقية التي هي في الاصل مشكلة هويات متصارعة.
وفي تتبع لجذر أزمة الهوية العراقية، لابد من الإشارة إلى أن الحقبة الانتقالية بين احتلال بريطانيا للعراق في مارس 1917 واعلان المملكة العراقية في اغسطس 1921 أربع سنوات من التخبط ومحاولة تلمس طريق ما سيحدث للأقاليم العثمانية التي توزعتها القوى المنتصرة في الحرب العالمية الاولى، ليستقر الرأي النهائي على إعلانها دولا تحت وصاية الدول المحتلة (بريطانيا وفرنسا) فيما عرف بصك الانتداب. كان الصراع في العراق في هذه الحقبة بين مدرستين فكريتين الاولى، هما المدرسة العثمانية التقليدية الرافضة للتغيير ومسايرة معطيات الحالة الجديدة، وكانت ذات تأثير بسيط في السياسة وفي الحياة العامة بسبب محافظتها وعدم واقعية نظرتها للتغيرات الحاصلة. والمدرسة الثانية هي المدرسة التي تدعو إلى ولادة امة جديدة تستمد رؤيتها من النظريات الاوروبية السياسية الحديثة حول الامة والدولة والسلطة، وما يلحق بها من مؤسسات ساندة لبناء الامم مثل، البرلمان والدستور والديمقراطية والاحزاب، وقد مثل الشباب الملتف حول الملك الشاب فيصل بن الحسين المدرسة الثانية، وعملوا جاهدين لترسيخ مفهوم الامة العراقية، ولم تكن تنافس فكرة (القومية العراقية) و(الامة العراقية) فكرة (القومية العربية) أو (الامة العربية) بعد، لأن ما كان مطروحا في الواقع السياسي بداية القرن العشرين لم يكن يحتوي على هذه الافكار.
مثلت مرحلة ما بعد «انقلاب» 14 يوليو 1958 الذي اطاح بالنظام الملكي في العراق واعلان الجمهورية حقبة الصراع بين الهوية العراقية والقومية العربية، فلم تمر سوى ايام حتى ظهر استقطاب حاد بين دعاة الهوية العراقية ممثلة بقوى اليسار الملتفة حول الجنرال عبد الكريم قاسم رئيس الوزراء العراقي من جهة وبين نائبه الجنرال عبد السلام عارف الداعي للوحدة الفورية مع الجمهورية العربية المتحدة بقيادة عبد الناصر من جهة اخرى، وقد التفت حول عارف القوى القومية في العراق، وأدى تفاقم الصراع بين الشريكين إلى ايداع عارف السجن ومحاكمته بتهمة محاولة قتل قاسم، ولم يمر على الانقلاب سوى ثلاثة اشهر فقط، لتبدأ دوامة القتل والدم بعد انقلاب جنرال اخر هو عبد الوهاب الشواف، آمر حامية الموصل عام 1959، وقد كان انقلابا مدعوما من عبد الناصر، ويسعى إلى فرض رؤية القوميين من العسكر لهوية العراق العروبية، إلا أن عبد الكريم قاسم قمع الانقلاب واعدم الجنرالات المشاركين فيه، ما قاد إلى المزيد من جريان الدم والاحتراب، بل اشتد الصراع وتحول إلى انقسام سياسي مجتمعي لف العراق بدوامة كراهية ليستمر الصراع رغم تغيير توجهات قاسم وتقربه من القوميين في نهاية حكمه، إلا أن ذلك لم يمنع الاطاحة به بانقلاب عسكري بعثي في 8 فبراير 1963، وهنا تسلم دعاة الوحدة العربية الحكم في العراق وترأس الجنرال عارف الذي لم يكن بعثيا رئاسة الجمهورية وتزامن ذلك مع انقلاب بعثي اخر في سوريا في 8 مارس 1963، وبذلك اصبح دعاة الوحدة العربية يحكمون ثلاث دول عربية كبرى، مصر الناصرية والعراق وسوريا البعثيتين، فلماذا لم تتم الوحدة التي ينادي بها الجميع والتي اعتبرت اهم اهدافهم واولى اولوياتهم؟
في العلن وبعد اسابيع دعا البعثيون في سوريا والعراق عبد الناصر إلى مفاوضات وحدة في ابريل 1963، لكن عبد الناصر الذي كان قد خرج بنتائج مرة من وحدته مع سوريا عام 1958التي انهارت عام 1961 كان مترددا في قبول الدخول في تجربة جديدة، لكنه وفي الوقت نفسه لم يكن يستطيع الرفض، لأن مشروعه السياسي الشعبوي قائم اساسا على المطالبة بالوحدة العربية، والبعثيون بدورهم كانوا متخوفين من سطوة كاريزما عبد الناصر، التي ستفرض وجودها بالتأكيد على دولة الوحدة وتجربتهم المرة في سوريا عندما فرض عبد الناصر على الاحزاب السورية أن تحل نفسها، وقد وافقوا في 1958 على هذه الخطوة ثم عادوا وانتقدوها في مؤتمر قومي لاحق بعد الانفصال، واعتبروا ما قامت به القيادة القومية خطأ كبيرا، عندما جمدت نشاطات الحزب، لذلك سعى البعث في سوريا والعراق إلى محاولة فرض شروطه في وحدة جديدة عام 1963 على عبد الناصر، الذي لم يستسغها، والنتيجة بقاء ما عرف بـ(ميثاق الوحدة الثلاثية) حبرا على ورق، وحتى بعد تسعة اشهر، أي في نوفمبر1963 عندما اطاح الجنرال عارف القومي الناصري بحكومة البعث في العراق، لم يستطع أن ينجز وحدة مع مصر عبد الناصر، حيث كان الجميع يعتقدون أن مسألة الوحدة بين نظامين قوميين ستكون اسهل من اي وقت مضى، الا أن خصوصية الظرف العراقي متمثلا في التمرد الكردي فرض نفسه على مفاوضات الوحدة بين عارف وناصر عام 1964، حتى أن بعض القادة الاكراد (جلال طالباني ممثلا للملا مصطفى البرزاني) دخلوا في مفاوضات جانبية مع عبد الناصر ليعرفوا مصير مطالبهم، حيث طرحوا وجهة نظرهم بوضوح، وهي حكم ذاتي في دولة العراق المستقلة أو اقامة اقليم فيدرالي في دولة الوحدة، وقد كانت المشكلة الكردية احد العوامل التي جعلت عبدالناصر متحفظا في مفاوضات الوحدة، بالاضافة إلى استنزاف قدرات مصر في حرب اليمن، بعد أن دفع عبد الناصر بمئة الف مقاتل لدعم ثورة الجنرال عبدالله السلال التي اطاحت بحكم الامامة في المملكة المتوكلية في اليمن عام 1962، كل ذلك جعل مشاريع الوحدة بين بعض الدول العربية شعارا يرفع دون سعي حقيقي لتطبيقه، بسبب ما تفرضه معطيات الواقع السياسي في كل دولة وحسابات كل جنرال يحكم بلده ومحاولته عدم الذوبان في كاريزما عبد الناصر الطاغية انذاك.
واليوم يطرح بعض المؤرخين والكتاب المعاصرين رؤيتهم القائلة إن العراق دولة (ملفقة) تمت ولادتها من تجميع ثلاث ولايات عثمانية مستقلة (البصرة وبغداد والموصل) وبالتالي فانهم يرون أن احتمالية تفتته وعودته إلى مكوناته الثلاثة امر قد يحل اشكالية صراع الهويات في العراق، تقابل هذا الرأي مدرسة اخرى تقول إن الوجود التاريخي للعراق الموحد امر بديهي ومفروغ منه، حيث طالما مثل العراق وحدة موحدة سواء اكان مستقلا أو جزءا من امبراطورية، ولا يعني تقسيمه اداريا إلى ثلاث ولايات عثمانية أنه مكون من ثلاث دول، كما أن اصحاب هذا الرأي يدينون اصحاب الرأي الاول ويتهمونهم بنظرة اجتزائية للتاريخ، قائلين اذا كان لابد من عودة العراق إلى خريطة ولاياته العثمانية الثلاث فيجب أن تعاد كل الخريطة إلى نصابها القديم، وهذا يعني أن الكويت كانت قائممقامية تابعة لولاية البصرة يحكمها آل صباح بصلاحيات واسعة، وأن الاحساء والقطيف كان يديرها قائممقام يعينه والي البصرة، وأن المحمرة كان يحكمها الشيخ خزعل كقائممقام مرتبط بوالي البصرة، وكذلك الحال مع مناطق شاسعة من تركيا وسوريا الحاليتين، كانت تابعة لولاية الموصل، فهل بالامكان عودة كل تلك الاراضي إلى ما كانت عليه الخريطة القديمة؟ أم أن التجزئة تطبق على خريطة العراق الحديث من جهة، ولا تسمح بعودة باقي اجزاء الخريطة القديمة من جهة اخرى؟
لقد كان مشروع اقامة (الامة العراقية) مشروعا واعدا على اسس النظم السياسية الحديثة التي تمد يدها بالتعاون إلى عمقها العربي والاسلامي، بما يخدم شعبها اولا واخوانها وجيرانها ثانيا، وكان الملك فيصل بن الحسين والرعيل الاول من ساسة العراق الملكي الملتفون حوله عماد هذه الاطروحة التي لم تكن تنافسها نظرية (القومية العربية) التي ولدت في ثلاثينيات القرن العشرين تأثرا بالنظريات القومية الأوروبية، خصوصا الالمانية التي ما لبثت أن نمت وترعرعت حتى باتت الاطروحة المنافسة في النصف الثاني من القرن العشرين، ومازال العراق واقعا تحت تأثير صراع النظريتين ومن يدفع الثمن هم الابرياء من ابناء العراق.