نوفمبر 22, 2024
download

اسم الكاتب : سليم مطر


يستحيل تحديد ماهية (الشخصية العراقية) منذ فجر التاريخ وحتى الآن، دون تركيز الضوء على هذه الخصوصية المهمة جدا جدا:

ارتباط العراق والعراقيين، الكبير والمحتم والاساسي بالخارج الاقليمي والعالمي! وفي هذا سر عبقريتهم وعظمة تاريخهم، وايضا سر خرابهم وتمزقهم!!

يكفينا جردة سريعة لطبيعة الاحزاب العراقية في العصر الحديث، لادراك هول التبعية للخارج:

ـ ان اكبر تغييرين جبارين حدثا في تاريخ العراق الحديث قاما بتأثير اجتياح استعماري:
ـ الاجتياح الانكليزي وقيام الدولة العراقية عام 1921
ـ الاجتياح الامريكي وقيام الدولة الجديدة عام 2003

وليست صدفة ان جميع النخب والاحزاب العراقية ظلت دائما تابعة عقائدية وحزبيا وفعليا للخارج:

ـ النخب الملكية التفت حول العائلة الهاشمية الحجازية، وجلبتها لتحكم العراق.
ـ النخب القومية العروبية مثال البعث اتت من الشام ومصر وظلت تابعة لهما فكريا وحزبيا.
ـ النخب القومية الكردية، ظلت تابعة لاي قوى اقوى وتدفع اكثر، من ايران الى تركيا وحتى مصر وليبيا، والآن اسرائيل وامريكا.
ـ النخب الشيوعية اتت من وظلت تابعة لروسيا والصين وغيرها.
ـ النخب الليبرالية اتت من وظلت تابعة لاوربا الغربية وامريكا.
ـ النخب الاسلامية، اما سنية تابعة لأخوان مصر والوهابية الخليجية، او شيعية تابعة لايران.

                  الشخصية العراقية والشخصية المصرية
لو قارنا مثلا الشخصية العراقية بالشخصية المصرية، فهنالك اختلاف كبير في هذه الناحية:
ـ الشخصية المصرية طيلة التاريخ، منطوية على ذاتها الوطنية وتعتبر نفسها دائما مركزية والخارج ثانوي وتابع، وشعارها الشعبي والنخبوي السائد(مصر ام الدنيا).
بينما شعار العراقيين بجميع نخبهم: (العراق بلد مصطنع ويجب ربط اجزاءه بالدول الاخرى، العروبية والكردية والاسلامية..ووو.. الخ)!!
ولو اخذنا مثال النخب المصرية في العصر الحديث، فأنها ارتباطها في الخارج ظل ضعيفا وثانويا. وليس صدفة ان البعث العراقي فشل بتكوين فرع له في مصر رغم كل الجهود الجبارة والامتيازات والملايين التي صرفها صدام على المصريين. وان الاسلاميين المصريين هم الذين كونوا تيارهم الاسلامي الخاص بهم(الاخوان المسلمون) بل تمكنوا ان يفرضوه ليصبح تنظيما عالميا!!
ـ اما الشخصية العراقية، فأن ذاتها الوطنية لا تتحق الا من خلال الخارج، اما السيطرة عليه سياسيا وحضاريا، او التبعية له سياسيا وحضاريا!!
وسبب الاختلاف بين المصريين والعراقيين، يعود الى اختلاف موقعي البلدين. فمصر ظلت دائما اقل عرضة للاجتياحات الخارجية، بسبب بعد القوى الحضارية والعسكرية منها، اذ هي عموما محمية بموانع جغرافية: صحارى كبرى وبحار.


                    خارجية الشخصية العراقية واشكالية الموقع
ان عظمة ومصيبة العراق تكمن في موقعه الجغرافي الخطير، فهو تماما في وسط الشرق الاوسط، تحيطه من جميع النواحي قوى حضارية وسكانية كبرى ومتنافسة:
ايران وآسيا الوسطى من الشرق، والاناضول من الشمال، والشام من الغرب، والجزيرة العربية والخليج من الجنوب.
والمشكلة الاعظم، ان العراق وادي خصيب بنهرين عظيمين وسهل مفتوح في وسط اوطان جبلية وهضاب شبه قاحلة ظلت دائما بحاجة للقدوم لبلاد النهرين لخصبها ولاهميتها الحضارية والستراتيجية.

فأيران مثلا تتجه دائما نحو العراق، ليس فقط طمعا بخصبه وحضارته، بل ايضا لبلوغ البحر المتوسط حيث الشام.
كذلك بلاد الاناضول(الحيثيون ثم الرومان ثم البيزنط ثم العثمانيون) ظلت تجتاح العراق خوفا من هيمنة ايران عليه وايضا لبلوغ شواطئ الخليج واسواق الهند.


ان هذا الموقع المركزي والمفتوح حتم الارتباط الدائم بالمحيط الخارجي، اما خاضعا للغزوات والاحتلالات الخارجية، او مهاجما ومتوسعا في الاوطان المحيطة للسيطرة وضمان الامن والدفاع.
لهذ فان الروح والدولة العراقية ظلت دائما تعتبر الخارج مركز اهتمامها: للسيطرة عليه حضاريا وعسكريا من اجل حماية انفسها من الاجتياحات.
وافضل تعبير عن هذا الاختلاف بين الروحين العراقية والمصرية، ان الدولة المصرية ظلت عموما محدودة في مصر، ولم تقم بها امبراطوريات تسيطر على البلدان المحيطة. وكان اقصى نشاط للدولة المصرية يتمثل بفرض الرقابة العسكرية على سواحل الشام لمنع محاولات اجتياح مصر. وتكرر هذا طيلة تاريح مصر، من الفراعنة الى الفاطميين وحتى المحاولة الفاشلة للرئيس ناصر بالوحدة من سوريا.
بينما الحضارة النهرينية هي النقيض تماماً، استحواذية توسعية بسبب تعرضها الدائم للغزو، مما جعلها تضطر الى الغزو لحماية نفسها، منذ البابليين والآشوريين، وصولاً لأخطرها واكبرها (امبراطورية العباسيين) التي حكمت نصف آسيا وشمال افريقيا طيلة قرون. بل ان هذا البلد كان كذلك مقراً وعاصمة لامبراطوريات أجنبية كبرى، مثل امبراطوريتا الاسكندر المقدوني ثم الساسانيين الذين اختاروا المدائن عاصمة لهم.
            خلاص العراق والعراقيين بدولة وطنية قوية وسلمية
لهذا فأن الشرط الاول والاكبر لنشوء الازدهار الحضاري العراقي هو توفر(الدولة القوية والمستقرة). فمن دون هذا الشرط، يغدو العراقي طفلا يتيما مشتتا منطويا على نفسه، حسودا غيورا من اخوته ومقربيه. وهذا السبب يفسر ايضا حاجة النخب العراقية الى اللجوء الى قوى ودول اجنبية تتبعها وترتبط بها، ليس فقط لمصلحة مادية، او ايمانا بعقيدتها، بل لكي تعوض عن غياب دولتها، ولحاجتها النفسية لأب حام يرعاها ويشعرها بالأمان.
نعم ان خلاص العراق والعراقيين بوعي نخبه بخطورة تبعيتها للخارج، وان تعمل على خلق وعي وطني يدافع عن قيام دولة قوية ومستقرة تمثلهم جميعا، وبنفس الوقت تكون علاقتها بالخارج، لا تبعية ولا توسعية، بل ان تعمل على يكون العراق وعاصمته (بغداد) مركزا للحوار والتقارب والتوحد بين شعوب وبلدان الشرق الاوسط، كما النموذج الاوربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *