اسم الكاتب : محمد المحمود
يشتغل المتأسلمون بالأساس على الهمّ السياسي، وفق رؤية دينية، أو وفق رؤية تدّعي الدينية، كجزء من الأطروحات التي تحاول حلّ الإشكال الحضاري المستعصي الذي كان ـ ولا يزال ـ يشدّ المجتمعات الإسلامية إلى الوراء، متخلّفة بمدى عقلي يمتد لقرون متطاولة، بينما هي/ الأطروحات تريد ـ أو تزعم أنها تريد ـ تحقيق شرط التقدم، بل وتتضخم آمالها ادعاء؛ لتزعم أنها تريد صناعة حضارة نوعية تتمايز بمساراتها عن مسارات الحضارة الغربية/ الكونية المعاصرة، بل و لا تكتفي بهذا التمايز المزعوم حتى تدعمه بوعود التفوق الساحق الذي سيعيد أمجاد القرون الأولى؛ كما يزعمون.
نحن هنا لا ننتقد التفكير السياسي التقليدي عند المتأسلمين على اعتبار أن التفكير السياسي عند غيرهم أرقى وأجدى، وإنما نفعل ذلك معهم لكونهم هم الذين يتقدّمون ـ على مستويي: التنظير والعمل ـ بما يرونه مشروعا سياسيا واعدا مُتخما بالأمل في عالم قروسطي متخم بالفشل. والأهم في هذا السياق، من حيث هو محفز لنقد تصوراتهم التقليدية في هذا الشأن، أنهم إذ يتحدثون بلسان الله/ شريعة الله فإنهم يجتذبون القلوب قبل العقول من عوالمها الحائرة إلى يقين الإيمان، هذا اليقين الذي تصبح معه الوعود/ الادعاءات وكأنها حقائق واقعية، أي كأنها قد أنجزت بمجرد أن يؤكد المتحدثون بلسان الله أنها هي “وعد الله”، للمؤمنين، وهم ـ بزعمهم ـ المؤمنون، والله لا يخلف الميعاد.
المتأسلمون وإن كانوا يخاطبون الجماهير بلغة سياسية ساذجة، إلا أنها لغة مفهومة جماهيريا
طبعا، لا تخلو الساحة في العالم العربي/ العالم الإسلامي من خطابات حداثية منافسة تُقارع أطروحات المتأسلمين السياسية. لكنها ـ للأسف ـ غير حاضرة من حيث درجة التأثير في المسلك السياسي العام على صعيد الواقع أو المأمول. فهذه الأطروحات الحداثية، أو التي تتفاعل مع جدليات الأطروحة الحداثية في هذا المجال، لا تستطيع المنافسة على أرضية الاستجابة الجماهيرية، إذ هي نخبوية فكرية/ ثقافية تشتغل في وسط جماهيري غريب عنها، وسط جماهيري لا يزال غارقا في ثقافة تراثية تصنع له من الماضي أملا واعدا لمستقبل يحلم به. وهو ينتشي بذلك، واقعا في سكرة الطرب على إيقاع أهازيج القوميين أو أناشيد المتأسلمين.
زيادة على ذلك، فنحن إذ ننقد نمط التفكير السياسي عند المتأسلمين لا نفعل ذلك فقط لكونه مؤثرا كأمل جماهيري يداعب أحلام ملايين المحرومين، فضلا عن المسحوقين، وإنما لكون الإسلاموية ذاتها تعي نفسها، ويعيها الآخرون، بوصفها خطابا سياسيا بالدرجة الأولى، أو ـ على الأقل ـ بصفة أساسية تمنح الخطاب هويته المعلنة في الفضاء العام. وهذا ما يشير إليه الباحث الفرنسي/ أولفيه روا، عندما يؤكد أن ثمة “ثلاث نقاط تميّز الإسلامويين بوضوح عن أشكال وصيغ السلفية الأخرى، لا سيما سلفية العلماء، وهي: الثورة السياسية، الشريعة، وقضية المرأة” (تجربة الإسلام السياسي، ص41). وبالنظر إلى العنصرين الأولين: الثورة السياسية والشريعة (تحكيم الشريعة)، نجد أنهما عنصران سياسيان أصيلان، مع أن العنصر الثالث (قضية المرأة) ليس بريئا من التوظيف السياسي في معظم الأحوال.
التجربة العملية الواقعية للمتأسلمين لم تأخذ مداها الذي يكشف معالم فشلها
وفي هذا السياق، علينا التنبّه لحقيقة قد تبدو مرة، بل ومقلقة، ولكنها ـ للأسف ـ هي واقع الحال، فالإسلاموية، رغم تراجعها في السنوات الأخيرة، لم تسقط من عالم الأحلام الجماهيرية في العالم العربي، خاصة في أطروحتها السياسية التي لا تتساوق مع مستويات الوعي السياسي الجماهيري فحسب، وإنما أيضا مع آمال وتطلعات هذه الجماهير التي تجد في الوعد السياسي الإسلاموي منقذا لها من واقعها (واقعها القُطري وواقعها الإقليمي/ القومي) الذي لا تزال قضاياه الكبرى تلهب وجدانها بأقصى مما يستطيع واقعها أن يتحمله، وهي تدرك ذلك أحيانا، ولكنها ـ أدركت ذلك أم لم تدركه ـ تبدى استعدادا مذهلا للتضحية بالخاص القطري، بل وبالخاص الفردي؛ لحساب الإقليمي/ القومي العام!
وفق ما أراه كمتابع لهذا الشأن؛ يرجع السبب الرئيسي في كون تراجع الأطروحة الإسلاموية لم يصل لدرجة استقالتها من الفاعلية الجماهيرية المؤثرة، إلى أن التجربة العملية الواقعية للمتأسلمين لم تأخذ مداها الذي يكشف معالم فشلها بالكامل، أي لم تكتمل معالم التجربة في الواقع كأنموذج للفشل، فالمتأسلمون إذ خرجوا من الساحة قسرا بالقوة القاهرة؛ لبسوا ثياب المستضعفين المضطهدين، الضحايا، لا الجناة. لقد عادوا إلى صفوفهم الأولى التي ألفوها لعشرات السنين كمعارضة تنتقد الحكومات/ المؤسسات التنفيذية من موقف المتفرج الذي يقايس الواقع المتعثر، بل الكارثي أحيانا، بعالم نظري يعد بكثير من الطموحات التي تتسع باتساع الأوراق التي تكاد تكون بالمجان، ثم تستجيب لها القلوب باتساع نطاق الحرمان.
إن ثمة تفاعلا جدليا بين نمط التفكير السياسي التقليدي لدى المتأسلمين وبين الفاعليات الجماهيرية التقليدية، فإذا كان خطاب الإسلامويين السياسي نابع من عمق التراث التقليدي الذي يُشكّل وعي الأغلبية الساحقة من الجماهير، فإن هذا الخطاب الإسلاموي التقليدي هو ما يشكل وعي الجماهير على نحو تقليدي، ويدفعها لمزيد من الاتكاء على التراث في صناعة تصوراتها السياسية.
ومن هنا، فالمتأسلمون وإن كانوا يخاطبون الجماهير بلغة/ مفاهيم سياسية ساذجة، إلا أنها لغة/ مفاهيم مفهومة جماهيريا، إنها لغة/ مفاهيم تُحيل إلى تراث يعرفونه، أو يتصورون أنهم يعرفونه، والأهم أنه تراث يتفاعلون مع قضاياه ورموزه وأحداثه تفاعلا عاليا على مستوى الانفعال الوجداني؛ إذ يشعرون بأنهم أبناؤه، أنهم امتداده الطبيعي تراثيا وتاريخيا وجغرافيا، أنه عالمهم الذي يملكونه ويفهمونه، ومن ثم يستطيعون التحكم فيه لتحقيق الحلم القديم في واقع جديد.
من هنا تبدو فكرة الاقتراع السياسي الديمقراطي مثلا وكأنها فكرة غريبة؛ رغم كل الأصوات الإسلاموية ـ بل والعروبوية ـ المطالبة بها. إنها فكرة غير تراثية، فكرة لا تجد تحقّقاتها في تاريخ الأنا، بل ولا في التنظير المسطور الذي كثيرا ما تُكْسِبُه القَدَامة شيئا من قداسة. ومن ثم؛ فهي فكرة لم تتجذر في الوجدان، ولم تُستوعب في العقول، فتجد الألسنة تنادي بها جهارا، بينما السلوكيات ترفضها وتزدريها على كل المستويات، بل وتحتقرها من حيث هي تبدو حيلة الضعفاء للاستيلاء على ما في أيدي الأقوياء.
المتأسلمون غارقون في تصورات ذاتية هي غاية في التقليدية عندما يتعاطون مع الشأن السياسي
طبعا، هذا هو تصور الإسلامويين المتحررين الذين يزعمون شيئا من الانفتاح، أي الذين يزعمون التماهي مع خطاب الاستنارة في أفقه السياسي المتأنسن. أما حماة الأصولية الأشداء وصقور السلفية الصرحاء، فلا يترددون في رفض كل مفردات الخطاب السياسي الحديث، لا سيما ما يتعلق بالديمقراطية وآلياتها، حيث يرفضونها شكلا ومضمونا، بل ويراها كثير منهم “كفرا بواحا” يقع المقتنع به، فضلا عن ممارسه، تحت حكم “الرّدة”/ الارتداد عن الإسلام. وبهذا، وفق منطق هذه الأصوليات، فإما أن يتوب الديمقراطي من قناعاته الديمقراطية، أو من ممارسته لها، أو منهما كليهما: القناعة والممارسة، وإما أن يُقتل كافرا؛ لأنه بهذا الإيمان/ الممارسة يكون قد وضع في أيدي البشر، ما هو حق خالص لله وحده خالق البشر (حق التشريع/ سنّ القوانين)، وهذا “شرك صريح”، شرك حاكمية؛ كما يزعمون.
وللدلالة أكثر على أن المتأسلمين غارقون في تصورات ذاتية هي غاية في التقليدية عندما يتعاطون ـ تنظيرا أو ممارسة ـ مع الشأن السياسي، فإنك تجدهم ليسوا فقط عاجزين عن تقديم رؤية سياسية معاصرة تتساوق مع مسارات التحديث السياسي العالمي المعاصر، وإنما أيضا عاجزون عن فهم آليات العمل السياسي حتى في عالمهم القطري/ الإقليمي المحدود/ الخاص. وهذا ما جعلهم ـ رغم هوسهم الشديد والطويل بالسلطة، رغم محاولاتهم الدائبة للاستيلاء على السلطة كضرورة لفتح إمكانيات النموذج المزعوم ـ يفشلون في ذلك فشلا متكررا، بل وكارثيا في مآلاته. ويحدث هذا الفشل المتكرر والكارثي لسبب بسيط كما يبدو لأول وهلة، وهي أنهم عندما يفكرون سياسيا؛ يفكرون بطريقة/ بنماذج/ تصورات لا علاقة لها بأبسط مبادئ السياسة المعاصرة، بل لا علاقة لها بقوانين العصر ككل، إذ هي تنتمي لعالم آخر مغاير تماما، عالم مختلف يفصل بيننا وبينه عشرة قرون أو أكثر، بحيث تبدو مقولاتهم/ ممارساتهم في هذا السياق وكأنها كوميديا سوداء، الضحك فيها كالبكا؛ كما يقول أبو الطيب المتنبي.