الخصائص المعيارية للشخصية العراقية (القسم الثالث) الخاصية الاتكالية (اللاأبالية) : الحاجة الدائمة الى منقذ أو مخلّص

ثامر عباس

على مدى قرون متطاولة من الزمن كان الإنسان العراقي ولا يزال يعاني ويكابد الأمرين ؛ ليس فقط من جور السلطات السياسية (المحلية) و(الأجنبية) التي سامته شنى صنوف القمع والردع والتجويع ، بغية كسر إرادته واخصاء شخصيته ومسخ هويته ونسخ ذاكرته فحسب ، بل وكذلك من طغيان الطبيعة الايكولوجية ونزق قوانينها وقساوة مناخها وشحة مواردها . وهو ما انعكس سلبا”على تشكيله النفسي وتكوينه السلوكي واعتقاده الديني ، بعد أن لمس ان كل المحاولات والمبادرات التي خاض غمارها للخلاص من هذه المآزق والإفلات من تلك المخانق ، بائت بالفشل ولم تجدي نفعا”إن لم تكن عمقت جراحه وزادت معاناته وضاعفت مكابداته . بحيث أفضت به هذه الحصائل المريرة الى الشعور بالإحباط النفسي الدائم واليأس الوجودي المستمر ، للحدّ الذي أفقده القدرة الذاتية على إبداء المقاومة إزاء كل عارض ، وساقه للارتماء في أحضان الاستسلام وتاركا”مصيره للمجهول .
وحين لا يجد المرء في نفسه ما يساعد على النهوض من الكبوات ، ولا ما يقاوم به الصدمات ، ولا ما يدرأ عنه التحديات . سرعان ما تتراخى عزيمته وتتداعى مقاومته ، ويفقد بالتالي زمام أمره ويفوض مآل مصيره الى جهة أو مصدر خارجي قد يكون ؛ ديني (الملك / الإله) ، أو اجتماعي (السيد / الشيخ) ، أو سياسي (الزعيم / القائد) . وهو ما حصل بالنسبة للإنسان العراقي الذي لم تقتصر خاصية (الاتكال) لديه على مصدر واحد من تلك المصادر المذكورة ، وإنما شذّ عن مخلوقات الله الأخرى التي تستشعر الضعف في ذاتها وقلة الحيلة لديها إزاء ما يواجهها من مصاعب وما يعترضها من تحديات . حيث طالما لجأ الى رموز تلك المصادر وفقا”لدوافع براغماتية (مطلبية) متدرجة ، بدأ بالأقل شأنا”وأدنى مكانة الى الأرفع شأنا”والأعلى مكانة ، وذلك وفقا”لطبيعة الحاجة أو الغاية التي تستدعي منه اللجوء الى هذا المصدر أو ذاك . هذا دون أن يفرط – في بعض الأحيان – بطريقة مخاطبتها (مجتمعه) كل بحسب مقامه وقدرته ، حيث يشرع يتوسلها ويستعطفها ويستنجد بها لكي تبادر الى (إنقاذه) و(تخليصه) مما هو فيه من هوان الحال وعواقب المآل ، مظهرا”أمامها وبين يديها أدنى مستويات الضعف وأقصى درجات التذلل ، معتقدا”بذلك أنه كلما كان أكثر توسلا”وأشد تضرعا”، كلما كانت استجابة تلك الرموز أسرع وأنفع .
وإذا ما تابعنا تطور هذه الخاصية لدى الشخصية العراقية ومن ثم تحولها من الحالة (الاضطرارية) الى الحالة (المعيارية) ، وفقا”لسيرورات التحقيب التاريخي (القديم ، والوسيط ، والمعاصر) ، فإنه بالإمكان موضعة كل مصدر من تلك المصادر (الخلاصية) التي كانت ولا تزال تستهدفها تلك الشخصية في طاب العون وتقديم المساعدة . فعلى صعيد الحقبة التاريخية (القديمة) كان المصدر الأثير والمؤثر بالنسبة للإنسان العراقي في طلب الحماية ونشدان السلامة ، هو (الملك / الإله) الذي كان مواظبا”على استعطافه واسترضائه بصرف النظر عن طبيعة الظروف التي كان يمر بها حربا” أم سلما”. حتى أنه من النادر خلو بيت أو قرية أو مدينة من وجود (مقام خاص) لرمز الملك / الإله حيث تقدم له النذور وتقام من أجله الصلوات ، للحدّ الذي ان الأعداء الذين كانوا يغزون بعضهم البعض الآخر خلال عصر دويلات – المدن ، كانوا يدركون أن وقع الأذى بالشخص المستهدف سيكون أشدّ إيلاما”، وأن حجم الضرر بالمدينة المعنية سيكون أشد وطأة ، حين تستهدف تلك الرموز الدالة على كونها موجودة معهم وحاضرة بينهم من منطلق ان تحطيم مقامها أو إزالة رمزيتها هي بمثابة إعلان هزيمة المدينة واستسلام سكانها .
وأما على صعيد المرحلة التاريخية (الوسيطة) حيث سادت العلاقات (العبودية) و(البطريركية) و(الإقطاعية) ربوع الجغرافيا العراقية ، فقد حصل انزياح نوعي في اهتمامات وتوجهات الإنسان العراقي المسحوق باتجاه مصدر (خلاصي) آخر ، وهو المعني بمزدوج (السيد / الشيخ) بعد أن لمس أن مصيره ومصير أفراد أسرته بات مرهونا”برضى ورعاية هذا الرمز السلطوي الجديد . ورغم كل المعاناة التي كان يكتوي بلظاها والمكابدات التي يتجرع مرارتها جراء الممارسات التعسفية اللاانسانية التي كان يتعرض لها من قبل (أسياده) الطغاة ، إلاّ أنه لم يفعل شيئا”إزاء تلك الظروف المزرية والأوضاع الشاذة ، سوى أنه استسلم خانعا”لجبروت أولئك الأسياد معتبرا”ذلك أنه من الأمور الطبيعية التي تتسق ونمط العلاقات الاجتما – الاقتصادية السائدة بين (السيد والعبد) ، بين (الشيخ – الإقطاعي والفلاح) . وهكذا فقد ترك لهذه الرموز (الخلاصية) المهيمنة كل ما يرتبط بشؤون حياته الشخصية ومصير وجوده الاجتماعي ، لتقرر له ما ينبغي عليه فعله أو الامتناع عنه ، للحدّ الذي تحول معه الى ما يشبه (السلعة) حيث يباع ويشترى مع الموجودات المادية والحيوانية التي زمامها تلك الرموز . وهو الأمر الذي استتبع أن تكرّس لديه النزعة (اللاأباالية) حيال كل ما يقع عليه من مظالم ويجري حوله من انتهاكات ، طالما كان يظن / يعتقد ان هناك كائن / كيان يمكن (الاتكال) على قدرته و(الاحتماء) بسطوته ، لإنصافه من المظالم الكثيرة وحمايته من الانتهاك المستمرة ، لاسيما وأنه لم يفتأ يقتات على خلفيات ومرجعيات أورثته تلك الحاجة المستديمة الى انتظار (منقذ) أرضي أو (مخلص) سماوي ! .