الخصائص المعيارية للشخصية العراقية (القسم الرابع) الخاصية النكوصية (الارتدادية) : الماضي يأسر الحاضر ويؤطر المستقبل

ثامر عباس

ليس في تاريخ العراق الحديث والمعاصر ما يلفت انتباه الإنسان العراقي ويستحوذ على اهتمامه ؛ لا على المستوى الاجتماعي أو الاقتصادي أو الثقافي أو الحضاري أو الإنساني ، بحيث يشده الى الواقع المعاش ويغريه للانخراط في حراك المجتمع الملموس ، اللهم سوى النكبات المتكررة والويلات المتوالية التي باتت جزء من حياته منذ لحظة ولادته في أحضان البؤس والخوف والحرمان ، وحتى لحظة مماته في شتات الغربة النفسية ومنافي الضياع الوجودي . ولهذا نجده لا يعير اهتماما”كافيا” بما يجري في الزمن الحاضر ، بقدر ما يولي اهتمامه ما جرى في الزمن الماضي ، لذلك فهو دائم التطلع الى الوراء ومشدودا”الى ما وقع في التاريخ ببعديه (الواقعي) و(المتخيل) ، حاملا”في نفسه الملتاعة حنينا”جارفا”الى كل ما له صلة بالماضي الآفل .
ولعله من المناسب الإشارة الى أن ليس كل حالة (ارتداد) صوب (الماضي) تعدّ رجوعا”بالمعنى (النكوصي) السلبي ، إذ ان الكثير من شعوب العالم – حديثها وقديمها – مارست هذا الضرب من الاستعادة (للماضي) وتحيين أحداثه واستحضار وقائعه ، ليس بدافع (الحنين) المرضيي للأمجاد السالفة والاكتفاء بتأمل رموزها والتفاخر بانجازاتها ، وإنما بوازع من الاتعاض بدروسها والاستفادة من عبرها بقصد تجنب أخطائها وتلافي عيوبها . أما في حالة الإنسان العراقي فالماضي بالنسبة إليه ليس مجرد أحداث مضت ووقائع انقضت يستطيع استدعائها في اللحظات الحرجة والمنعطفات الحادة من حياته ، لتبين المسار الذي سلكته الظاهرة أو الواقعة المعنية ما بين لحظة التكوين ولحظة التمظهر ، ومن ثم الكشف عن الخلفيات والمرجعيات التي ساهمت منحها هذه الخاصية دون تلك ، وإماطة اللثام عن السيرورات والديناميات التي ساعدت على بروزها بهذا الظرف دون ذاك ، بما يجنبه الشطط في صياغة الأحكام المنطقية ويمنعه من الانحراف عن بلورة التقييمات الواقعية . وإنما هو يدرك الماضي لا بالمعنى (النسبي) الذي يعبر عن سيرورة من المحطات الزمنية المتعاقبة التي يفضي بعضها الى بعض عبر مسار تطوري متدرج قابل الى (التراجع) و(النكوص) ، بل هو يعيش الماضي بالمعنى (المطلق) والمفارق للواقع الذي يلمسه ويمارسه بشكل يومي ، بحيث يحيله الى مجرد (فكرة) مهيمنة على سيرورة (التاريخ) بكل انقطاعاته وملابساته فحسب ، و(رؤية) متحكمة بديناميات (المجتمع) بكل تناقضاته وصراعاته .
وفي الوقت الذي حولت فيه الأنظمة السياسية المتعاقبة في العراق (سلطانية – ثيوقراطية) ، و(ملكية – ارستقراطية) ، و(جمهورية – شمولية) ، حاضر الإنسان العراقية الى جحيم حقيقي يفتقر لأبسط شروط الحياة الإنسانية الكريمة ، لم تفتأ أجهزتها البيداغوجية والإيديولوجية المتفننة في شتى ضروب الخداع والتضليل ، من تزويق وتزوير (ماضيه) بمختلف أنواع (الاختلاقات) و(التلفيقات) ، بحيث يبقى مشدودا”الى تلك الحقب الأسطورية والخرافية (الطوباوية) ومتعلقا”بها من جهة ، وزاهدا”بما يجري في (حاضره) الفائض بالمآسي والطافح بالفواجع من جهة ثانية ، مثلما يجهل أو يتجاهل ما سيكون عليه شكل (مستقبله) في القادم من الأيام من نذر ومخاطر من جهة ثالثة . هذا بالطبع دون تفرط تلك الأنظمة باستثمار الأرصدة الاعتبارية الضخمة التي تتوفر عليها وتحتكم إليها الثقافات (الفولكلورية) الملئية بقصص الأبطال الخارقين وحكايات السلف العظام ، والتي غالبا”ما كانت (مؤسطرة) و(مؤمثلة) في العقل الجمعي العراقي الذي يمتاز بالطابع العاطفي والانفعالي . ولعل هذا يفسر لنا سرّ تهيب البعض من المؤرخين والباحثين ممن يتحلون بالواقعية في التحليل والموضوعية في التأويل ، من الخوض في غمار هذه (التابوات) المعطلة للعقل والمكبلة للإرادة على خلفية إحاطتها بالممنوعات الاجتماعية والمحرمات الدينية منذ قرون .
والمفارقة أنه كلما عظم شأن الخطب الذي يحيق بحياة الإنسان العراقي وهو يجابه التحديات اليومية على مختلف الصعد والمستويات ، كلما كان ميله لاستحضار (الماضي) بكل مناقبه ومثالبه ، فضائله ورذائله أقوى وأشدّ ، لا لكي يستقرأ الأحداث ويحلل المعطيات ويستخلص الدروس ويتعظ بالعبر ، وإنما لكي يحتكم إليه في جدالاته البيزنطية ويستنجد به في صراعاته الدونكيشوتية ، دون أن يراع الفوارق الزمنية والأبعاد المكانية التي تفصل ما بين العصور والحقب والمراحل ، وما تنطوي عليه من اختلافات جوهرية في ميادين السياسة وحقول الاجتماع ومضامير الاقتصاد وأنماط الثقافة وتضاريس الجغرافيا . وهو الأمر الذي كلفه الكثير من الكوارث والمآسي ليس أقلها اجترار أوهامه وتكرار أخطائه وتواتر معاناته ، للحدّ الذي أفقده حسّ الانتماء للواقع الذي يعيش والولاء للمجتمع الذي ينتمي ، وبالتالي حصاد المزيد من حالات (الاغتراب) و(الاستلاب) و(الضياع) و(الانخلاع) .