اسم الكاتب : ايناس سعدي عبدالله
كانت المدن تتألف من عدد من المحلات الصغيرة، والتي كثيرا ما كانت تنشب بين افرادها نزاعات عديدة، وقد برزت هذه الظاهرة بشكل واضح في العهد المملوكي. فقد جرت العادة في عهد المماليك انه حين ينشب نزاع بين فريقين منهم على الحكم تنتقل عدوى النزاع الى سكان بغداد، فكل فريق من المماليك يستنجد عند النزاع بأصدقائه من رؤساء المحلات، وهؤلاء بدورهم يستصرخون اهل المحلة فتهب المحلة بسلاحها للقتال الى جانب الفريق الذي استنجد بها، وبهذا تنقلب میادین بغداد ودروبها الى ساحات حرب. ولنا من المعارك المحلية التي نشبت في بغداد في اعقاب وفاة عبد الله باشا عام 1777 مثالا جيدا. فبعد وفاة هذا الوالي المملوكي بدأ التنافس على الحكم بين عجم محمد واسماعيل اغا الكهية، وانقسمت محلات بغداد الى فريقين متناحرين كل فريق منهما يؤيد احد المتنافسين. فقد وقفت محلات الفضل والمهدية والقراغول والميدان الى جانب عجم محمد، بينما وقفت محلات راس القرية وباب الشيخ والشورجة الى جانب اسماعيل اغا. وقد انحاز المماليك الى اسماعيل اغا بوجه عام، اما الإنكشارية فقد انقسموا الى فريقين، وانحاز الجنود المحليون الى من كان يدفع لهم مالا أكثر. وصار كل فريق يكتب العرائض التواقيع ويبعثها الى السلطان في سبيل تعيين مرشحه واليا على بغداد بدلا من مرشح خصمه. وقد حاول سليمان بك الشاوي رئيس العبيد تهدئة الحالة وكان ذا منزلة محترمة لدى مختلف الطبقات في بغداد، فارتأى ان يخرج المرشحان كلاهما من بغداد حتى ينجلي الوضع. فوافق على ذلك اسماعيل اغا غير ان عجم محمد ابى وعاند وكان اهل الميدان من اشد أنصار عجم محمد، وقد استنجد بصديقه احمد اغا رئيس اللاوند الذي كان في بعقوبة فأنجده بجماعة كبيرة من اللاوند، وقد جاء هؤلاء فخيموا تجاه مقبرة الشيخ عمر فتقوى بمجيئهم اهل محلة الميدان. ومن الجانب الاخر تقوى اسماعيل اغا بانضمام سليمان بك الشاوي وعشيرة العقيل اليه وعبرت عشيرة العقيل دجلة من الكرخ وجعلوا متاريسهم على رأس الجسر قرب المولى خانه وقد دامت المعارك بين الفريقين خمسة اشهر نهبت فيها الاسواق والبيوت وسفكت الدماء وانتهكت الحرمات، واصبح القتال مشهدا من مشاهد الاسواق في كل يوم، ولم تهدأ الحالة الا في شهر ايار عام 1778 عندما وصل حسن باشا الكركوكلي وهو يحمل فرمانا من السلطان بولاية بغداد، ودخل الوالي الجديد بغداد بموكب رسمي حافل فهرب عجم محمد الى نواحي ديالى بمعونة صاحبه احمد اغا، هناك ومن صارا يقطعان الطرق ويغيران على بغداد. وقد تكرر المشهد نفسه في اعقاب وفاة سليمان باشا الكبير عام 1802، اذ لم يكد سليمان باشا يلفظ انفاسه الاخيرة، أو ربما قبل ساعة من ذلك حتى بادر احمد اغا رئيس الإنكشارية بجمع من استطاع جمعهم من الرعاع والسوقة واستولى على القلعة فتحصن بها، واخذ يضرب السراي بالقنابل وعندما سمع الناس هدير القنابل أسرعوا فاغلقوا دكاكينهم، وامتلأت شوارع بغداد بالمسلحين من الاهالي وبقيت الحالة مضطربة فترة من الزمن.