اسم الكاتب : رياض سعد
تنامت الظواهر السلبية واستمرت في مجتمعنا العراقي العريق ؛ كالمد والجزر تنتشر وتشتد تارة و تتقلص وتنكمش تارة أخرى حسب الظروف التاريخية والسياسية وإفرازاتها وتأثيراتها في المجتمع .
إن ظاهرة ((الفضول و التطفل على حياة الغير )) من المشكلات الأخلاقية المزمنة والاجتماعية المنتشرة في أرجاء الوطن منذ القدم ,فهي مرتبطة بالوضع الأخلاقي والحضاري العام الذي يسود البلدان العربية التي تؤثر فينا ونؤثر فيها بصورة متبادلة وان كان تأثير العرب في العراق أكبر وأكثر من تأثير المجتمع العراقي في الأوساط الاجتماعية العربية – لأسباب سياسية معروفة – ؛ ولكن هذا لا يعني ان العرب والعراقيين هم المتصفون وحدهم بهذه الصفة الذميمة دون باقي الأمم والشعوب الأخرى ؛ إذ أن هذه الصفة موجودة في كافة المجتمعات البشرية إلا أنها تختلف من مجتمع لأخر شدة وضعفا وفقا للمستوى الحضاري والثقافي لهذا البلد أو ذاك .
حيث أن انتشار هذه الظاهرة دليل على الانحطاط الأخلاقي وانحدار المستوى الحضاري والثقافي , لأنها من أسوء العادات ومن أقبح الأفعال و التصرفات , ولطالما تضايق الناس منها و انزعجوا وتكدر مزاجهم , فالإنسان مهما علا شأنه أو صغر يحاول جاهدا كتم أسراره والمحافظة على خصوصياته وحماية شؤونه من تطفل الآخرين وتدخل الفضوليين ؛ وهذا بلا ريب حقٌ من حقوقه المشروعة التي كفلتها له الشرائع السماوية والقوانين الوضعية ؛ فقد شرعت القوانين الصارمة في بعض دول العالم المتحضرة لمحاسبة المتطفلين وتعريضهم للمسآلة القانونية ؛ لأجل صيانة شؤون الناس وحماية حياتهم الخاصة من عبث المتطفلين وتدخل الفضوليين الذين يندفعون كالسيل الجارف الذي يحطم كل سدود الخصوصيات و أسوار الشؤون الشخصية كي ينتهكوها ويدخلوا حصونها ومن ثم يسحقوها بأقدامهم الهمجية ؛ فهؤلاء لهم رغباتٌ عجيبةٌ و دوافعٌ غريبةٌ تدفعهم قسرا لاقتحام حياة الآخرين واستطلاع أحوالهم واكتشاف أسرارهم ,وهذا النوع من الناس مصاب بداء الفضول وفايروس التطفل , وبالتالي أصبحت عقولهم لا تعي وأذهانهم لا تستوعب حقيقة هذه الصفة الأخلاقية الحقيرة والظاهرة الاجتماعية المنحطة ويتعاملون معها على أنها ظاهرة طبيعية وصفة غير مرضية ,دون ان يدركوا أنها اعتداء صارخٌ وانتهاك فاضحٌ لحريات الآخرين وحقوقهم ؛ فالفضولي عندما يكتشف أسرار الناس ويطلع على احوالهم الخاصة فأنه يتسبب في هدر كرامتهم وجرح شعورهم وتهديد حياتهم وأمنهم ؛ من هذا تعلم بأن شر الناس من تطفل على حياة الناس , فالمتطفلون تفكيرهم محدود ومنغلق و لا يشعرون بالقيم الأخلاقية المعاصرة ولا يستشعرون المبادئ الإنسانية الراقية ولا يتماشون مع التطور والتمدن والتقدم الحاصل في المسيرة البشرية الصاعدة ؛ فهم في واد والحضارة والرقي الأخلاقي في واد أخر, وهؤلاء لا يحترمون القيم الأخلاقية والمثل الإنسانية ويعتبرونها مجرد شعارات فارغة لاقيمة لها ولا وزن , ونظرتهم الشاذة هذه نابعة من جهلهم بالحقيقة الآتية : (( حريتنا ينبغي أن تنتهي عندما تبدأ حرية الآخرين , وان التعامل مع الغير له ضوابط شرعية و قانونية وأخلاقية يجب الالتزام و التقيد بها ؛ كي ينعم المجتمع بالسعادة والوئام والسلام )) 0
وقد عرف أهل اللغة الفضول بما يلي :
الفضول : ما لا فائدة فيه , يقال : هذا من فضول القول 0
والفضولي : هو الذي يتعرض لشؤون الغير ويتدخل فيما لا يعنيه 0
والبعض يسميه في لهجتنا العامية ب (( ملطلط )) وفي مصر يسمى ب ((الحشري )) 0
وعرفوا المتطفل بما يلي :
طفل الرجل و تطفل : صار طفيليا 0
والطفيلي : هو الذي يغشى الولائم والأعراس والمجالس العامة ونحوها من غير أن يدعى إليها 0
ويقال : انه منسوب إلى (( طفيل )) وهو رجلٌ من أهل الكوفة من بني عبدالله بن غطفان كان يأتي الأعراس والولائم ونحوها , ولا يقعد عن وليمة ولا يتخلف عن عرس ؛ فنسب إليه كل من يفعل فعله 0
مما سبق نتعرف على الفرق الشاسع بين الفضول وحب التطفل على حياة الآخرين وحب الاستطلاع بهدف التعلم وكشف الحقائق العلمية وتفحص الوقائع والأحداث الخارجية وفهم السلوك البشري فهما يختلفان اختلافا جذريا – شتان ما بين الأمرين – فالبحث العلمي والدراسات النفسية والاجتماعية شيء والتطفل على حياة الآخرين والتدخل في شؤونهم التي لا تمت الينا بصلة ولا تعنينا البتة شيءٌ اخر0
إن احترام خصوصية الإنسان من أهم المبادئ الأخلاقية التي يجب الالتزام بها , اذ يعبر هذا الالتزام عن مدى تحضر الفرد ويعكس طبيعة قيمه في الحياة ويكشف عن مستوى البيئة التي خرج منها وتعلم فيها 0
الفضوليون يعطون لأنفسهم الحق في تتبع خطوات الناس ومعرفة أحوالهم والتدخل في شؤونهم وقد يمارسون تطفلهم المريض باسم الدين أو القرابة أو الجوار أو الصداقة أو الزمالة في الدراسة اوالعمل او غيرها من الاعذار الواهية والمسوغات الباطلة …
بسبب هؤلاء التعساء أصبحت مجالسنا وتجمعاتنا عبارة عن فضول وتطفل وغيبة وبهتان وافتراء وهمز ولمز وتنمر … مما جعل المثقفين والمتحضرين والمهذبين يضيقون ذرعا بهذه الظاهرة الجهنمية ويشعرون بالحنق والجزع من تطفل هؤلاء مما دفع بعضهم إلى الهجرة إلى البلاد المتحضرة التي تختفي فيها هذه الظاهرة الاجتماعية السخيفة !!
والباقون منهم يتجرعون العيش في هذا التجمعات الاجتماعية على مضض فهم كالقابض على جمرة من نار…
أمرآة طلقت و عزفت عن الزواج لأسباب هي أعلم بها من الناس … انهالت عليها الأسئلة من كل حدب وصوب , حتى الصبيان سألوها … و وصلها كمٌ هائلٌ من الرسائل و((المسجات )) على جهازها النقال ((الموبايل )) كلها تسأل عن سبب الطلاق ولماذا حدث في هذا الوقت … فأصبحت تعاني الأمرين ألم الطلاق وعذاب الفضول والتطفل عليها ومضايقتها بالأسئلة التافهة والمحرجة ؛ مما دفعها إلى تغيير محل ولادتها وصباها والانتقال إلى منطقة أخرى علها ترتاح من تدخل الفضوليين في حياتها 0
هؤلاء كالطفيليات التي تعتاش على الكائنات الحية الأخرى والتي تفتك بها ببطء وتشوه أجسامها , فهم يعيشون على التطفل والتدخل في شؤون الناس ويتنفسون الفضول والقيل والقال والغيبة … ؛ وقد جاء عن الإمام علي ما يؤكد ذلك : (( الغيبة ربيع اللئام )) ؛ القيل والقال والفضول وذكر الناس بالسوء يمثل متعة ما بعدها متعة بالنسبة للئيم ؛ فالتطفل والفضول لدى هؤلاء الشاذين كالربيع للأصحاء الأسوياء يتنعمون بالغيبة والقيل والقال كما يتنعم ويلتذ الإنسان السوي السليم بأريج الزهور وعطر الياسمين وزخات المطر و نسيم رياح الشمال العليل في فصل الربيع 0
الفضولي يحاصر جاره وصديقه وقريبه و زميله … بفضوله وتطفله وتدخله وأسئلته التي لا تنتهي ولا تقف عند حد معين ؛فحينما يخرج جاره برفقة عائلته لأمر ما , يأتي الفضولي إليه بسرعة البرق الخاطف ليسأله : (( راشده )) (( وين رايحين )) (( اين ذاهب )) (( أش عدكم طالعين هسه )) من دون مراعاة لخصوصية جاره أو احترام لشؤونه الخاصة … أما عندما يشاهد الفضولي مناسبة ما في بيت جاره ويرى أصدقاء وأقرباء جاره يدخلون ويخرجون … ؛ لا يصبر ولا يقدر على كبح جماح فضوله فيأتي مسرعا ليسأل جاره : (( شكو عدكم )) (( شنو المناسبة عدكم )) (( ليش ما عزمتنه ليش ما دعيتنه )) (( من صاحب هذه السيارة المرسيدس الواقفة امام بيتك ؟ )) مما يضطر الجار المسكين المبتلى إلى الإجابة عن هذه الأسئلة التافهة والسخيفة وتقديم كشف بكل نشاطاته ومناسباته العائلية والشخصية وتفاصيل حياته كي يسلم من إلحاحه وتطفله المقرف .
اعلم عزيزي ان سؤالك عن ما لا يعنيك وتدخلك في شؤون الغير يعد تصرفا مذموما وفعلا قبيحا وسلوكا شاذا ؛ لأنك بتطفلك وفضولك وأسئلتك الكثيرة مضيعٌ لوقتك مضافا إلى تضييع وقت غيرك , وأي جريمة أكبر من هدر الوقت الذي هو رأسمال الإنسان في هذه الحياة القصيرة , ناهيك عن الإضرار الأخرى كما هو الحال في بعض الأسئلة المحرجة والصعبة ؛ فمثلا : لو سألت غيرك عن عبادته , كأن تسأله : هل أنت تصلي صلاة الليل وتصوم المستحب ؟
فان قال : نعم , كان مظهرا عبادته , فيدخل عليه الرياء أو العجب … , وان لم يدخل…, قل ثواب عبادته لان عبادة السر أكثر ثوابا من عبادة العلانية – وفق رأي علماء الإسلام – , وان قال : لا , كان كاذبا , وان سكت ؛ كان مستحقرا إياك وتأذيت به , وان احتال في دفع سؤالك أفتقر إلى حيلة وتعب وجهد و وقت…
وكذا سؤالك عن كل ما يكتم لأسباب شخصية أو أمنية أو غيرهما , أو سؤالك عن ما يستحى من إظهاره كأن تسأله عن زوجته اوعن ممارساته الجنسية ؛ ومن قبيل الأسئلة المحرجة , سؤالك غيرك : كم ثروتك ؟ أو في الأجهزة الأمنية تعمل ؟ أو من هي حبيبتك ؟ أو ما هي أسرار مهنتك ؟ وغيرها … ؛ إن جميع هذه الأسئلة وأمثالها , مع كونها من فضول الكلام ومن صميم التطفل والخوض فيما لا يعنينا , تتضمن – أيضا – الإضرار والإيذاء والإحراج والتضييق على الآخرين مضافا لارتكاب الاخطاء والعبث بالأمن والسلام …
وقد استفاضت النصوص الدينية في تراثنا بالتحذير من هذه الظاهرة السلبية و زجرت مرتكبها ونهت عنها و وبخت صاحبها و توعدته بالعقاب , وهذه نبذة منها :
فقد روي : (( أنه استشهد يوم أحد غلام من أصحاب النبي و وجد على بطنه حجر مربوط من الجوع , فمسحت أمه التراب عن وجهه , وقالت : هنيئا لك الجنة يا بني !
فقال النبي : وما يدريك ؟ لعله كان يتكلم فيما لا يعنيه , … )) نفهم من هذا النص إن مفهوم الشهادة في سبيل الله والحصول على ثوابه الجزيل لا يتحقق مع الاتصاف بالفضول , فالفضيلة ضدٌ للرذيلة والضدان لا يجتمعان كما قيل قديما , إذ أن الشهيد السعيد من ترك الفضول وهجر التطفل , والخاسر والفاشل من أتصف بهما وان جاء إلى الله مضرجا بدمائه !!
وأيضا جاء عن الإمام علي ما يؤكد ذلك : (( من أشرف أفعال الكريم غفلته عما يعلم )) فالكرم من أرقى الصفات ومن اجمل الشمائل ؛ الكريم رجلٌ جميلٌ , وأجمل ما فيه غض الطرف عن عورات الناس والتغافل عن عيوبهم وترك تتبعها ؛ إما اللئيم فهو الذي يتجسس على الناس وينشر أخبارهم ويذيع مساوئهم ويتكلم عن عيوبهم , إذ أن المعلومة عنده كالرصاصة يوجهها إلى صدور الناس المسالمين , بل إن الفضول والتدخل في شؤون الغير أشد فتكا من حر الرصاص وبطش السيوف , فما أكثر الهلكى بسبب الفضول والتدخل فيما لا يعنيهم , ولا عجب في ذلك إذ أن الفضول أس الشرور وجذر الأضرار ومفتاح المشاكل وأم الرذائل فكأن الفضول أصل والرذائل فروعٌ له , بل هو الرذائل نفسها , وإنما يأتي في أشكال مختلفة ويتمثل في صور متنوعة 0
وجاء عن النبي أيضا : (( انه قال ذات يوم : أن أول من يدخل من هذا الباب رجل من أهل الجنة , فلما دخل هذا الرجل , قالوا له : اخبرنا بأوثق عملك في نفسك ترجو به , فقال : إني رجل ضعيف العمل , وأوثق ما ارجو ما أرجو الله به سلامة الصدر وترك ما لا يعنيني ))
يرشدنا هذا النص إلى حقيقة دينية مفادها : ان الفوز بالجنة والتنعم في رياض الخلد يتوقف على أمرين هما :
1- سلامة الصدر من الأحقاد والإضغان والحسد 0
2- ترك الفضول والتطفل والخوض فيما لا يعنينا 0
أعزائي , أخوتي في التاريخ والمصير و الوطن , بادروا إلى شراء الجنة الحقيقية والسعادة الأبدية بترك الفضول والتطفل والتدخل في حياة الآخرين , ما أسهل الثمن وما أعظم المثمن !!
ولعل النصوص الدينية التي وردت في مدح الصمت والحث عليه – والتي حفل بها تراثنا – ؛ كانت ناظرة إلى الفضوليين والمتطفلين والثرثارين والمتكلمين فيما لايعنيهم , فقد ورد عن النبي انه قال لأبي ذر : ((ألا أعلمك بعمل خفيف على البدن ثقيل في الميزان , قال : بلى يا رسول الله , قال : هو الصمت , وحسن الخلق , وترك ما لا يعنيك )) ؛ اذن ترك الفضول يؤدي إلى الجنة والرضوان , فها هو النبي محمد يمتدح ترك الفضول بل يعده من أفضل الأعمال وأثقلها في الميزان , ولا ريب في ذلك إذ أن ترك الفضول والخوض فيما لا يعنينا يدل على حسن التدين والإسلام وسلامة العقيدة والإيمان ؛ فقد ورد ما يؤكد ذلك عن النبي : (( من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه )) 0
وقد ورد أيضا : (( أن لقمان دخل على داود وهو يسرد الدرع , ولم يكن قد رآها من قبل , فجعل يتعجب مما يرى , فأراد أن يسأله عن ذلك فمنعته الحكمة , فأمسك لسانه ولم يسأله , فلما فرغ داود , قام ولبسها , وقال : نعم الدرع للحرب !
فقال لقمان : الصمت حكم وقليلٌ فاعله )) 0
وقيل للقمان : ((ما حكمتك ؟ قال : لا أسأل عما كفيت , ولا أتكلف ما لا يعنيني )) وغيرها كثير, فالنصوص الدينية التي وردت في مدح فضيلة الصمت وذم صفة الفضول والتطفل أكثر من تحصى ؛ خذ مثلا هذه الباقة الجميلة من الحكم التي تدل على ما ذكرناه آنفا , فقد ورد عن الإمام علي : (( بكثرة الصمت تكون الهيبة )) (( الرأي بتحصين الأسرار )) (( من كتم سره كانت الخيرة بيده )) نعم بالصمت يرتاح اللسان ويسلم الإنسان , وبالكتمان تقضى الحوائج وتنجز الأعمال, وبدفن الاسرارينجوا الأخيار من كيد الأشرار, فلكل شخص خصوصيات وأسرار لا يكشفها لأقرب الناس إليه ولا يحب أن يطلع عليها أحد , ولا يرغب أن يسأل عنها من قبل الغير0
الشخص الذي يسترق السمع لالتقاط معلومات عن الآخرين , أو يدقق بالنظر ويجول بالبصر لعله يظفر بما تهواه نفسه المريضة من مناظر تكشف عن عورات وخصوصيات الناس, أو يكثر بالسؤال عن الآخرين , أو يراقب الناس في ذهابهم وإيابهم ؛هو شخصٌ شاذٌ ومتطفلٌ وفضوليٌ ولا يملك شيئا من الأدب والذوق ؛ وقد شرعت بحق هؤلاء الشاذين في الدول المتحضرة قوانينٌ صارمةٌ تردعهم وتحذرهم من الفضول والتدخل في شؤون الآخرين , أو محاولة إزعاجهم أو تضييق حرياتهم الشخصية من خلال تطفل الفضوليين , والذي يمارس التطفل من هؤلاء يعرض نفسه للمسألة القانونية 0
الإنسان المتحضر في هذا العصر يريد العيش بسلام و وئام مع الآخرين , ويحب ممارسة أعماله وهواياته بهدوء ومن دون تدخل وتطفل الآخرين , إذ إن التطفل في الوقت الراهن يتسبب في عرقلة حياة الغير وتشويش برامجهم اليومية ,و بعض الفضوليين يتطفلون بحجة النصيحة او السؤال عن أوضاع وأخبار زيد أو عمر وهي حجة واهية ولا تصلح مبررا لانتهاك خصوصيات الناس بل لعل العكس هو الصحيح فسؤاله عن غيره نابعا من فضوله وتطفله بل حسده وحقده وغيرته لذا ورد في الأمثال العراقية العامية ما يؤكد ذلك : (( العدو ينشد أكثر من الصديق )) 0
التطفل آفةٌ من آفات النفس البشرية ومرضٌ من أمراضها ؛ يدفع صاحبه قسرا لاكتشاف أسرار الناس و استطلاع أحوالهم , ومن ثم الثرثرة والتحدث بها امام كل من هب ودب مما يؤدي إلى هتك حرمات الناس وجرح كراماتهم وفضحهم والتشهير بهم… , والعجيب من أمر الفضولي انه قد يزعل وينزعج من الأشخاص الذين يزجروه عن التدخل في شؤونهم أو إذا لم يجيبوا على أسئلته المزعجة ؛ فتراه يزعل من هذا ويعاتب ذاك ويغضب على هؤلاء ويقاطع أولئك لا لذنب ارتكبوه أو جريمة اقترفوها سوى رفضهم التطفل وشجبهم التدخل في شؤونهم الخاصة ؛ فالمتطفل يعتقد خاطئا أن الفضول والتطفل حقٌ من حقوقه وما هو إلا أمرا طبيعيا لا يستوجب كل هذه الضجة والرفض , ولا يعلم بأنه مرضٌ وبيلٌ وسلوكٌ خطيرٌ يهدد استقراره واستقرار الآخرين ويعصف بالسلام والوئام ويهدم صروح السعادة الاجتماعية والحياة الشخصية 0
المتطفل حواسه كلها مستنفرة , وشخصيته مضطربة , أبعد شيء عنه الهدوء والاستقرار, لذا تراه يلتفت يمينا ويسارا لعله يحظى بشيء ما من خلال نظراته الحادة والوقحة , ناهيك عن لسانه الذي لا يكل ولا يمل من كثرة الأسئلة والفضول والثرثرة , والطرق السيئة التي يسلكها للتدخل في حياة الناس , فهو يحضر المجالس من دون دعوة , ويتكلم ويحاور ويسأل بالرغم من أنوف الآخرين , أما آذانه ومسامعه فهي مرهفة وموجهة ومستعدة لالتقاط ما يتلفظ به الناس ويبوحون به بعضهم لبعض كالهوائي الذي يلتقط موجات و ذبذبات الأثير , فضلا عن حركته الدائبة في تفتيش حاجيات الغير وتصفح أوراقهم الخاصة وقراءة رسائلهم ومحاولة معرفة كل صغيرة وكبيرة عنهم من خلال التلصص والتجسس 0
احذروا من الفضولي والمتطفل الذي طالما يصادفكم في العمل أو المدرسة أو الشارع أو المنتدى… , أكبحوا جماح فضوله و أوقفوه عند حده , فهذه الصفة تدل على رعونة وتخلف وهمجية صاحبها , فإذا شاهدتموه أنصحوه وحذروه من مساوئ وأضرار التطفل ومشاكل التدخل في شؤون الغير , وعلموه على تقديس فضيلة (( احترام الخصوصية )) إذ إن لخصوصيات الناس حرمة يجب أن تصان وتحفظ في كافة الظروف والحالات ولا تهتك تحت أي عذر أو مسوغ ؛ وقد جاء عن الإمام علي ما يؤكد ذلك : (( إن من تجرأ لك فقد تجرأ عليك )) , وقولوا له : ان الفضولي مكروه ومنبوذ وغير محترم من قبل المثقفين والمتحضرين وأصحاب الأخلاق الحميدة بل من أغلب الناس 0
الفضول صفةٌ ذميمةٌ وظاهرةٌ سلبيةٌ تحتاج إلى علاج وضبط كباقي الأمراض النفسية والاجتماعية , ينبغي أن توجه بالصورة المقبولة وبالشكل المفيد حتى يمكن توظيفها وتوجيهها نحو الفائدة العلمية وحب الاستطلاع الثقافي والتدخل الايجابي في الشأن العام ؛ اذ ليس كل شيء من حقنا الاطلاع عليه والتحدث به , فللحرية حدود وضوابط 0
للفضول والتطفل والتدخل في شؤون الناس أسبابٌ كثيرةٌ منها :
1- الاعتقاد بعقيدة أو فكرة ما تسمح لمعتنقها والمقتنع بها ؛ بالتدخل في حياة الناس وتتبع أحوالهم وكشف خصوصياتهم ؛ كالفهم الخاطئ لعقيدة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من قبل بعض المتدينين السذج , أو كالاعتقاد ببعض الأفكار السياسية المتطرفة التي تسوغ لأتباعها التدخل في حياة الناس وهتك حرماتهم وفضح أسرارهم باسم : الحفاظ على مكاسب الثورة أو الحزب الواحد أو أمن الدولة القومي …!! وما إلى ذلك من أفكار ونظريات أيدولوجية معينة تسمح لأصحابها بالتطفل على حياة الغير والاطلاع على شؤونهم الخاصة متسترين بهذه الحجج الواهية والمبادئ الخاوية والشعارات السخيفة… .
2- وقد يكون الدافع والسبب لمجرد التسلية وقضاء الوقت الفارغ بالقيل والقال وحب الاطلاع على أسرار وخصوصيات الغير ؛ لان أغلب المتطفلين والفضوليين هم من العاطلين والفاشلين الذين لا عمل لهم ولا هم سوى التسلي بذكر أخبار الناس والاستئناس بكشف فضائحهم وعوراتهم وخصوصياتهم 0
3- أو لأجل الاستفادة من المعلومات والأسرار التي تخص الغير ؛ بغية السيطرة عليهم أو إلحاق الأذى بهم من خلال ابتزازهم ؛ كما يصنع بعض رجال الأمن والمخابرات والعصابات ببعض المواطنين الأبرياء ,فهؤلاء يمثل لهم الفضول مهنةٌ يرتزقون منها 0
4- أو لأجل استعراض العضلات وبيان القدرات التي يحاول إظهارها المتطفل للآخرين من خلال التدخل في شؤونهم ومشاكلهم الخاصة , فهو يطرح نفسه كوسيط بين الاطراف المتنازعة ((حلال مشاكل أو خير أو حكيم أو صاحب غيرة وحمية وغيرها من الأسماء والألقاب )) ؛ والهدف من ذلك كسب الوجاهة الاجتماعية والصيت بين بسطاء الناس ؛ والحال أن تطفل الفضولي في شؤون غيره يزيد الطين بلة , وتدخله فيما لا يعنيه , وحشر أنفه في حياة غيره هو أس المشاكل الاجتماعية فطالما تفاقمت الأزمات وأشتدت المواجهات بسبب تدخل الفضوليون وأصحاب القيل والقال , والفضول والتدخل الذي لا يكون في محله المناسب – كما هو الغالب – يلحق الأذى والضرر بالمتطفل والمتطفل عليه معا ؛ لذا ورد في الأمثال : (( من تدخل فيما لا يعنيه لقي ما لا يرضيه )) و (( من تدخل فيما لا يعنيه سمع ما لا يرضيه )) و (( من راقب الناس مات هما )) أذ أن تدخل الغير لن يحل المشكلة بل سيزيدها تعقيدا , فاذا كنت تبحث عن الاستقرار والهدوء والدفء حاول قدر الامكان ابعاد الاخرين عن التدخل بشكل مباشر أو غير مباشر في شؤونك الشخصية , وقد أثبتت الدراسات الاجتماعية حول مشكلة الطلاق أن نسبة لا بأس بها من الازواج ينفصلون عن بعضهم البعض بسبب تدخل الاهل وتطفل الاصدقاء ؛ فتدخل هؤلاء يزيد الانقسام والتوتر , فاذا أردت سد الشرخ و رأب الصدع أعتمد على قدراتك الذاتية و تحاشى تدخل الفضوليين في حياتك ,فقلما نشر شخص مشاكله بين الناس و وجد الحل 0
5- أو بسبب نزعة الفضول القوية , فالبعض يحاول أن يعرف كل شيء عن كل شيء في المدرسة أو المعمل أو الشارع أو الحي أو السوق … , فهو يريد أن يلعب دور المختار , إذ هو يعتقد أن أهمية المرء و وجاهته في المجتمع تكمن بمعرفته واطلاعه على شؤون و أحوال الناس ؛ فتراه يعمل ليل نهار على فك شفرات حياة زيد أو عمر مثله مثل الذي يهوى فك الكلمات المتقاطعة في الجرائد ؛ فهؤلاء الذين يكثرون من التدخل في شؤون الاخرين يتصفون بالخصائص النفسية التالية :
– لديهم دوافع لاشعورية (( أو مكبوتة )) كالحاجة الى الانتماء والتقدير الاجتماعي 0
– الشعور بالنقص والفشل في التعويض 0
– الرغبة اللاشعورية بالمنزلة والتفوق والسيطرة 0
– فرض حاجاتهم على الاخرين 0
– عدم قدرتهم على التمييز بين الأشياء التي تنتمي اليهم وما ينتمي للاخرين في المجتمع 0
– بالإضافة الى وجود مفهوم سالب للذات 0
6- يكثر الفضوليون والمتطفلون في المجتمعات والبيئات التي يتصف افرادها بالضعف والاتكالية والاعتماد على الغير في حل مشاكلهم , وعدم النضج الاجتماعي والنفسي ,فهؤلاء يقبلون بتدخل الآخرين بل يهرعون للفضوليين للتدخل في حياتهم الشخصية عندما تواجههم الأزمات وتمر بهم الأحداث الجسام بل والتافهة أيضا ؛ وذلك لضعف نفوسهم وقلة خبرتهم وثقافتهم واضطراب شخصياتهم ؛ مما يشكل دافعا قويا للفضوليين في التدخل والتطفل على كافة الناس قياسا بأولئك الاتكاليين ضعاف النفوس الذين يستنجدون بالمتطفلين عندما تداهمهم الخطوب وتحاصرهم النوائب ؛ اما الاشخاص الذين يقبلون بتدخل الاخرين في شؤونهم فهم يتصفون بما يلي :
– الاعتماد على الغير 0
– الجوع الاجتماعي – اللاشعوري – الذي يجعلهم يضحون بمطالبهم الخاصة للحصول على القبول أو التقبل الاجتماعي 0
– الحاجة للامن النفسي 0
– عدم النضج الانفعالي 0
7- ومن الأسباب الرئيسة أيضا , انحطاط المستوى الأخلاقي , وانحدار المستوى الحضاري والثقافي والعلمي ؛ ومن أهم العلاجات الناجعة للتطفل والفضول رفع المستوى العلمي والثقافي للفضولي والمتطفل وهذا الأمر يقع على عاتق المؤسسات التربوية والتعليمية والثقافية والدينية ,إذ أن الفضولي بعد دخوله هذه الدورات التربوية يقلع عن الفضول لا محالة 0
8- ومن الأسباب أيضا , السذاجة ,فكأنما السذاجة تساوي الفضول والتطفل والثرثرة وما إلى ذلك … , فالسذج البسطاء يثرثرون كثيرا ويتدخلون في شؤون الغير ويخوضون فيما لا يعنيهم ويتكلمون بمناسبة ومن دونها 0
9- ومن أسباب التطفل والفضول والتدخل في حياة الناس ومراقبة الخارج والداخل والثرثرة والقيل والقال… , البطالة ؛ وقد جاء في الأمثال : (( رأس الكسلان معمل الشيطان )) فالكسل والبطالة سبب لكل شر وفشل وحقارة , إذ أن العمل شرف وايما شرف , فهو يدفع العامل للإنتاج والإبداع والبناء … , فليس لديه وقت للقيل والقال 0
سيداتي سادتي أتركوا الفضول , ولا تتطفلوا على حياة الآخرين ؛ لأنه يسبب الألم والحرج ويهتك خصوصيات الناس , احترموا الحياة الشخصية والخصوصية للإنسان , فاحترام الخصوصيات من أعظم المبادئ الأخلاقية والقيم الإنسانية , وهي مزية المثقفين وصفة المهذبين وشعار الناجحين والسعداء… , فلا تحولوا خصوصيات الأشخاص إلى مزاد يقبل عليه كل من أقتات على الفضول وعاش على التطفل , لا تجعلوا قيمة احترام الخصوصية تتضاءل امام فضول مجتمعنا العراقي ورغبة أبنائه في تتبع أحوال الناس والعبث بأسرارهم , فلا تهدروا هذه القيمة الحضارية السامية ؛ كأننا تتدخلوا في حياة الأصدقاء بحجة النصيحة والصداقة إذ أن للنصح والتوجيه حدود وآداب وأعراف ينبغي الالتزام بها وعدم تجاوزها وجعلها خلف الظهر ؛ فحينما نتجاوز تلك الحدود يصبح تدخلنا محرما وممنوعا لأننا اعتدينا على حرمة الصداقة ودخلنا مساحات في حياته الخاصة ليس من حقنا التعرف عليها , منتهكين قواعد الأدب والذوق , وقد جاء عن النبي محمد ما يؤكد ذلك : (( طوبى لمن شغله عيبه عن عيوب الناس )) ؛ فالإنسان الناجح هو الذي يبدأ بتهذيب نفسه ونصحها ويهتم بشؤونه ويحل مشاكله ويشخص عيوبه … , ابتعدوا عن التطفل وانبذوا الفضول لأنه يزعج الناس ويؤذيهم , لا تجعلوا الناس همكم الشاغل وتنسون أنفسكم وتغفلون عن مشاكلكم 0
أنا اعتقد اعتقادا لا ريب فيه أن الخطوة الأولى في سبيل النهوض والرقي , هجر هذه الصفات السيئة ومحاربة تلك الظواهر السلبية , ومن يخطو الخطوة الأولى ويضع الحجر الأول في بناء المجتمع السعيد , هو أفضل عامل وأشرف مواطن 0