
رياض سعد
اعلم اني لست منطقيا بما يكفي ؛ لأنني اطلب من الميت ان لا يموت , ومن الراحل ان لا يرحل , ومن الغائب ان لا يغيب ؛ ومن يطلب امور تخالف طبائع الاشياء وقوانين الكون والسماء ؛ لا يجني سوى خيبة الامل و وبال العاقبة .
سنين وسنين وانا ابحث عنه, وعندما اكتملت فرحتي برؤية هلاله البهيء , وانست روحي بقربه الجلي ؛ قرر الرحيل ومن دون اخباري برحيله المفاجئ الذي هد حيلي وكسر ظهري , وخلط اوراقي وبعثر احلامي وبدد آمالي , وعدت الى سخافاتي المعهودة وكررت السؤال الابله نفسه ؛ لماذا رحل , ولماذا يرحل الراحلون , ويسافر المسافرون ويموت الادميون …؟!
وكالعادة لم يجبني احد , ورجعت اجر اذيال الحيرة والذهول والشرود الذهني , وعاودت الكرة ولكن بصيغة مختلفة هذه المرة ؛ فقد ناشدت الكون ومهندسه الاعظم , لأني اعلم ان الراحل لا حول ولا قوة لديه ؛ وانما الامر بين الكاف والنون – كن فيكون – ومن بيده مقاليد الامور , راجيا منه , ان التقي بالحبيب الراحل مرة اخرى , في العالم الثامن وعند المجرة السحيقة الثامنة و في الساعة الثامنة بعد البليون ساعة ضوئية ؛ وذلك لأنني وكما اخبرني احد الدراويش والعرفاء قد جئت هذا العالم للمرة السابعة , وبما ان صاحبي رحل من هذا العالم وانا في الكرة السابعة من عمري الازلي السرمدي وحياتي الخالدة المتجددة ؛ فمن المنطقي ان اراه في الكرة او العودة الثامنة ؛ ولا ادري كم يستغرق ذلك من الوقت ؛ اذ اني واياه نحتاج الى ملايين السنين الضوئية للتحلل والتفسخ والاضمحلال ثم الصيرورة الحية التي قد تتشكل في هيئة بشرية او حيوانية او نباتية او ملائكية او طاقية او غيرها من الهيئات الكونية والصور الوجودية ؛ انها رحلة طويلة طويلة طويلة وقد تنسيني حبيبي وهنا تكمن المأساة الوجودية ؛ وتعرف معنى : (( وكل من عليها فان )) ولعل فناء الفقيد من ذاكرة الحي وعالمه المحسوس اشد مرارة من فناءه من عالم المادة الملموس .
وهنا انبثق في ذهني سؤال تفرع من السؤالين السابقين ؛ ان كنت انا واياه من الفانين في هذا العالم , وان كنا قد لا نلتقي في العالم الاخر بسبب اختلاف الكرات والمجرات والمسافات الزمنية الضوئية ؛ واختلاف الهيئات المستقبلية وتنوع السيرورات الوجودية ؛ فلماذا تعارفنا هنا اصلا ؟!
فما هو المعيار المنطقي والقاعدة العلمية في تعارف سين مع صاد , وتنافر عين من غين , سيجيب البعض : ان المعيار في ذلك هو العالم السابق الذي سبق عالمنا الشخصي هذا ؛ والذي يعبر عنه البعض بعالم الذر او المثل او النشأة الاولى , فالأرواح التي تعارفت هناك تعارفت هنا والتي تنافرت هناك تنافرت هنا ايضا , وهذا الامر يسري على مطلق الارواح وبغض النظر عن الصور والهيئات ؛ ولعل هذا الامر هو الذي يفسر لنا سبب انجذاب البعض منا الى هذا الحيوان او ذاك ؛ فقد ترقد فيه روح احد اسلافنا الغابرين او احبتنا الماضين او اخوتنا الراحلين .
وبعد ان عرفت تلك الحقائق المؤلمة عاودت المناداة بدعوتي الطوباوية وامنياتي الخيالية ؛ و صرت اطلب من الراحل ومن كل اعماق قلبي ان لا يرحل …؟!