
نزار حيدر
{إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ}.
يتجلَّى الفِهمُ في خطوتَينِ؛ الإِستيعابُ أَوَّلاً والقَبولُ أَو التبنِّي ثانياً {آمَنَ الرَّسُولُ بما أُنْزِلَ إلَيْهِ مِن رَبِّهِ والْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ باللَّهِ ومَلائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بيْنَ أحَدٍ مِن رُسُلِهِ وقالُوا سَمِعْنا وأَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وإلَيْكَ المَصِيرُ}.
والأَمرُ بحاجةٍ إِلى أَن يصدُقَ المرءُ مع نفسهِ في طلبِ العلمِ فيكُونُ سرَّهُ وعلانيتهُ مع نفسهِ واحدةٌ غَيرَ مُتناقِضتَينِ {وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ} فالتَّناقضُ والفَهمُ على طرَفَي نقيضٍ لأَنَّهُ يُسببُ الإِرباكِ وعدَمِ الإِستقرارِ.
والنَّاسُ على نَوعَينِ؛ الأَوَّل هو الذي يستوعِب الأَمر ويفهمَهُ ولكنَّهُ لا يتبنَّاهُ فلا يسعى لإِنجازهِ مثلاً أَو البناءِ عليهِ.
يقُولُ لكَ أَنَّ الفِكرةَ رائعةٌ ولكن [مَيفيد] أَو [من غَيرِ المُمكن] من دونِ أَن يُحاوِلَ مثلاً أَو يُجرِّب! فهوَ ينسِفَ إِمكانيَّتها ليتهرَّبَ من المسؤُوليَّة!.
أَمَّا الثَّاني فهوَ الذي يفهَم الأَمر ويستوعِبهُ ثمَّ يقبل بهِ ويبني عليهِ.
وكما هوَ واضحٌ فإِنَّ أَغلبيَّة النَّاس من النَّوع الأَول الذي يتفهَّم الأَمر مُجاملةً أَو خوفاً أَو خجلاً أَو حتَّى قناعةً فتراهُ يمدح الفكرة ويُثني على الرَّأي لكنهُ لا يخطو الخُطوة التَّالِية! وقليلٌ من النَّاسِ هُم الذينَ يفهمُون الأُمور بشكلٍ حقيقيٍّ ثمَّ يُبادرونَ للبناءِ عليها مَوقفٌ أَو مشروعٌ أَو ثناءٌ علنيٌّ [وذلكَ أَضعفُ الإِيمان].
ولقد ذكرَ القُرآن الكريم الكثير من قصَصِ الأُمم السَّالفة والأَنبياء والرُّسل {نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ} ولا نبالغُ إِذا قُلنا بأَنَّ جُلَّ النَّاسِ يفهمُونَ هذهِ القصَص ويستوعبُونها كأَحداثٍ ولكنَّ القليلَ جدّاً منهُم همُ الذينَ يفهمُونَها ويتبنَّونَ مفاهيمَها ودروسَها وتجاربَها ويبنُونَ عليها مَوقفاً شرعيّاً أَو إِجتماعيّاً أَو يُصحِّحُونَ سلوكيَّاتٍ وخُطَطٍ ومَشاريع.
ولذلكَ تُلاحظ أَنَّ الأَغلبيَّة يتعاملُونَ مع القرآن الكريم في هذا الجانبِ ككتابِ قَصص خاليةٌ من المَعاني والدُّروس والمنهجيَّات.
والسَّببُ كما نستشفَّهُ من قولِ أَميرِ المُؤمنِينَ (ع) {اعْقِلُوا الْخَبَرَ إِذَا سَمِعْتُمُوه عَقْلَ رِعَايَةٍ لَا عَقْلَ رِوَايَةٍ فَإِنَّ رُوَاةَ الْعِلْمِ كَثِيرٌ ورُعَاتَه قَلِيلٌ} هوَ أَنَّ جُلَّ النَّاس يتداولُونَ المعلُومة أَو المنهَج، بغضِّ النَّظر عن شكلِها وطبيعتِها، كرُواةٍ بطريقةِ النَّسخِ واللَّصقِ، وهو المرضُ الذي ابتُلينا بهِ اليَوم في زمنِ التَّكنلوجيا والعَولَمة، فقليلٌ من النَّاسِ هُم الذين يقفُونَ ويتوقَّفُونَ عندَ المعلُومةِ للتَّحقيقِ بها والتَّدقيقِ في خلفيَّتِها والتثبُّتِ من مصدرِها كَونَ المعلومة مسؤُوليَّة يتحمَّلَها المرءُ على أَيَّةِ حالٍ حتَّى إِذا كانَ ناقِلاً {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} فالمعيارُ عند العامَّة، وللأَسفِ، هو التَّسابق، أَيُّهم ينشرَها أَسرعُ من الآخرين؟!.
ومن خلالِ التَّجربةِ اليَوم تبيَّنَ أَنَّ تناقُلَ المعلُومة وانتشارَها كرِوايةٍ وليسَ كدِرايةٍ يُنتجُ التَّفاهةَ والسَّذاجةَ والسطحيَّةَ، وهي الحالةُ التي تنتشرُ في المُجتمعِ بشكلٍ مُرعبٍ ومُخيفٍ.
أَمَّا أَميرُ المُؤمنينَ (ع) فكتبَ لإِبنهِ الحسَن السِّبط (ع) يُعلِّمهُ [ويُعلِّمنا] كيفَ نقرأ الرِّواية خاصَّةً التي تحمِلُ لنا العِبَرَ والدُّروسَ والمواعِظَ والمناهِج.
يقُولُ (ع) {واعْرِضْ عَلَيْهِ [قلبكَ] أَخْبَارَ الْمَاضِينَ وذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَوَّلِينَ وسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وآثَارِهِمْ فَانْظُرْ فِيمَا فَعَلُوا وعَمَّا انْتَقَلُوا وأَيْنَ حَلُّوا ونَزَلُوا فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ قَدِ انْتَقَلُوا عَنِ الأَحِبَّةِ وحَلُّوا دِيَارَ الْغُرْبَةِ وكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيلٍ قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ فَأَصْلِحْ مَثواكَ ولَا تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ ودَعِ الْقَوْلَ فِيمَا لَا تَعْرِفُ والْخِطَابَ فِيمَا لَمْ تُكَلَّفْ وأَمْسِكْ عَنْ طَرِيقٍ إِذَا خِفْتَ ضَلَالَتَهُ فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلَالِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الأَهْوَالِ}.
السُّؤَال؛ كيفَ ومتى تكونُ هذه القَصص وكُلُّ قصَّةٍ درساً ومنهجاً وتجربةً؟!.
الذينَ يسعَونَ لاستيعابِ ذلكَ أَحدُ إِثنَينِ؛ فإِمَّا أَن يكونَ هوَ قادرٌ على الفَهمِ والإِستيعاب إِذا كانَ عندهُ قلبٌ يعقِل وعقلٌ يفهَم ويعي كما تقُولُ الآية الكريمة.
أَو أَن تكونَ لهُ أُذنٌ تصغي إِلى مَن عندهُ القُدرةَ على الفهمِ والإِستيعابِ، فيتعلَّمَ منهُ.
وإِلَّا فهوَ من [الهمجُ الرُّعاع] كما يُقسِّمهُم أَميرُ المُؤمنينَ (ع) في وصيَّتهِ لكُمَيل بن زيادٍ {يَا كُمَيْلَ بْنَ زِيَادٍ إِنَّ هَذِه الْقُلُوبَ أَوْعِيَةٌ فَخَيْرُهَا أَوْعَاهَا فَاحْفَظْ عَنِّي مَا أَقُولُ لَكَ؛ النَّاسُ ثَلَاثَةٌ، فَعَالِمٌ رَبَّانِيٌّ ومُتَعَلِّمٌ عَلَى سَبِيلِ نَجَاةٍ وهَمَجٌ رَعَاعٌ أَتْبَاعُ كُلِّ نَاعِقٍ يَمِيلُونَ مَعَ كُلِّ رِيحٍ لَمْ يَسْتَضِيئُوا بِنُورِ الْعِلْمِ ولَمْ يَلْجَئُوا إِلَى رُكْنٍ وَثِيقٍ}.
أَمَّا الذي لا يمتلِك القُدرة على الفِهمِ ويرفُض أَن يسخِّر أُذنَيهِ للإِصغاءِ إِلى العالِمِ في مجالهِ {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا} فهوَ يشبهُ إِلى حدٍّ بعيدٍ قولَ الله تعالى {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَّا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَّا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَّا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ}.
هذا النَّوع من النَّاسِ كمَن يمتلِكُ مالاً لكنَّهُ فقيرٌ ويمتلِكُ أُسرةً لكنَّهُ وحيدٌ ويمتلِكُ علماً لكنَّهُ جاهِلٌ، وهكذا.
لقد خلقَ الله تعالى أَعظم الحَواس وأَهم الأَدوات [القَلب السَّليم للفَهم والعَين للرُّؤية والأُذن للإِستماعِ والإِصغاءِ] ليبني بها المرءُ شخصيَّتهُ القائِمة على العلمِ والمعرفةِ وتوظيفِ الدُّروسِ والخِبرةِ المُتراكِمةِ {الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ومع ذلكَ فإِنَّ الكثيرَ من البشرِ عطَّلُوا هذهِ الحَواس فلم يعودُوا يفهمُوا أَو يستوعبُوا، عندما اعتمدُوا على غيرهِم للوُصُولِ إِلى النَّتائجِ {بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَىٰ أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَىٰ آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ} و {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُن مِّنَ الْوَاعِظِينَ* إِنْ هَٰذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ} و {قَالُوا أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ۖ فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ}.
٢٠٢٥/٣/٨