78

رياض سعد

يعتقد الجولاني ومَنْ لَفَّ لَفَّه من العملاء أن التصريحات المُدَلَّسة والمسرحيات المُفَبْرَكَةَ والادعاءات الكاذبة تَنطلي على الشعوب والنخب كما كانت في السابق؛ ولا يعلم أن هذه الأساليب العتيقة والأدوار الروتينية قد أكل الدهر عليها وشرب.

 وبعد أن راهنت القوى الطائفية والتكفيرية والإرهابية—ومِن وَرائها الأتراكُ والصهاينةُ والقطريون وغيرهم—على حسن أداء الجولاني وإتقانه للدور الجديد المُوكَل إليه، صُدِم العالم أجمع (بما فيهم بعضٌ من أنصاره وأتباعه ومؤيديه) عندما شاهدوا بأمِّ العين المجازرَ والجرائمَ الفظيعة التي ارتكبتها حكومةٌ (أو عصابةُ) الجولاني بحق السوريين العلويين في مدن الساحل.

وبعد أن فاحت رائحة انتهاكات عصاباته وانتشر خبر فظائعهم انتشارَ النار في الهشيم، وصار حديثَ الناس أجمعين… ؛ خرج الجولاني بدورٍ مسرحيٍّ لا يقلُّ سُخْفاً وتفاهةً عن أدواره الأخرى، إذ قال بكل برود : «ما يحصل في البلد هو تحديات متوقعة، لكن يجب أن نحافظ على الوحدة الوطنية والسلم الأهلي قدر المستطاع». 

يقرُّ الجولاني ويعترف بأن ما حصل كان متوقعاً وطبيعياً—وقد صدق في ذلك وهو الكذوب—فماذا يتوقع المرءُ من العصابات الإجرامية والفصائل الإرهابية والمرتزقة الأجانب غيرَ الذبح والنحر والقتل والتعذيب والتخريب والنهب والسلب والسرقة والتدمير والاغتصاب… إلخ؟!

إذ ذهبت شعاراتُهم أدراجَ الرياح، وغَلَبَ الطَّبْعُ التَّطَبُّعَ ؛ فمطالبةُ الذئاب بأن تكفَّ عن أكل لحوم الخراف يعد ضرباً من الجنون؛ لأنه مُخَالِفٌ للطبيعة. 

وإن كنا نعلم أن الجولاني—وكعادة القتلة—يُلقي باللائمة على المقتولين، فهو يقصد بذلك ردةَ فعل السوريين والعلويين (الذين يطلق عليهم تسميةُ “الفلول”، كما أطلق المجرم صدام من قبل على انتفاضة الشعب العراقي تسميةَ “الغوغاء”)، ليُبَرِّئ ساحةَ الذبَّاحين والمجرمين والقتلة الإرهابيين، ويعزي السببَ إلى المواطنين والمدنيين من السوريين والعلويين.

ويعتقد الجولاني أن تصريحاته الفانتازية هذه قد تكون حلاً وبَلْسَماً للمجازر والجرائم التي ارتُكِبَت بحق الطائفة العلوية، والتي راح ضحيتها الآلاف من الشيوخ والعجزة والمرضى والرجال والنساء والصبيان والصبايا والأطفال والرضع، فضلاً عن سرقة الممتلكات وحرق الدور والبيوت والسيارات… إلخ. 

ولا أدري ماذا يقصد بعبارته: «يجب أن نحافظ على الوحدة الوطنية»! وعن أي وحدةٍ يتكلم؟! وعلى مَن يقع هذا الوجوب : على الأطفال أم المجانين أم الطوائف والأقليات أم الأفراد العاديين والمواطنين البسطاء؟ أم هو من واجبات الحكومة؟ إذ إن حماية الوطن والحفاظ على وحدته وسيادته وأمنه من واجبات الحكومة ووظيفة الساسة والمسؤولين… ؛  فالمفروض بالجولاني أن يوجِّه هذا الخطاب لنفسه وحاشيته وحُماته  وحكومته لا غير.

وما هي أدوات الجولاني للحفاظ على الوحدة الوطنية؟ أن يحتكر السلطةَ بطيفٍ واحدٍ دون مشاركة سائر الطوائف والأعراق والجماعات، ويمنع الحقوقَ والامتيازات عنهم ويُحَصِّرها به وبجماعته فقط — بحجة رفض المحاصصة— أم من خلال وصف الشعب السوري من العلويين وغيرهم بالفلول والأسرى (كأنهم جاؤوا من دول أجنبية معادية)؟!

أم من خلال قطع رواتب العسكريين والموظفين وطردهم من الوظائف بحجة خدمتهم في نظام الأسد سابقاً… إلخ؟!! 

أعتقد أن الجولاني لو قصد بالوحدة “الوحدة المِلِّية” (الدينية) لا “الوحدة الوطنية” لأصاب كبدَ الحقيقة، ولَنَطَقَ بالصدف ولما زاغ عن الحق ؛  فالجولاني وعصاباته وجماعاته يجسدون الوحدة المِلِّية ؛ إذ تجد المصري مع الشيشاني، والليبي مع الأفغاني، والعراقي مع السوداني، والتركي مع القوقازي، والتركمانستاني مع السعودي – كلهم متحدون ضد السوريين – فالوحدة التي يقصدها الجولاني هي هذه الوحدة الهجينة (وليست الوطنية)، وقد عاشها مع أقرانه وأشباهه في العراق سابقاً، إذ اجتمعت 83 جنسية أجنبية لمحاربة العراقيين الأصلاء والمواطنين الأبرياء…!! 

وليت شعري: ماذا يعني بـ”المحافظة على السلم الأهلي”؟! وكيف يحافظ عليه؟ من خلال تسليط الأجانب والغرباء والدخلاء على المواطنين الأبرياء، أم من خلال السحق على جثث الأحياء والأموات؟! أم من خلال حرق القبور والمقامات واستمرار الجرائم والتجاوزات؟! أم من خلال نَبْز الأقليات بالخنازير والقردة والأنجاس والكفرة…؟! 

إن حديث الجولاني ومَنْ على شاكلته من الخونة والمرتزقة والعملاء عن الوحدة الوطنية والسلم الأهلي يعدُّ من زُخْرُف القول؛ فهو تناقضٌ واقعيٌّ خطيرٌ بين القيم النبيلة المُعْلَنَة والسلوك الإجرامي الفعلي… ؛ وهذا النوع من السلوكيات ليس نفاقاً أخلاقياً فحسب، بل قد يكون مدمراً للمجتمعات؛ لأنه يُضعف الثقة بين أفراد الشعب ويُهدد الاستقرار.

وها هي خطابات الجولاني التي تتحدث عن الوحدة والتلاحم الوطني—ما هي إلا شعارات خيالية لا تمت للواقع بصلة يستخدمها الجولاني لتحسين صورته وجذب التأييد المحلي والدولي ؛  فهو— وَالْخُبَرَاءُ يُدْرِكُونَ  — أَنَّ دَوْرَهُ يَنْحَصِرُ فِي الْعَمَلِ خُفْيَةً لِتَعْزِيزِ الْانْقِسَامَاتِ؛ إِمَّا بِالتَّحْرِشِ الطَّائِفِيِّ، أَوِ التَّفْرِقَةِ بَيْنَ الْمَنَاطِقِ، أَوْ تَفْضِيلِ جَمَاعَةٍ عَلَى أُخْرَى فِي تَوْزِيعِ الْمَوَارِدِ وَالْفُرَصِ… ؛ لِخَلْقِ مُجْتَمَعٍ مُفَكَّكٍ ضَعِيفٍ، حَيْثُ يَشْعُرُ النَّاسُ أَنَّ “الْوَحْدَةَ الْوَطَنِيَّةَ” وَ”السِّلْمَ الْأَهْلِيَّ” — فِي ظِلِّ حِرَابِ الْجَوْلَانِيِّ وَسُيُوفِ عَصَابَاتِهِ الْإِرْهَابِيَّةِ (الَّتِي تُسَمَّى زُورًا جِهَازَ الْأَمْنِ وَالْقُوَّاتِ الْعَسْكَرِيَّةَ وَالْجَيْشَ) — مَا هِيَ إِلَّا أَكْذُوبَةٌ تُخْفِي تَحْتَهَا صِرَاعَ السُّلْطَةِ، وَجَرَائِمَ الْفَصَائِلِ الْإِرْهَابِيَّةِ، وَالْمَصَالِحَ الضَّيِّقَةَ، وَالِارْتِبَاطَاتِ الْخَارِجِيَّةَ الْمَشْبُوهَةَ…! 

فَالْوَطَنِيَّةُ الْحَقِيقِيَّةُ تُقَاسُ بِالْإِنْجَازَاتِ وَالْمَؤَسَّسَاتِ الَّتِي تَخْدُمُ الصَّالِحَ الْعَامَّ، لَا بِالْخِطَابَاتِ وَالْعَصَابَاتِ. 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *