اسك الكاتب : بواسطة Joshua J. Mark، ترجم بواسطة Al-Hussain Al-Tahir
أطلق الإغريق على العراق القديم اسم «ميزوبوتاميا» نسبة إلى نهريه (دجلة والفرات)، وقصدوا بهذه التسمية العراقَ بحدوده الحديثة إضافة إلى مناطق تجاوره وتتبع إيران وسوريا وتركيا حاليًا، ومعنى ميزوبوتاميا هو «بلاد ما بين النهرين» التي قد تُسمى «بلاد الرافدين» أيضًا.
يُعد العراق القديم (ميزوبوتاميا، بلاد ما بين النهرين، بلاد الرافدين، وادي الرافدين) مهد الحضارة لكثرة الاختراعات والابتكارات الحضارية التي ظهرت فيه قبل غيره من البلاد منذ مطلع الألف العاشر قبل الميلاد حتى القرن السابع الميلادي، ففي العصر الحجري الحديث وقبل اختراع الفخار بدأ الناس بالاتجاه نحو الزراعة تاركين حياة الصيد وجمع الطعام فخلقوا أول تجمعات سكنية موسمية ما لبثت أن أصبحت دائمية خلال العصر الحجري الفخاري (نحو 7000 ق.م)، وقد كانت هذه التجمعات (القرى) هي أساس المدن الأولى التي بدأت بالظهور في العصر النحاسي (5900-3200 ق.م)، ويشتمل العصر النحاسي على حقبة العُبيد (5000-4100 ق.م) التي شهدت خلق الفنون المعقدة وصنع الأعمال الخزفية والأدوات النحاسية إضافة إلى بناء المعابد الأولى التي كانت على هيئة أبراج مدرّجة تُعرف باسم الزقورات يقوم على قمتها مقام الإله المقدّس.
تتداخل حقبة أوروك (4100-2900 ق.م) مع حقبة العبيد ومع العصر البرونزي المبكر (3000-2119 ق.م)، وفي أثنائها تطورت المدن والتجارة والحكومة ومفهوم ملكية الأرض الخاصة.
لم تكن المنطقة وحدة منفردة متماسكة سياسيًا حتى حين سيطرت الإمبراطوريات الأولى في العالم على جميع مدنها المتفرقة، وقد شجّع التنوع السكاني مخيلة العراقيين القدماء فأبدعوا في كل مجالات الحياة اليومية من الزراعة والتجارة إلى النظريات السياسية وفن الحرب، إضافة إلى استحداثهم صناعة الخبز والبيرة والتعويذات والأحجبة الجالبة للحظ الحسِن.
والخلاصة أن الكثير من النواحي المعتادة في حياتنا اليومية طوِّرت أولًا في العراق القديم، مثلها مثل معظم النماذج اللاهوتية والأنظمة السياسية.
لم يكن سكان العراق القديم متجانسون بل غلب عليهم التنوع حتى الفتح العربي الإسلامي في القرن السابع الميلادي، إذ فُرِض حينها نظام ديني رسمي اتَّبعه معظم السكان مثلما اتخذوا لهم عادات موحدة، وحتى هذا التجانس الظاهر لم يكن مطلقًا بل كان نسبيًا.
يُظهرُ باقي المقال هذا عشر حقائق تتعلق بالبلاد التي طالما أُهمِلت إنجازاتها وشوِّهت صورتها.
وطن الهلال الخصيب
الهلال الخصيب هو المنطقة التي تبدأ من جنوبي العراق وتنتهي في شمالي مصر متضمنة سوريا ولبنان والأردن وفلسطين، وهي على شكل هلال ويطلق عليها البعض تسمية مهد الحضارة لمنجزاتها الثقافية والتقنية التي تضمنت:
- التقنيات الزراعية
- تدجين الحيوانات
- التنجيم ورسم دائرة البروج
- مفهوم الوقت
- العلوم والتكنولوجيا
- العجلة
- الكتابة والأدب
- الدين
- الرياضيات وعلم الفلك
- تجارة المسافات البعيدة
- الممارسات الطبية (تشمل طب الأسنان)
وما هذا إلا غيض من فيض، أما تسمية الهلال الخصيب نفسها فكثيرًا ما تُنسب إلى العصور القديمة لكنها -في الواقع- لم تظهر إلا سنة 1916 م مع عالم المصريات جيمس هنري برستيد في كتابه الشهير «العصور القديمة: تاريخ العالم المبكر»، ولشعبية الكتاب انتشر استعمال مصطلح الهلال الخصيب حتى أصبح اسمًا للمنطقة في الوعي الثقافي المعاصر.
اختراع الكتابة والعجلة والمدينة
كان استحداث المدينة أحد أهم ابتكارات العراقيين القدماء، إذ لم تكن هذه الفكرة الشائعة اليوم موجودة قبلهم على الإطلاق
تطورت الكتابة بشكل مستقل في مناطق مختلفة من العالم تمتد من الصين حتى أمريكا الوسطى، لكن أول كتابة وجِدت أوجدها العراقيون قبل سنة 3000 ق.م، وهي التي نطلق عليها اليوم تسمية الكتابة المسمارية.
ابتُدِعت العجلة -مثلها مثل الكتابة- في العراق القديم أيضًا (نحو 3500 ق.م) على عكس ما يُشاع عن اختراعها في آسيا الوسطى، ويرجع تاريخ أقدم عجلة في العالم إلى نحو 3200 ق.م (تُعرف باسم عجلة مستنقعات ليوبليانا) وقد اكتُشِفت سنة 2002 م في سلوفينيا، الأمر الذي أدى إلى شيوع فكرة اختراع العجلة في آسيا الوسطى، لكن العجلة العراقية أقدم من ذلك كما يدل وجودها في الفن العراقي القديم السابق على سنة 3200 ق.م.
أما استحداث المدينة فيُعدُّ من أهم ابتكارات سكان بلاد الرافدين، وقد نختلف بشأن مدى منفعته لكننا نعلم أن المدن لم توجد قبل إنشاء العراقيين لها وأن فضل وجود مفهومها يرجع إليهم أولًا وأخيرًا، وقد تطورت المدينة من التجمعات السكانية الصغيرة خلال حقبة أوروك، إذ ازدهرت هذه التجمعات وجذبت من المناطق القريبة منها سكانها الذين ربما كانوا يعيشون عيشة أصعب.
أسبغت مدن بلاد ما بين النهرين الحماية على سكانها من النوائب والحيوانات المفترسة والمهاجمين، ووفرت لهم فرصًا جديدة لمعيشة أفضل، ومن هذا المنطلق كانت المدن في البداية مفيدةً جدًا لساكنيها إلا أن ازدحام الناس فيها -لاحقًا- وتوسعها أديا إلى نضوب الموارد المتوفرة في محيطها، حتى أن كثيرًا من المدن التي ظن الآثاريون أنها دُمِّرت بسبب الحروب هُجرت -في الواقع- لنضوب الموارد لا لسبب آخر.
أول حرب مدوّنة في السجلات
كان الماء أحد أهم الموارد في العراق القديم وكان هو على الأرجح سبب أول حرب مسجلة في التاريخ، فنحو سنة 2700 ق.م قاد ملك مدينة كيش السومرية «إين مي باراكي سي» شعبه في حملة عسكرية ضد بلاد عيلام (تقع في إيران الحديثة) فانتصر عليهم وحمل الغنائم عائدًا إلى العراق القديم، وهذا كل ما نعرفه عن تلك الحملة العسكرية لكن المُرجّح أن الخلاف بين البلدين بدأ بسبب حقوق الوصول إلى المياه.
كانت تلك الحرب مهمةً لسبب آخر أيضًا، إذ إنها كانت مثالًا على اتحاد دويلات المدن السومرية لخدمة هدف مشترك، فقد كانت تلك الدويلات -مثلها مثل دويلات المدن الإغريقية اللاحقة- تخوض الحروب فيما بينها لكنها -عندما يجد الجد- كانت تعمل معًا يدًا بيد لحماية مصالحها المُشتركة.
اختراع البيرة
كان تخمير البيرة من ضمن ما استعمل العراقيون القدماء الماء لأجله -وكان أهم استعمال للماء هو سقي المزروعات بالطبع- وقد عدّوا البيرة «شراب الآلهة» وجعلوا الإلهة نينكاسي مسؤولة عن عملية التخمير تضمن نقاوتها (جدير بالذكر أن شركة تخمير حالية في مدينة يوجين بولاية أوريغون الأمريكية استعارت اسمها من اسم هذه الإلهة).
كانت البيرة أكثر المشروبات شعبية في بلاد الرافدين، وباحتوائها على مواد مغذية مهمة اعتُبِرت طعامًا عند السكان واستُعملت لدفع أجور العمال (وحصل نفس الأمر في مصر لاحقًا)، ويُعلّق الباحث جيرمي بلاك بقوله:
«كانت البيرة أساسية في بلاد ما بين النهرين وما حولها منذ عصور ما قبل التاريخ، إذ كانت عملية التخمير فعالة في قتل البكتيريا والأمراض المنقولة بالماء، وقد سجّل الكتبةُ صناعة البيرة وتحكموا بها وتشهد بذلك أقدم السجلات المدوّنة؛ تلك التي كُتبت في نهايات الألفية الرابعة ق.م. واستهلك السكانُ البيرةَ بمختلف طبقاتهم الاجتماعية وقدّموها للآلهة وللأموات في طقوس إراقة الشراب» (ص 297)
حُفظت وصفة تخمير البيرة السومرية في «ترتيلة لننكاسي» التي يُعتقد أن العاملين في التخمير كانوا يغنونها أو ينشدونها في أثناء عملهم.
وطن أول أوائل
تقترن العديد من «الأوائل» بالعراق القديم وبسومر خصوصًا، وسطر الباحث صموئيل نوح كريمر 39 منها ثم ناقشها في كتابه المهم «التاريخ يبدأ من سومر»، وأدناه هي الأوائل التي تحدث عنها كريمر فقط رغم أن أوائل العراق القديم لا تقتصر عليها:
- أول مدرسة
- أول حالة مسجلة للتملّق والتزلّف
- أول قضية جنحة للأحداث (القاصرين)
- أول حرب أعصاب
- أول هيئة تشريعية ثنائية (بمجلسين: شيوخ وعموم)
- أول مؤرِّخ
- أول حالة تخفيض ضريبي
- أول «موسى»
- أول سابقة قانونية
- أول دستور للأدوية (أقرباذين)
- أول تقويم للفلاح (روزنامة زراعية)
- أول تجربة بستنة اعتمادًا على أشجار الظل
- أول نظرية في نشأة الكون وعلم الكونيات
- أول مُثُل عُليا أخلاقية
- أول «أيوب»
- أول أقوال وأمثال
- أول قصة خرافية تقوم ببطولتها الحيوانات
- أول مناظرات أدبية
- أول متشابهات مع الكتاب المقدس (متوازيات مع التوراة)
- أول «نوح»
- أول قصة قيامة (بعث)
- أول «قديس جورج» (مار جرجس)
- أول حالة انتحال أدبي
- أول عصر بطولي للإنسان
- أول أغنية حُب
- أول فهرس للمكتبات
- أول عصر ذهبي للإنسان
- أول مجتمع «مريض»
- أول رثاء طقوسي
- أول «مسحاء» (جمع مسيح)
- أول بطل عدو مسافات طويلة
- أول صورة مجازية في الأدب
- أول رمزية جنسية
- أول أُمٍّ محزونة (من أمثلتها: مريم العذراء)
- أول تهويدة (أغنية تغري الطفل بالنوم)
- أول وصف يرسم لوحة أدبية
- أول مرثية
- أول انتصار عمّالي
- أول حوض سمك (أكواريوم)
هذا ما ذكره كريمر، وهناك المزيد من الأوائل مما لم يذكره مثل أول طوق ورباط للكلاب وقد وجدناه ممثلًا في الفن العراقي القديم، ويبدو أن أطواق الكلاب أولًا لم تكن أكثر من حبال أو أشرطة جلدية تُحيط بأعناق الكلاب لكن بمرور الوقت وتقدم الحضارة أصبح شكلها أكثر زخرفة وتنميقًا، وقد أصبح طوق الكلاب شكلًا فنيًا كاملًا في وادي النيل إبّان عصر المملكة الحديثة (نحو 1570-1069 ق.م) حين زُيّنت الأطواق باسم الكلب واسم مالكه، لكن مفهوم طوق الكلب نفسه ظهر أولًا في وادي الرافدين.
أول إمبراطورية متعددة الأعراق
من «أوائل» العراق الأخرى إنشاء أول إمبراطورية متعددة القوميات في العالم، وهي الإمبراطورية الأكدية التي قامت سنة 2334 ق.م واستمرت حتى سنة 2083 ق.م [أو نحو 2150 ق.م – المترجم*] وأسسها سرجون الأكدي المعروف بسرجون العظيم (نحو 2334 -2279 ق.م).
لا يُعرف موقع العاصمة أكد لكن يتبين لنا من نقوش سرجون أن الإمبراطورية امتدت من الخليج العربي حتى جزيرة قبرص متضمنة ما يُعرف حاليًا بالكويت والأردن وسوريا وبلاد الشام عمومًا -على الأغلب- وأجزاء من آسيا الصغرى إضافة إلى العراق، وقد حافظ سرجون على سلامة إمبراطوريته بتعيينه الموظفين المؤتمنين والموظفات المؤتمنات في مواقع السلطة السياسية عبر المنطقة، وعُرف هؤلاء المسؤولون باسم «مواطني أكد» في النصوص البابلية اللاحقة، وقد عملوا حكامًا ورؤساء كهنة وشغلوا مواقع الإدارة العليا في أكثر من 65 مدينة مختلفة، وكانت إنخيدوانا (نحو 2285-2250 ق.م) ابنة سرجون واحدة من هؤلاء الموظفين الموثوقين، وقد شغلت منصب كاهنة »نانا« العليا في مدينة أور.
حرص سرجون على السيطرة على أرجاء إمبراطوريته دون أن يقمع شعبه أو يظلمه لكن ذلك لم يمنع الثورات من الاندلاع، إلا أن الإمبراطورية حافظت على تماسكها حتى انتهاء عهد أعظم ملوكها حفيد سرجون «نرام سين» (2261-2224 ق.م) [أو 2254-2218 ق.م] ثم بدأت أحوالها بالتدهور في عهد ابن نرام سين وخليفته «شار كالي شاري» (2223-2198 ق.م) [أو 2217-2193 ق.م] حتى سقطت بيد الكوتيين نحو 2083 ق.م [أو 2150 ق.م].
أول كاتبٍ معروفٍ بالاسم
لم تكن إنخدوانا (إنخيدوانا) هي الكاهنة العليا التي ساعدت في الحفاظ على إمبراطورية أبيها في سومر فحسب بل كانت شاعرة بارعة أيضًا وهي أول مؤلِّف يُعرف بالاسم في تاريخ العالم، وقد اشتهرت بتراتيلها الثلاث الموجهة إلى الإلهة إنانا: السيدة ذات القلب الأعظم، وتمجيد إنانا، وإلهة السلطات الرهيبة، إضافة إلى تأليفها 42 قصيدة تتعلق بمشاعرها الشخصية تجاه عدد من المواضيع المختلفة، ويقول الباحث ستيفن بيرتمان:
«توفر لنا التراتيل أسماء الآلهة المهمة التي عبدها العراقيون القدماء وتُعلِمنا بمواقع المعابد الرئيسية (لكن) الصلوات هي التي تعلّمنا عن الإنسانية لأن فيها نقابل الآمال والمخاوف التي تضج بها حياة الفانين اليومية» (172)
كانت قصائد إنخدوانا وتراتيلها شعبية جدًا وقد أثّرت في التراتيل والأناشيد والقصائد والمزامير اللاحقة، خصوصًا ما جاء منها في الكتاب المقدس – العهد القديم؛ فنشيد الأنشاد التوراتي متأثر بنظمِ إنخدوانا التي ما تزال أعمالها تُقرأ وتحوز مكانة عالية عند القراء حتى وقتنا الحاضر.
اختراع الأدب
لم يقتصر تأثير العراقيين القدماء على ظهور النصوص الشعائرية المقدسة للأديان اللاحقة بل تعداه إلى كثير غيره، فقد اخترع العراقي القديم الأدبَ نفسه منذ ملحمة كلكامش (كُتبت نحو 2150-1400 ق.م) التي تحكي قصة كلكامش؛ ملك أوروك نصف الأسطوري، ورحلته في البحث عن معنى الحياة مجابهًا الموت المحتوم.
انتقل هذا العمل الأدبي شفاهيًا قبل أن يُكتب على الألواح الطينية، وقد اعتقد المؤرخون -قبل اكتشاف كتابات إنخدوانا- أن أول مؤلِّف معروفٍ بالاسم في التاريخ هو الكاتب البابلي سين ليقي أونيني (1300-1000 ق.م) الذي كتب النسخة البابلية من ملحمة كلكامش.
ملحمة كلكامش هي قصة خيالية لكن كلكامش نفسه كان ملكًا حقيقيًا، والملحمة تمثل نوعًا أدبيًا عراقيًا يعرفه الباحثون باسم «نارو» وقد ظهر أولًا في الألفية الثانية قبل الميلاد، وهذا النوع من الأدب يجعل شخصية مشهورة -هي أحد الملوك عادةً- بطلًا في حكاية من وحي الخيال، وموضوع الحكاية هو العلاقة مع الآلهة في أحيانٍ كثيرة لكنه قد يكون أي موضوع آخر أيضًا.
أبرز أمثلة أدب النارو العراقي هي: ملحمة كلكامش، وأسطورة سرجون التي تحكي قصة الولادة المتواضعة لسرجون العظيم وارتقائه إلى سدة الحكم، ولعنة أكد التي تتناول الملك الأكدي نرام سين (نارام سين)، وكانت هذه القصص رائجة في مختلف أنحاء العراق القديم ومؤثرة في المؤلفين اللاحقين الذين قد يكون منهم كتبة قصة حياة المسيح ودعوته التي شكّلت الأناجيل في العهد الجديد (من الكتاب المقدس).
أساطير أصبحت قصصًا في الكتاب المقدس
ربما أثّر أدب النارو الرافديني مباشرة في تأليف الأناجيل، فطريقة التأليف متشابهة إذ وضع كُتّاب الأناجيل شخصية معروفة في مواقف ربما حدثت حقًا وربما كانت من وحي خيالهم، لكن المؤكد أن الأساطير العراقية القديمة أثّرت في الحكايات التوراتية التي تناولت سقوط الإنسان والطوفان العظيم وما جاء في سفر أيوب، فكلّ هذه القصص مقتبسة من أساطير بلاد الرافدين: أسطورة أدابا، وتكوين أريدو (أسطورة الخلق السومرية)، وملحمة أتراحاسيس، ولدلول بيل نميقي (لأمجدنّ رب الحكمة أو أيوب البابلي) التي تدور حول معاناة رَجلٍ طيبٍ طوارقَ زمانه وحول أسئلته عن عدالة الآلهة.
قبل منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، حين كانت المعاهد الأوربية والأمريكية تموّل البعثات الآثارية المتوجهة إلى العراق بغرض إيجاد دليل مادي يؤكد قصص التوراة، كان الكتاب المقدس يُعتبر أقدم كتاب في العالم يحتوي أعمالًا تامةً وأصلية، أما بعدها فقد عُرِف أن هذه الأعمال هي أما مُلهمة أو مُقتبسة من الآداب العراقية القديمة.
أول مدوّنات قانونية
شريعة الملك البابلي حمورابي (1792-1750 ق.م) معروفة للقاصي والداني لكنها ليست أول قانون مدوّن في العالم أو حتى في العراق.
كانت أقدم مدونة قانونية في التاريخ شريعة أوروكاجينا في القرن 24 ق.م. والثانية من حيثِ العراقة شريعة أورنمو (2047-2030 ق.م) [أو 2112-2095 ق.م] الذي أسس -في سومر- سلالة أور الثالثة، وربما يكون ابن أورنمو وخليفته «شولكي» (2029-1982 ق.م) [أو 2094-2047 ق.م] هو الذي أصدر القانون المنسوب إلى أبيه فإن كان الأمر كذلك فالمرجح أنه أصدر القانون اعتمادًا على قانون أبيه أو امتثالًا لنصائحه، ويرى الباحث بول كريواكزيك أن:
«رغم أن شريعة أورنمو لم تكن مدونة قانونية حقيقية إذ أنها لم تكن شمولية، ورغم أن البعض يقول أن شولكي ابن أورنمو هو من أصدرها، ورغم أنها لم تصلنا كاملة بل كل ما نملكه منها هو أجزاء وشذرات، فأننا نعلم أنها غطت المسائل المدنية والجنائية معًا، ومن الأحكام الجنائية الواردة فيها نعرفُ الجرائم التي تعاقب بالإعدام: القتل والسرقة وفض بكارة زوجة رجل آخر والزنا حين ترتكبه امرأة، كما نعرفُ الجُنح التي تُعاقب بالغرامة المدفوعة بالفضة… (تقف شريعة أورنمو) بالضد من شريعة حمورابي الأشهر -التي كُتبت بعد نحو ثلاثة قرون- من ناحية نوعية العقوبات، ففي الأخيرة يسود مبدأ (العين بالعين والسن بالسن) المتوحش» (ص148-149)
أثّر قانون أورنمو في شريعة حمورابي اللاحقة من ناحيتي توضيح عقوبات الجرائم وشرعنة القانون نفسه بصفته صادرًا من مصدر إلهي، وكانت شريعة حمورابي أقسى فقد فرضت عليها ذلك ضرورة حكم شعب متنوع المشارب لا يتشارك رؤية موحدة عن الآلهة وعدالتها.
الخلاصة
ما ورد أعلاه ليس سوى بعض مساهمات العراق القديم في الثقافة العالمية، فسكانه قد ابتكروا علم رسم الخرائط أيضًا إذ وضعوا الخرائط الأولى بين 2360-2180 ق.م كما أثروا في الفلسفة الإغريقية حين أثروا في الفيلسوف القبسُقراطي طاليس الملطي (نحو 585 ق.م) الذي درس في بابل وادعى أن الماء هو مكون الوجود الأول اعتمادًا على ما تعلمه هناك.
ظهرت مفاهيم تخطيط المدن وتقسيمها إلى مناطق في العراق القديم أيضًا حيث تميز الحي التجاري عن السكني وخُططت الطرق لتسهيل السفر، أما الإمبراطورية الآشورية (نحو 1370-612 ق.م) فقد كانت الأكبر في العالم القديم حتى زمانها، وأصبح مفهوم الإله عندها مؤثرًا في شكل الإلوهية التي تبنتها الأديان التوحيدية لاحقًا.
ظل العراق القديم بلدًا متنوعًا يتوق لابتكار الجديد حتى القرن السابع الميلادي حين فتحه العرب المسلمون الذين فرضوا بعدها ديانتهم وتقاليدهم الثقافية، ومثلما حصل في فارس القديمة جُرِّمت النظم الاعتقادية والتقاليد المحلية في العراق في البداية إلا أنها أصبحت جزءًا من ثقافة الفاتحين لاحقًا.
لا يسع المطَّلِعُ على تاريخ العراق إلا أن يوقر هذا البلد لكونه المصدر الأول للعديد من الجوانب الأكثر ديمومة في الثقافة العالمية.
هامش المترجم
*تختلف التواريخ باختلاف المصادر أحيانًا، فإذا تعارض تاريخ ورد في المقال مع المتعارف عليه في المصادر الثابتة أثبتنا التاريخين معًا، وقد وضِع ما لم يرد في أصل المقال بين قوسين مربعين. راجع المواقع الإلكترونية التالية مثلًا: ER Services, World Civilization, Ancient Mesopotamian Civilizations, Chapter 2, The Akkadian Empire أو History, Ancient Middle East, Mesopotamia أو History World, History of Mesopotamia أو Encyclopedia Britannica
إعلانات
قائمة المصادر والمراجع
- Bertman, S. Handbook to Life in Ancient Mesopotamia. Oxford University Press, 2005.
- Black, J. , et. al. The Literature of Ancient Sumer. Oxford University Press, U.S.A., 2006.
- Bottéro, J. Everyday Life in Ancient Mesopotamia. Johns Hopkins University Press, 2001.
- Dalley, S. Myths from Mesopotamia. Oxford University Press, 2009.
- Jonker, G. The Topography of Remembrance: Mesopotamian Naru Literature. Brill Publishing, 1995.
- Kramer, S. N. History Begins at Sumer. University of Pennsylvania Press, 1988.
- Kramer, S. N. The Sumerians: Their History, Culture, and Character. University of Chicago Press, 1971.
- Kriwaczek, P. Babylon: Mesopotamia and the Birth of Civilization. St. Martin’s Griffin, 2012.
- Leick, G. The A to Z of Mesopotamia. Scarecrow Press, 2010.
- Mitchell, S. Gilgamesh. Atria Paperback, 2020.
- Van De Mieroop, M. A History of the Ancient Near East ca. 3000 – 323 BC, 2nd Edition. Blackwell Publishing, 2006.
- Von Soden, W. The Ancient Orient: An Introduction to the Study of the Ancient Near East. Wm. B. Eerdmans Publishing Co., 1994.
موسوعة تاريخ العالم هي إحدى شركات Amazon Associated وتحصل على عمولة على مشتريات الكتب المؤهلة.
نبذة عن المترجم
كاتب: من بلاد الرافدين: مساهمة العراق في الحضارة العالمية. نشر عددًا من المقالات حول التاريخ القديم على موقع «الحوار المتمدن».
نبذة عن الكاتب
كاتب مستقل وأستاذ سابق بدوام جزئي في الفلسفة في كلية ماريست، نيويورك، عاش جوشوا ج. مارك في اليونان وألمانيا وسافرإلى مصر. قام بتدريس التاريخ والكتابة والأدب والفلسفة على المستوى الجامعي.