بين سطور الإنتاج العالمي: أين تُصنع البضائع ومن يملك الفكرة؟!

ضياء ابو معارج الدراجي

للعلم والاطلاع، ما نراه اليوم في واجهات المحلات من أجهزة إلكترونية وكهربائية وملابس تحمل علامات تجارية عالمية مثل “Apple” و”Samsung” و”Nike” و”Adidas” وغيرها، لا يعني بالضرورة أن هذه الشركات تمتلك مصانع تصنع بها منتجاتها. بل الواقع يشير إلى نموذج اقتصادي مختلف تمامًا عن الصورة النمطية التي رسختها الإعلانات، وهذا النموذج بات يُعرف بمفهوم “الشركات المصمّمة وليست المصنِّعة”.

في هذا العصر، لم تعد القيمة تكمن في الحديد والماكينات والمباني، بل في الفكرة، في البرمجة، في التخطيط، في الابتكار. أغلب الشركات العالمية الكبرى تصرف الميزانيات الضخمة على البحث والتطوير (R&D)، وعلى التسويق والإعلانات، بينما تُسند عمليات التصنيع إلى مصانع موزعة في أرجاء العالم: من الصين إلى فيتنام، ومن المكسيك إلى تركيا، ومن بولندا إلى ماليزيا.

الشركة الأم تحرص على الجودة والتصميم والهوية التجارية، لكن اليد التي تركّب المكونات وتغلف المنتج في النهاية قد تكون يد عامل صيني أو هندي أو حتى أوروبي، حسب التكلفة وسلاسة خطوط الإنتاج.

وهنا نقطة حساسة؛ إذ تختلف أسعار المنتجات النهائية حسب بلد التصنيع. فقد تجد نفس الهاتف المحمول يُباع بسعر مختلف في السوق رغم أنه من نفس العلامة، فقط لأن هذا صُنع في الصين وذاك في كوريا. وللأسف فإن غالبية إنتاج هذه العلامات، وخصوصًا الأجهزة الإلكترونية، يتم في الصين نظرًا لتوفر اليد العاملة الرخيصة والقدرات اللوجستية الهائلة.

ما يجب الانتباه له أن هذه السياسة تمنح الشركات حرية مالية أكبر، فهي لا تشتري آلات بمليارات الدولارات، بل تستثمر تلك الأموال في تطوير تقنيات جديدة وبراءات اختراع، وتحسين تجربة المستخدم، وبناء ولاء للعلامة. وعندما تحتاج إلى توسيع إنتاجها، لا تبني مصنعًا جديدًا، بل تتعاقد مع مصنع جاهز في مكان آخر، فتربح الوقت والمال.

أما على المستوى الاقتصادي الكلي، فهذه المنظومة خلقت واقعًا عالميًا معقدًا: الدول الصناعية الكبرى مثل ألمانيا وهولندا وأمريكا باتت مراكز تفكير وقيادة وابتكار، بينما الدول النامية مثل الصين وفيتنام باتت ورش العالم. والمفارقة أن القيمة الحقيقية للسلعة لم تعد تُخلق حيث تُصنع، بل حيث تُفكّر وتُخطط وتُصمّم.

إذا أردنا بناء اقتصاد متين، فعلينا أن نفكر كالعقول التي تبتكر لا كالأيادي التي تنفذ. التصنيع مهم، نعم، لكنه لم يعد الهدف الأعلى، بل وسيلة ضمن منظومة أوسع تقوم على العلم والبرمجة والاختراع والهوية التجارية.

نحن في زمن لم تعد فيه الصناعة بمعناها التقليدي هي الملك، بل صار “العقل الذي يملك الفكرة” هو السيد الفعلي.

ضياء ابو معارج الدراجي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *