اسم الكاتب : حسين سرمك حسن
سبع وأربعون – د. محمد فهد القيسي:
د. حسين سرمك حسن
من وجهة نظري ، أرى أن هناك محاولات منظمة تجري لسلب العراقيين أثمن كنوزهم الحضارية والتاريخية على الإطلاق ، ممثلة في محاولة تجريدهم من مكوّنهم السومري العراقي الأصيل ، عبر نظريات “علمية” مختلفة ، وصل بعضها إلى حدّ اعتبار السومريين أقواماً هبطت على أرض العراق من الفضاء الخارجي !! ليس هذا حسب ، بل هناك ما هو أخطر ، ويتمثل في إهمال الحضارة السومرية ودورها الريادي الخطير والمعروف في تاريخ الحضارات االبشرية عند تناول المنجزات الحضارية في الوقت الحاضر ، حيث تجد الباحث الغربي خصوصا يتحدث عن كل الحضارات عدا الحضارة السومرية . وقد انتقلت العدوى – وأصلها منظّم ومخطّط – إلى الباحثين العرب الذين صاروا يتحدثون عن كل حضارات المنطقة عدا الحضارة العراقية القديمة عموما ، والسومرية خصوصا . لكن الداهية الدهياء تقع على رؤوسنا حين أقرأ – وهذا ما حصل فعلا – كتابا لكاتب عراقي يتناول فيه شأنا حضاريا كان للسومريين قصب الريادة والسبق فيه فيحيله إلى الحضارة المصرية الفرعونية الشقيقة !!
ومن المتوقع أن تتصاعد وتائر هذا التغييب والتشويه المقصود مع تنامي سطوة الحركات الدينية الأصولية التي تعتبر تلك الحضارات العظيمة حضارات “وثنية” . وعليه فإن أي جهد – مهما كان بسيطا – يرمي إلى إحياء جانب من جوانب إنجازات وتحوّلات ومكونات تلك الحضارة ينبغي الإحتفاء به وطرحه أمام الجمهور القارىء والإشارة إليه ليتمكن من الاطلاع عليه .
وفي هذا الإطار ، صدرت عدة كتب – مؤخّرا – عن حضارات العراق القديمة العظيمة . فعن دار تموز للطباعة والنشر في دمشق ، صدر كتاب للدكتور “محمد فهد القيسي” عنوانه : “السومريون بين النفي والإثبات – ودراسات أخرى في حضارة العراق القديم” (197 صفحة) .
وقد ضم الكتاب ثماني دراسات مهمة منها :
حقيقة السومريين بين النفي والإثبات
الأعداد والحساب في حضارة العراق القديم
الواقع السياسي للمرأة في العراق القديم
اليهود في بابل (598 ق . م – 637 ق . م)
عبادة قوى الطبيعة في العراق القديم
منطقة بغداد في العصور القديمة
وغيرها .
وفيما يتعلق بالدراسة الأولى المهمة المرتبطة بحقيقة السومريين التي يحاول البعض نفيها بالقول إن السومريين لم يُعرفوا كشعب ، وأن اللغة السومرية التي وصلت إلينا هي لغة من اختراع الأكديين أنفسهم (ص 11) ، يقوم الباحث بطرح كل رأي يسند هذا الرأي الخطير ثم يناقشه وينقضه مثل :
الرأي الأول : (لم تكن الصراعات بين المجموعات البشرية المختلفة في بلاد العراق القديمة على أساس الخلافات القومية ، وإنما على اساس الخلافات السياسية الإقليمية) فيرد عليه بوجود نصوص واضحة تشير إلى الأموريين (المارتو) الذين هم من الأقوام الجزرية (البدوية) ، وينتمي إليهم الأكديون ، تكشف الفوارق الثقافية بينهم وبين السومريين ، بالإضافة إلى استعانة الباحث بمنجزات ونتاجات أخرى تكشف وجود قومين متمايزين هما السومريون والأكديون منها :
الفخّار : فخار عصر فجر السلالات السومري (بداية الألف الثالث قبل الميلاد) متعدد الألوان ومرسوم عليه اشكال هندسية وسنابل وسعف نخيل ، ولكن في العصر الأكدي (أخريات الألف الثالث قبل الميلاد) صار الفخار خاليا من أية إضافات أو نقوش ومطلي بطبقة خفيفة من الطين السائل ، أي أنه لأقوام تركز على ضروريات الحياة دون الإلتفات للكماليات منها كما كان شأن السومريين . وهذا يدل على وجود منظومتين حضاريتين مختلفتين :
منظومة زراعية مستقرة (سومرية)
ومنظومة بدوية مترحلة (أكدية)
الأختام : وتعتمد المبدأ الخيالي والخطوط الزخرفية وتحوي مشاهد الولائم والحفلات الموسيقية في عصر فجر السلالات السومري ، بينما تتميز الأختام الأكدية بواقعية المشاهد المنحوتة عليها .
وهكذا يمضي الباحث في مناقشة ودحض الرأي الثاني (أن الصراعات والحروب المذكورة في النصوص المسمارية لم تكن بين السومريين والأكديين بل بين دويلات المدن .. إلخ) ، وينقض هذا الرأي بالقول إن الحروب التي شنها “سرجون الأكدي” ، وواصلها حفيده “نرام سين” كانت تمثل استهدافا (قوميا) للسومريين من خلال نهب معابدهم وحرقها ، وهي حالة لم تكن تُعرف سابقا إلا مع الأقوام الأجنبية كالحثيين والعيلاميين ، بينما حروب دويلات المدن كانت تدور حول الموارد الزراعية من أرض ومياه وطرق تجارة …
والرأي الثالث (لا توجد اختلافات عرقية أو أنثروبولوجية بين السومريين والأكديين…) (ص 18) والرابع (إسم أول ملك في جدول الإثبات السومري حكم بعد الطوفان هو “لولم” ، وهو اسم أكدي … وأن جل أسماء المدن والمواقع العراقية القديمة ليست سومرية بل لأقوام يُسمّون الفراتيون الأوائل قبل السومريين والأكديين) (ص 20) ، والخامس (وجود أسماء أعلام أكدية في مدن يفترض أنها سومرية …) (ص 21) ، والسادس (أن جلّ معلوماتنا عن ملوك عصر فجر السلالات الذين يفترض كونهم سومريين جاءت من نصوص أُلّفت باللغة السومرية في العصر البابلي ، وليس في العصور السومرية المفترضة) (ص 22) … والسابع (إن الكتابة في مراحلها الأولى لم تكن محددة بالمنطقة المفترضة في جنوب العراق ، وإنما انتشرت في ما يُعرف بالمنطقة الأكدية وذلك في العصر المُسمّى الشبيه بالكتابي) (ص 23) ..
.. وهكذا إلى أن يكمل الباحث الرد على الخمسة عشر رأياً التي تُطرح عادة لإلغاء حقيقة وجود السومريين في العراق القديم .. ثم يلخّص النقاط التي تثبت هوية السومريين كقوم مستقلين (ص 30 – ص 36) .
ولم أشأ إكمال طرح الآراء والردود عليها ، لكي لا أفسد على السادة القراء متعة الإطلاع على هذه المحاورة الذكيّة والمتقنة .
كما تهمني إحالة السادة القرّاء إلى الدراسة الأخيرة للباحث التي تناول فيها (منطقة بغداد في العصور القديمة) ، وخصوصا تاريخها واسمها في العصور القديمة حيث تعتقد أغلبية العراقيين في أن بغداد مدينة “حديثة” أنشأها الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور ، وأن اسمها مأخوذ من كلمة فارسية !! في حين يشير الباحث إلى أن بغداد مدينة بابلية قديمة جدا ، بدليل الواجهة الواسعة المشيدة من الآجر البابلي والتي لازالت تحاذي ضفة دجلة الغربية عند بغداد ، وكل قطعة آجر مختومة باسم “نبوخذ نصر” وألقابه (ص 152 و153) ، وأن اسم بغداد قد ورد في لوح بابلي يرجع إلى القرن الثامن عشر قبل الميلاد باسمها الصريح (بجدادا) أي في زمن حمورابي (ص 153) .. كما ورد في لوحين آخرين هكذا :
بغدادي (1341 ق . م )
وبجدادو (1800 ق . م )
وبغدادو (728 ق . م في حكم الملك الآشوري تجلات فلاسر الثالث)
أمّا بالنسبة لاسم بغداد فانظر للإجحاف الذي أصابنا به الشيخ محمد عبده المصري الذي حقق مقامات الهمداني ، واعتبر اسم بغداد فارسيا !! في حين أنه – كما يقول السيد الباحث – ومن خلال الدراسة اللغوية لمقطعيه يعني :
بيت الغنم أو بيت نسيج العنكبوت في التحليل المقطعي الأول
أو جنينة الحبيب أو بستان العم أو الخال
وفي تحليل ثالث : هاج اللهو واللعب ، أو وسع مشق عين المرأة المدعوة دد ،
وفي تحليل رابع (قلعة قبيلة الصقر) أو (هيكل الصقر) (ص 153 إلى 157)
ثم يذكر الباحث المواقع الأثرية في أنحاء بغداد والكثير منها لا يعرفه ولم يره ابناء الجيل الجديد ..
وأرى لزاما على الجهات المعنية بالآثار العراقية أن تشرع بثورة في عالم التنقيب وتحمي المواقع الآثارية قبل أن تندرس وتُدفن وتُبنى عليها المنشآت التي لا تجد أرشاً في العراق غيرها خصوصا في ظل الإحتلال الأمريكي ، حيث اشار الأثاري الراحل “بهنام أبو الصوف” إلى أن المحتلين الأمريكان والبريطانيين الأقذار المجرمين قد دكّوا وسحقوا وساووا معالم 100 ألف موقع أثري عراقي !!