رياض الفرطوسي
لم يكن سيد إبراهيم الناجي، أبا محمد، رجلًا عابراً في الحياة. بل كان من أولئك القلائل الذين يعبرونها بأثر لا يُمحى، وبخطى ثابتة تمضي نحو الله، لا تطلب من الدنيا غير رضا الضمير وطيب الذكرى.
ترجّل الفارس بعد معاناة طويلة مع المرض، ترجّل كما عاش، في صمت يشبه صمت الأزهار حين تفنى في البراري دون ضجيج، لكن عطرها يظل سارياً في الهواء. غادرنا أبا محمد، المقاتل الصلب، والرفيق الوفي، والمحب النقي، غادرنا بعد أن عاش عمراً طويلًا وهو يحمل جراح وطنه على كتفيه، ولم يتخلَّ يوماً عن إيمانه بعدالة القضية وكرامة الإنسان.
منذ لحظة انخراطه في درب النضال ضد الطاغية ، كان أبا محمد من الطينة التي لا تتلون، قاوم النظام البعثي في زمن كان فيه الصمت أيسر الطرق، ودفع ثمن موقفه ملاحقة وسجوناً وتعذيباً، ثم هجرة مرّة إلى المنافي. هاجر لا طمعاً بملاذ، بل هرباً من وطن تحوّل إلى ثكنة للإذلال والوجع. ومع ذلك، لم تنكسر روحه، ولم يبدّل جلده، بل ظل في غربته وفياً لوجه العراق الحقيقي، وظل عاملًا لا يسعى لمكافأة، محتسباً إلى الله، زاهداً في متاع السياسة ومغرياتها.
لم يطلب لنفسه جاهاً، ولا سعى لسلطة، بل كانت سعادته الحقيقية حين يرى الابتسامة تُرسم على وجوه من قَضى لهم حاجاتهم. لم يكن صاحب قلب فحسب، بل صاحب قلب كبير… يتّسع للجميع، ينصت أكثر مما يتكلم، ويغفر أكثر مما يَدين. عاش كما يعيش الدراويش: برّاني المظهر، داخليّ البصيرة، صوفيّ الهوى، لا يرى في هذه الدنيا سوى معبر إلى رضى الله وعدالة السماء.
رأيته في سنوات النضال، كما رآه رفاق دربه، مقاتلًا لا يساوم، لا يعرف نصف الموقف، ولا يُجيد التراجع. وفي زمن اختلطت فيه القيم، وبات التخاذل يُكافأ، بقي هو كما هو… الطيب، النزيه، النظيف، الشريف، الذي حمل ضميره كما يُحمل المصحف في قلوب المتقين، لا يغلقه ولا يساوم عليه.
حتى حين تنصّل منه بعض رفاق الطريق، وبات اسمه غريباً على أفواه من كانوا يتغنون به، ظل ثابتاً، لا يذمّهم، ولا يشكو نكرانهم. ظل يحيا بحنينه إلى وطن لا يغادره، حتى لو أغلق الوطن أبوابه في وجهه.
وها هو اليوم يصل إلى المحطة الأخيرة، المحطة التي لا نعلم إن كانت نهاية أم بداية، فمثله لا يُختصر بالموت، بل يبقى حيّاً فينا، وفي الذين عرفوه، وفي كل من عاشوا معنى الوفاء من خلاله.
(شلونكم؟ هزّني الحنين… بكل كتر مشتاق جف البابكم).
هكذا كان يكتب في غربته، يحمل الوجع بمرارة، لكنه لا يشكو، فقط يُلوّح بالحنين، كأن الحنين وطنه الذي لم يُخذله يوماً.
سيد إبراهيم الكوفي، أبا محمد، لم يمت كما يموت الآخرون. لقد عاد إلى الله، إلى حيث تنتمي الأرواح التي تعبُر هذه الدنيا وقد نظّفت قلبها من الغلّ، وضميرها من الرهبة، وسيرتها من العار.
نم قرير العين أيها العزيز.
نم في ظلّ رحمة لا تخيب، ورضا لا يزول.
لقد كنت، وستبقى، أحد أولئك النادرين الذين لا يُنسَون، لا لأنهم صرخوا عالياً، بل لأنهم عاشوا نبيلين، وماتوا كما تعيش الأشجار… واقفة.