تركيا وسايكس بيكو: المدى المفتوح والتاريخ المنغلق..!

رياض الفرطوسي

من بين أطياف التاريخ العثماني المتداعي، تنهض تركيا اليوم لاعبةً دوراً جديداً في مشهد عربي لا يزال يبحث عن بوصلته. ليست المسألة في الوجود التركي بحد ذاته، بل في ما يعكسه هذا الدور من توترات قديمة وحديثة، ومن أسئلة مؤجلة في وجدان أمة لم تهضم بعد ما جرى من تقسيم، ولم تتعافَ من إرث الحدود التي خطّتها “سايكس بيكو” بخط اليد، ثم حفرتها الوقائع في خرائط الدول.

الارتياح الذي تبديه بعض القوى السنية للدور التركي لا ينبع فقط من توافق سياسي، بل من حنين دفين إلى زمن الخلافة، زمن الوحدة الجغرافية والثقافية والدينية، حين كانت الأرض بلا حدود، والحجّاج يقطعون المسافات من موريتانيا إلى مكة بلا جوازات، وكانت الفكرة فوق الجغرافيا، والأمة أوسع من راياتها القُطرية.

لكن هذه النوستالجيا لا تُنتج دائماً سياسة متزنة، بل قد تؤدي إلى استدعاء دور تركي يُقرأ على حساب السيادة العربية، أو على حساب دول كبرى كمصر ودول مجلس التعاون، وهو ما ترفضه بطبيعة الحال النخب العربية، التي ترى أن لكل مرحلة ظروفها، وأن العودة إلى الوراء لا تعني بالضرورة استرجاع المجد، بل قد تُفضي إلى تكرار الأخطاء.

تركيا، حين تتدخل في المشرق، فإنها لا تأتي دائماً بمشروع فكري شامل، بل بمنطق جيوسياسي عملي، تمليه مصالحها وضرورات أمنها القومي. لا تهتم كثيراً بصناعة الوعي، ولا تضع الإعلام والثقافة في قلب حركتها، بل تتحرك كما تتحرك الدول التي تتقن فن الأرض، لا فن الفكرة. ويكفي أن نذكر أن الأرشيف العثماني، الذي أصبح اليوم مرجعاً قضائياً في أوروبا، لا يزال شبه مجهول في الأوساط العربية التي كانت جزءًا من تلك الإمبراطورية.

في سوريا، تبدو الساحة مفتوحة أمام تنافس إقليمي معقّد. التراجع النسبي لأدوار بعض الفاعلين الإقليميين فَسَح المجال لتقدم الدور التركي، لكن دون أن يعني ذلك نهاية الأدوار الأخرى، بل انتقالها إلى صيغ جديدة. وفي العراق، لا يمكن تجاهل أن ثمة تشابكاً تاريخياً وثقافياً بين بغداد وطهران، وأن العلاقات بين البلدين لا تُقاس فقط بالسياسة، بل تمتد إلى الحوزات والمقامات والتاريخ المشترك، ما يجعل الحديث عن النفوذ يحتاج إلى قدر عالٍ من الدقة والاحترام المتبادل.

لكن رغم كل ذلك، فإن جوهر الإشكالية لا يكمن في وجود هذا الطرف أو ذاك، بل في غياب المشروع العربي البديل. فالدولة القُطرية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى فشلت في أن تكون وطناً سياسياً موحداً، وظلت أسيرة حدودها الضيقة، حيث تحوّلت كل دولة إلى جزيرة معزولة، لها علمها وجيشها ومقعدها في الأمم المتحدة، لكنها عاجزة عن تشكيل تكتل يتجاوز هشاشة اللحظة.

لقد أدّت “سايكس بيكو” مهمتها بامتياز: فرّقت بين التركي والعربي، وبين الفارسي والعربي، حتى تحوّلت الفروقات الثقافية إلى حواجز سياسية. وهي فروقات لا أصل لها في وجدان الإسلام ولا في ميراثه الفقهي. فقد أسهم في بناء الحضارة الإسلامية فقهاء ومؤرخون ليسوا عرباً، ولم تكن العروبة يوماً شرطاً للانتماء إلى هذه الأمة.

اليوم، يعود الجدل ذاته بوجه جديد: هل نقبل بامتداد تركي جديد في المنطقة؟ وإن قبِل البعض به، فهل هو بديلٌ عن الوحدة العربية أم تهديد لها؟ هل هو تصحيح لمسار أم إعادة إنتاج لتاريخ مضى؟

ما يدفع إلى القلق ليس مجرد التدخل، بل افتقار المشروع العربي إلى الرؤية، إلى تلك “الحاجة الكبرى” التي تُنتج الاتحاد، كما يقول بعض المفكرين: حاجة أمنية أو اقتصادية، تجعلنا ندرك أن المصير الواحد ليس خياراً ثقافياً، بل ضرورة وجودية. من دون هذه الحاجة، لا يمكن لأي كيان أن يتجاوز ذاته ليصبح جزءاً من كيان أوسع. ومن دونها، ستظل المنطقة مرتهنة لتوازنات الآخرين.

ليس المطلوب أن نرفض تركيا، ولا أن نعادي إيران، ولا أن ننكر وجودهما وتأثيرهما، فهما جزء من الجغرافيا الروحية والسياسية للمنطقة. لكن المطلوب أن نُدرك نحن من نحن، وأن نبني مشروعاً بحجم ما نملك من إمكانات وهوية، وأن نتجاوز عقدة الدولة القُطرية التي جعلت كل بلد عربي يكتفي بعلمه وحدوده وخطوط طيرانه.

ولذلك، فإن سايكس بيكو ليست مجرد اتفاق تاريخي، بل عقلية مستمرة. العقلية التي تقول إن التعدد ضعف، وإن التمايز عداء، وإن السيادة تعني أن تكون وحدك ولو كنت صغيراً. هذه العقلية هي ما يجب أن يُعاد النظر فيه. فالاتحاد لا يعني الذوبان، بل التنسيق. ولا يعني العودة إلى ولاية عثمانية، بل التأسيس لشراكة تحترم الإرادة وتضمن المصالح المتبادلة.

الطريق إلى هذه الشراكة يبدأ من فهم الذات، من قراءة الذاكرة لا لتقديسها، بل لتحريرها من وهم الماضي ومن سطوة الخوف. من إعادة الاعتبار للفكرة، قبل الجغرافيا، وللمشروع العربي، قبل اللهاث وراء محاور الآخرين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *