رياض الفرطوسي
في بلدٍ علّمه الجرحُ أن يصير مرجعًا في الصبر، وأن ينهض كلّما هوت عليه المطرقة، يطلّ العراق اليوم من نافذة أخرى، ليس ليحكي عن أوجاعه، بل ليصنع قصة أخرى—قصة تُكتب هذه المرة بالحبر لا بالدم، وتُصاغ بالحلم لا بالحداد. هي ليست قصة النفط، ولا المآذن، ولا حتى التواريخ التي صارت أثقل من أن تُروى. إنها قصة تبدأ من الريف، حيث يتعلّم طفلٌ أن الإنترنت يمكن أن يكون جسراً إلى العالم، لا مجرد رفاهية محجوبة. وتصل إلى المدن، حيث تتجرأ الأفكار أخيراً على أن تُولد في معامل العراق، لا في كواليس الخارج.
مشاريع التنمية التي تُطلق اليوم تحت عنوان “صُنع في العراق” ليست شعارات يُراد بها تزيين المشهد السياسي، بل هي محاولات جادة لإعادة بناء العلاقة بين الدولة ومواطنيها. العلاقة التي تفككت بفعل الحروب، وتفسّخت بسبب الفساد، تتخذ اليوم شكلًا جديداً: علاقة تعاقدية على الأمل، لا على الخوف؛ على المشاركة، لا على الوعود. وفي قلب هذه العلاقة يقف “صندوق العراق للتنمية” باعتباره أداة تنفيذية وفلسفية لمشروع متكامل يريد إعادة تعريف العراق بوصفه منتِجًا لا مستهلكاً، فاعلًا لا متلقّياً، شريكاً لا تابعاً.
إن الحديث عن الصناعات الوطنية في العراق، الذي اعتاد لعقود طويلة أن يستورد حتى السُترة العسكرية، لم يعد نوعاً من النوستالجيا أو الحنين إلى مصانع بدّدتها الحروب. بل هو اليوم مشروع اقتصادي، وأيضاً مشروع سيادي. فالصناعة هنا ليست مجرد إنتاج للسلع، بل هي شكل من أشكال استعادة القرار، من خلال تخفيف التبعية الاقتصادية، وإعادة تشغيل القوى العاملة، وتوسيع الحلقات المرتبطة بالتعليم والبحث العلمي.
إن ما نشهده اليوم من دعم حقيقي للصناعات الوطنية لا يمكن اعتباره مجرّد ردة فعل ظرفية أو حركة ارتجالية، بل هو ثمرة لرؤية استراتيجية ناضجة بدأت تتبلور داخل مؤسسات الدولة الاقتصادية. فالمسارات التي يجري تفعيلها ليست عشوائية، بل تعتمد على تخطيط منهجي تقوده أجهزة تنفيذية تعمل بعيداً عن الأضواء، وتركّز على النتائج لا على الخطابات. ولعلّ ما يتجلّى في إعادة تشغيل المصانع المتوقفة، وتأسيس مشاريع واقعية تنبض على الأرض، وخلق فرص عمل حقيقية في بيئة طالما طردت أبناءها، إنما يعكس انتقال الدولة من طور التنظير إلى فعل الإنتاج، ومن مرحلة الشعارات إلى واقع الإنماء.
وإذا كانت الصناعة هي الذراع الاقتصادية لهذا المشروع، فإن التعليم هو روحه. ولعلّ أكثر ما يثير الانتباه في هذه الرؤية هو التوجه نحو المدارس الريفية. فالعراق، الذي يعاني من فجوة حادة في البنية التحتية التعليمية بين الحواضر والقرى، قرّر أن يعكس المعادلة: أن تبدأ النهضة من حيث لم يتوقع أحد. ففي أعماق الجنوب، وفي أرياف ديالى والأنبار، وُضعت مخططات لمدارس ذكية متصلة بالإنترنت، تعتمد على مناهج رقمية تتيح للتلميذ في قرية نائية أن يتعلم بالأسلوب ذاته الذي يتعلم به نظراؤه في العاصمة. مدارس لا تقف عند الجدران، بل تفتح نوافذها على العالم.
وما يجعل هذا الحلم ممكناً هو إدماج مشروع “Starlink” في البنية التحتية الجديدة. هذا المشروع، الذي يتيح الوصول إلى الإنترنت الفضائي عالي السرعة، لم يعد حكرًا على الدول المتقدمة. فبفضل الشراكات التقنية، والتخطيط الواقعي، أصبح متاحًا اليوم للمدارس العراقية في المناطق المعزولة، بما يفتح أفقاً جديداً أمام التعليم والصحة والبحث العلمي وحتى الزراعة الذكية. إذ ليس من المبالغة القول إن الإنترنت في هذه المناطق يمكن أن يساوي الماء والكهرباء في أهميته التنموية.
إن “صُنع في العراق” هو عنوان لمرحلة لا تكتفي بترقيع الواقع، بل تسعى لإعادة صناعته بالكامل. ومن اللافت أن هذا العنوان لم يُطلق في بيانات رسمية بقدر ما ترسّخ في وجدان المواطنين من خلال ما يشاهدونه بأعينهم: من منتجات تحمل شعار “عراقي”، إلى مصانع أعيد تأهيلها، إلى مبادرات شبابية في الابتكار المحلي، إلى مدارس تُبنى في قرى لم تطأها يد التنمية منذ عقود. هذا التحول في الوعي هو المؤشر الأهم، لأن التنمية الحقيقية تبدأ من إيمان الناس بها، لا من إنفاق الأموال فقط.
وهنا ينبغي أن نكون صريحين: الطريق طويل، والعقبات ليست قليلة. من البيروقراطية المزمنة إلى شبكات الفساد المتغلغلة، مروراً بعقلية بعض المسؤولين التي ما زالت تعتقد أن الاستيراد أسرع من الإنتاج، وأن الحاضر أهم من المستقبل. لكن ما يُعوَّل عليه اليوم ليس مجرد الإرادة الحكومية، بل المزاج العام الذي بدأ يميل إلى خيار الإنتاج. المواطن نفسه أصبح أكثر وعياً بأن الحلول السحرية لن تأتي من الخارج، وأن ما يُصنع في العراق، مهما كان بسيطاً، هو أكثر استدامة مما يُستورد من خلف البحار.
رياض الفرطوسي, [12/06/2025 11:19 ص]
وقد رأينا كيف أن الأزمة المالية العالمية، والحروب الإقليمية، وحتى الجوائح مثل كوفيد-19، كشفت هشاشة الاقتصادات التي تعتمد على الخارج. العراق الذي صمد أمام الحروب، لا يُعقل أن يبقى رهينة الاستيراد. وهنا تحديداً يكمن البعد السيادي في مشروع “صُنع في العراق”: إنه مشروع تحرر، لا فقط اقتصاد. تحرر من التبعية، ومن الذل، ومن الحاجة، ومن الشعور بأننا لا نملك مصيرنا.
في المدن الصناعية الجديدة التي يُخطط لها ضمن خارطة طريق صندوق العراق للتنمية، لا يُبنى فقط الإسمنت والحديد، بل يُبنى شعور جديد بالكرامة. الكرامة التي تأتي من العمل، لا من المعونات. من الفعل، لا من الشكوى. ومن الجدير أن ننتبه إلى أن هذا المشروع لا يُركّز على الصناعات الثقيلة فحسب، بل يهتم بالصناعات الصغيرة والمتوسطة، ويمنحها حاضنات أعمال، وقروضاً ميسرة، وتدريباً ميدانياً، ما يعني أن التنمية لم تعد حكراً على الشركات الكبرى، بل صارت مشروعاً لكل عراقي يريد أن يكون جزءاً من الحل.
وفي النهاية، لا بد أن نسأل: ماذا يعني أن نصنع في العراق؟ إنه يعني أن نعيد الثقة بأنفسنا، أن نحترم العامل والفني والمهندس والمعلّم، أن نمنحهم الأدوات لا المواعظ، وأن نؤمن بأن العراق ليس بلداً مستهلكاً بالفطرة، بل بلد طُبع على الإنتاج ثم أُجهضت تجربته بفعل السياسات والحروب.
أن نصنع في العراق يعني أن نكتب الجملة الأولى في كتاب جديد. كتاب لا يحكي فقط عن الماضي، بل يصنع مستقبله بيديه. وإذا كان الطريق طويلًا، فإن الخطوة الأولى قد بدأت. وها نحن نشهدها في حقلٍ صغير، ومدرسة ريفية، ومنتج محلي… وفي عين طفل ينظر إلى شاشة صغيرة موصولة بسماء مفتوحة، ويقول بثقة: هذا صُنع في العراق. ولا يمكن فصل هذا التقدم عن الرعاية والدعم الحثيث الذي يقدمه دولة الرئيس محمد شياع السوداني، الذي جعل من هذا المشروع جزءاً أساسياً من برنامجه الحكومي، معززاً بذلك الإرادة السياسية في تحويل العراق إلى وطن ينتج ويبتكر.