الحرب الإيرانية الإسرائيلية: صراع صفري يعيد رسم خريطة الشرق الأوسط

ناجي الغزي

ليست الحرب المشتعلة اليوم بين إسرائيل وإيران مجرّد جولة أخرى في حروب الشرق الأوسط المتكررة. إنها، كما تكشف معطياتها الميدانية والسياسية، صراع صفري شامل يضع وجود أحد النظامين على المحك، ويهدد بإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية للمنطقة من جديد.
الاشتباك لم يعد حول منشآت نووية، ولا حول وكلاءها في غزة ولبنان وسوريا، والعراق، بل بات مباشرة على “رأس النظام” الإيراني من جهة، وعلى وحدة الكيان الصهيوني من الجهة المقابلة. وهي حرب، كما يبدو، لا هدنة فيها إلا كاستراحة مؤقتة، ولا وساطة تنجح فيها إلا بإزاحة أحد الطرفين من المشهد.
*أولاً: من الضربات التكتيكية إلى الحرب الوجودية*
تجاوزت إسرائيل في هذه الحرب مرحلة “الردع الوقائي” إلى السعي العلني لضرب قلب النظام الإيراني، تحت غطاء ضرب البرنامج النووي أو ترسانة الصواريخ الدقيقة. لكنها – كما تؤكد مصادر متعددة – كانت تراهن على أن تؤدي الضربات إلى انهيار داخلي أو انقلاب عسكري في طهران، مستفيدة من الارتباك الذي رافق استشهاد الرئيس الإيراني السابق وعدد من القادة.
غير أن النتائج جاءت عكسية. لا الانقلاب حدث، ولا النظام تصدع، بل العكس: التفّت شرائح واسعة من الشعب حول الحكومة، وارتفع منسوب الشرعية الوطنية، تماماً كما حصل بعد اغتيال قاسم سليماني في 2020.
*ثانياً: إيران تحتمل الحرب – وإسرائيل تختنق منها*
القراءة الاستراتيجية للصراع تظهر تفاوتاً حاداً في قدرة التحمل بين الطرفين:
إيران: دولة واسعة، سكانها أصليون لا مستوردون، والنظام فيها اعتاد العمل تحت العقوبات والحصار. الضغط العسكري لا يغير في بنيتها السكانية أو الاجتماعية.
بينما إسرائيل: دولة استيطانية هشة من الداخل، تعتمد على التفوق الجوي والدعم الغربي، لكنّ بنيتها السكانية والسياسية لا تحتمل حروب استنزاف طويلة. موجات الهجرة العكسية باتت تهدد قدرتها على التعبئة، وعلى إدارة الاقتصاد، ناهيك عن تداعيات الضربات النفسية والمعنوية.
*ثالثاً: التوازنات الدولية وعلاقتها بطهران*
من أبرز مفاجآت هذه الحرب أن أطرافًا دولية كبرى، مختلفة في أنظمتها وتحالفاتها، باتت ترى في بقاء النظام الإيراني ضرورة جيوسياسية لا غنى عنها. فبالنسبة إلى روسيا، تمثّل إيران منفذاً حيوياً إلى الخليج العربي والمحيط الهندي، وتوفر توازناً في القوقاز، إضافة إلى كونها داعماً ميدانياً في ساحة أوكرانيا.
أما الصين، فتنظر إلى طهران باعتبارها ركيزة أساسية في مشروع “الحزام والطريق”، ودرعاً أمام التمدد الأميركي في غرب آسيا، فضلا عن انها المصدر الاساسي للنفط.
وفي جنوب آسيا، تدرك باكستان أن إيران تشكّل عمقاً استراتيجياً بالغ الأهمية في مواجهة الهند، خصوصاً أن الهند الحالية تُعد حليفاً مقرباً لكلٍّ من الولايات المتحدة وإسرائيل، وهو ما يهدد التوازن الجيوسياسي والنووي في المنطقة. أما قوى المقاومة في لبنان وفلسطين واليمن والعراق، فترى في إيران مرجعية سياسية وعسكرية لا غنى عنها في مشروعها التحرري، بل ركيزة ميدانية واستراتيجية في مواجهة إسرائيل.
هذه العلاقات لا تقوم فقط على المصالح، بل على تبادل وجودي يجعل إسقاط النظام الإيراني تهديداً مباشراً لبكين وموسكو وإسلام آباد، بعكس إسقاط إسرائيل الذي قد لا يؤثر في واشنطن إلا من زاوية الهيبة السياسية
*رابعاً: المعادلة الصفرية ومستقبل المنطقة*
المعادلة اليوم لم تعد بين “مقاومين” و”مسالمين”، بل بين مشروع صهيوني توسعي يرى في كل من حوله خصماً وجودياً، وبين بيئة إقليمية متداخلة في الوجود والمصير. مصر- أول المستهدفين، بوصفها البوابة الطبيعية لتهجير أهل غزة الى سيناء، وهذت قرار اتخذ في بين ترامب والنتن ياهو. الأردن- سيتلقى موجات تهجير من الضفة العربية رغما عنهم، وليس هناك في الاردن ما يمنع تحقيق لإسرائيل ما تريده. سوريا- حسب التخطيط الاسرائيلي والاتفاقات السرية بينها وبين الجولاني، تقيسمها إلى دويلات عرقية وطائفية، بعد أن تسقط موانع الردع في المنطقة. أما تركيا- فهي مشروع دولة إسرائيلية الهوى على الفرات يهدد وحدتها القومية. دول الخليج- إن تحقق النصر الإسرائيلي، على إيران فلن تُحصّن تحالفاتها مع واشنطن ثرواتها أو نظمها، بل ستكون مستهدفة بالتبعية التامة. من هنا، فإن انخراط دول الطوق العربي على الأقل – إن لم يكن دول الوطن العربي كافة – ليس دعماً لإيران من باب الطائفية أو الأيديولوجيا، بل هو دفاع عن ذاتها ووجودها.
*خامساً: نهاية الحرب بين إيران وإسرائيل… كيف ومتى؟*
من يقرأ هذه الحرب بعيون اللحظة فقط، يظن أنها معركة عسكرية قابلة للحسم بميزان الغارات والردود، أو بجولة مفاوضات مدعومة بضغط ناري. لكن الواقع يشي بأن ما يجري ليس نزاعاً عابراً، بل نقطة تحوّل كبرى في صراع استراتيجي ممتد، ستكون له آثار عميقة ومحددة على شكل المنطقة والعالم لعقود قادمة. فالمواجهة الحالية ليست حول منشأة نووية أو منطقة نفوذ، بل حول من يكتب معادلة الردع الإقليمية الجديدة، ومن يحدّد من يبقى ومن يزول. ولذلك، فإن نهايتها لن تكون في الميدان فحسب، بل في نتائجها السياسية الكبرى:
إذا فشلت إسرائيل في إسقاط النظام الإيراني، فإنها ستخرج من هذه الحرب متهالكة سياسياً، مجروحة الردع، وقد تفقد لأول مرة الإجماع الداخلي والدولي على “حقها في الدفاع عن نفسها”. وستعيد قوى المقاومة في فلسطين ولبنان وسوريا والعراق وحتّى الخليج، ترتيب قواعد الاشتباك على أساس أن إسرائيل يمكن ردعها بل وتهديد بقائها.
أما إذا نجحت إسرائيل، لا قدّر الله، في إحداث اختراق استراتيجي داخل إيران، سواء عسكرياً أو أمنياً أو سياسياً، فستتحول المنطقة إلى ساحة مفتوحة أمام هيمنة صهيونية غير قابلة للكبح، وسيُستكمل مشروع التهجير من غزة والضفة، وتتفتت سوريا، وتُخترق تركيا، وتُدجّن دول الخليج بصيغة تبعية خالصة.
لكن الاحتمال الأخير، أي انتصار إسرائيل، لا تتيحه المعطيات الواقعية حتى الآن، لا عسكرياً ولا سياسياً، في ظلّ صلابة الجبهة الداخلية الإيرانية، وشبكة الحلفاء العابرة للجغرافيا، وتراجع الحماس الأميركي لأي تورط بري، ما يجعل الكفة الاستراتيجية تميل – ولو بصعوبة – لصالح صمود إيران.