ثامر عباس
ضمن جدليات السيرورة التاريخية يتموضع الزمن (الحاضر) بين مرحلتين أساسيتين ؛ الأولى مدبرة – مغادرة وهي (الماضي) حيث تستوطن الذاكرة الجمعية ، والثانية مقبلة – آتية وهي (المستقبل) حيث تمتحن المقدرة الحضارية . ومن هذا المنطلق ، يتوجب علينا – لكي نفهم معطيات الحاضر التي من طبيعتها أن تكون في حالة من السيولة والانزلاق – أن نقرأ بإمعان خلفيات الماضي ومرجعياته ، مثلما نحسن تقدير توقعات المستقبل ومآلاته . وإلاّ فان كل ما نفعله أو نسعى إليه ، لا يعدو أن يكون ضربا”من التأملات الخيالية ، والاستنتاجات الطوبائية ، والممارسات العبثية ، التي لا رجاء فيها ولا طائل منها ولا اعتماد عليها .
ولما كان متعذرا”على الفاعل الثقافي تحديد ماهية الظاهرة الاجتماعية التي ينوي دراستها ، فضلا”عن إمكانية تحليل مضامينها وفك شيفراتها ، دون الرجوع الى الأصول التاريخية والخلفيات الحضارية والمرجعيات القيمية التي ساهمت في تكوين بنيتها وتحديد طبيعتها ، في إطار سياقات سوسيولوجية وانثروبولوجية نوعية حتمت ظهورها بهذا الشكل دون ذاك ، وبلورة خصائصها بهذه الصيغة دون تلك . نقول لما كان الأمر على هذه الشاكلة ، أضحى من الضرورة بمكان إعادة النظر بكل ما ورثناه من سبل وأساليب تقليدية في الرؤى والتصورات والمنهجيات ، والتي كانت معتمدة في تحليل الظواهر والمعطيات والإشكاليات التي يطرحها الواقع الاجتماعي باستمرار ، ومن ثم تأويل ما قد يستعصي على التفكير المبتسر من أنماط مختلفة ومستويات متعددة من السيرورات والديناميات والتناقضات ، التي أحيانا”ما تفضي الى احتجاب القوى الفاعلة والتيارات العميقة المسؤولة عن تلك الصيرورات والانبثاقات .
والجدير بالملاحظة ، انه ليس كل ما تموضع في (الماضي) يتوجب علينا احتسابه ضمن فرشة الخلفيات التاريخية المؤثرة في معطيات (الحاضر) ، والمعنية في تحديد خيارات (المستقبل) ، كما لو أنها متشابهة في الواقعية ومتماثلة في الدور ومتساوية في التأثير . ولعل هذا الأمر قلل من مستوى القيمة المعرفية والمنهجية لبعض البحوث والدراسات التي كان أصحابها يتوخون الموضوعية في تناولهم للمواضيع الاجتماعية والثقافية والنفسية الملحة ، مثلما أضعف الكثير من تحليلاتهم ودلل على فشل الكثير من استنتاجاتهم . ذلك لأن الكثير من تلك الخلفيات (المعيارية) المعتمدة كانت إما (مختلقة) من جانب هذا المكون / الكيان أو ذاك ، إما (ملفقة) من جانب هذه الجماعة / العصبة أو تلك ، في إطار إضفاء شيء من الأهمية التاريخية والمشروعية الحضارية على وجودها الاجتماعي وحضورها السياسي . هذا بالإضافة الى دور الحكومات / السلطات في المساهمة بهذه استغلال هذه العملية ، لأغراض تتعلق بالمصالح الاقتصادية والأهداف السياسية والهيمنة الإيديولوجية .
وفي هذا الإطار ، ينبغي التركيز على واقعة أن الجدليات الاجتماعية الناشطة ، لا ينحصر دورها فقط على تأطير ما هو قائم في الواقع الاجتماعي المعاش من علاقات وتفاعلات وصدامات ، فضلا”عما يمكن أن يتمخض عنها من توقعات وتنبؤات واحتمالات لاستشراف آفاق المستقبل ، بحيث نعتقد واهمين ان المسارات التي تسلكها تلك الجدليات تقتصر على سلوك الاتجاهات التي لا تقبل الارتداد الى ما وقع في الماضي أو ما حصل في التاريخ . إذ ان من خصائص الديناميات الجدلية أنها قابلة للارتكاس والنكوص نحو الأزمنة الآفلة ، مثلما هي قابلة للتطلع والاتجاه صوب الأزمنة المقبلة عبر اللحظة الراهنة .
وعلى هذا الأساس ، ينبغي ، حين نعتزم دراسة ظاهرة من الظواهر ، أو تفسير حالة من الحالات ، أو تحليل واقعة من الوقائع ، تجنب حشرها في أطر تصورية جزئية وتحاشي التعاطي معها كما لو أنها أرخبيلات معزولة ؛ تارة ننسبها الى الجغرافيا (طبيعة قاسية وبيئة عدوانية) ، وتارة ثانية نحيلها الى التاريخ (سرديات ملفقة وروايات مختلفة) ، وتارة ثالثة نعزوها الى السياسة (استقطابات إقليمية وصراعات دولية) ، وتارة رابعة نسندها الى الاقتصاد (مقاطعات تجارية وحصارات غذائية) ، وتارة خامسة نوكلها الى الدين (انقسامات مذهبية وصراعات طائفية) . هذا في حين ان كل هذه الميادين والمجالات تسهم – كل بحسب دوره وأهميته ضمن المنظومة والمرحلة المعنيتان – في صيرورة هذه الظاهرة أو تلك ، وتشكيل هذه الحالة أو تلك ، وتكوين هذه الواقعة أو تلك . فلو أخذنا – على سبيل المثال لا الحصر – ما حل بالمجتمع العراقي من كوارث بعيد أحداث الغزو والاحتلال الأمريكي في التاسع من نيسان عام 2003 ، سنلاحظ ان معظم الباحثين والكتاب الذين بحثوا في الأسباب والدوافع التي أقحمت هذا البلد في أتون هذا السيل الجارف من الدوامات والمتاهات ، تفرقوا شيعا”إزاء تشخيصهم للعوامل التي اعتقدوا أنها كانت السبب وراء حدوث هذا الكم الهائل من التصدعات البنيوية ، والانقسامات الاجتماعية ، والانهيارات القيمية ، والصراعات السياسية ، على هذا النحو الدراماتيكي الفاجع .
والحال ، فإن كل هذه المقاربات – وإن تضمنت جزءا”من الحقيقة – إلاّ أنها فشلت في الإحاطة بكل أوجه الحقيقة التي تؤكد على أن كل ظاهرة أو حدث أو واقعة ، هي مدينة الى مجموع تلك العوامل الداخلية والخارجية ، الطبيعية والإنسانية ، الأسطورية والتاريخية ، الاجتماعية والاقتصادية ، النفسية والرمزية . إذ إن تضافرها البنيوي وتفاعلها الجدلي معا”هو ما يمنحها الكينونة النوعية التي تجعلها كما تبدو عليه في الواقع ، من حيث الموقع والدور والوظيفة والتأثير .