ابراهيم النداف
في زمن الإعلام الرقمي والشبكات الاجتماعية، لم تعد الحروب تُخاض فقط عبر الدبابات والطائرات، بل باتت العقول والأذهان ساحات مركزية في معركة الإرادات.
ومن هذا المنطلق، أطلقت “إسرائيل” حربًا نفسية معقدة تستهدف الداخل الإيراني وجمهور محور المقاومة إقليميًا وعالميًا. وقد اتخذت هذه الحرب أشكالًا متعددة، أبرزها إنتاج ونشر مقاطع فيديو قصيرة على منصات مثل تويتر، و تیك توك، و إنستغرام، ويوتيوب و غيرها، يتم فيها اجتزاء الصور، تركيب الأصوات والدبلجات المزيفة، واستخدام ترجمات مغلوطة ومضللة، وكل ذلك بهدف زعزعة الأمن النفسي والثقة الشعبية بالنظام في إيران وبمشروع المقاومة عمومًا.
في سياق الحرب النفسية والإعلامية التي تستهدف المجتمعات المقاومة، تبرز ظاهرة خطيرة تستدعي الوقوف عندها بجدّية، وهي إنتاج وترويج مقاطع الفيديو والمحتويات المضلّلة، ليس فقط من قِبل الأجهزة الاستخباراتية أو وسائل الإعلام المعادية، بل أيضًا من قِبل أفراد عاديين لا تربطهم أي صلة تنظيمية أو مؤسساتية، إنما يتحرّكون بدوافع فردية محضة.
كثير من هؤلاء لا يسعون لتحقيق أهداف سياسية أو أيديولوجية، بل يندفعون وراء الشهرة الرقمية وتعزيز عدد المتابعين والمشاهدات على منصّات التواصل الاجتماعي، مثل “تيك توك” و”فيسبوك” و”إنستغرام” وغيرها. في هذا السياق، يلجأ البعض إلى فبركة الأخبار، أو تقطيع مشاهد حقيقية وإعادة تركيبها بصورة مضلّلة، أو إضافة دبلجات وأصوات مفتعلة، وكل ذلك بقصد إثارة التفاعل الجماهيري، ما يُمهّد لتحقيق أرباح مادية عبر الإعلانات التجارية لمنتجات استهلاكية كالوجبات الخفيفة والعصائر والملابس!
وتكمن خطورة هذه الظاهرة في بساطتها الظاهرية وسرعة انتشارها، خاصةً في ظلّ نَقص الوعي الإعلامي لدى شريحة واسعة من المتابعين، الذين يفتقرون إلى أدوات التحقق النقدي والتفكيك التحليلي للمحتوى البصري والصوتي.
وبهذا، تتحوّل منصّات التواصل الاجتماعي إلى ساحة مفتوحة لبثّ الشائعات والمعلومات الزائفة التي تُقوّض الأمن النفسي والاجتماعي لجماهير جبهة المقاومة.
إنّ المفارقة المؤسفة أنّ كثيرًا من هذه الممارسات تتمّ بدوافع تجارية بحتة، لكنها تلتقي ـ من حيث التأثير ـ مع أهداف العدو في إضعاف المعنويات، وزعزعة الثقة بالقيادة، وإرباك الرأي العام.
لذا، فإنّ مجابهة هذا النوع من التهديدات الإعلامية لا يقتصر على التصدي للحرب النفسية المنظمة التي تخوضها الجهات المعادية، بل يتطلب أيضًا فهمًا معمّقًا للطبيعة المركّبة للتهديدات التي تنبع من الاستخدام العشوائي وغير المسؤول للأدوات الإعلامية الحديثة. وبناء عليه، فإنّ المواجهة الفاعلة لهذه الظاهرة تقتضي من مؤسسات الإعلام والمجتمع المدني، ومنظومات التعليم والتربية، العمل على تعزيز الوعي الإعلامي، وتطوير مهارات التفكير النقدي لدى الجمهور، بما يضمن تحصين البيئة الشعبية في وجه هذا النمط الجديد من التضليل الإعلامي العابر للنيات والأهداف.
وفي هذا الإطار، تبرز مجموعة من النقاط التي تستحق الإضاءة عليها لما تنطوي عليه من دلالات بالغة الأهمية:
أولًا: الصور المجتزأة – تحريف المعنى من خلال القص والتأطير
من أكثر الأساليب استخدامًا في الحرب النفسية الإسرائيلية هو توظيف صور ومشاهد حقيقية ولكن بعد اجتزائها من سياقها الزمني أو المكاني. يتم ذلك غالبًا بقصّ لحظات محددة من خطب أو لقاءات علنية لشخصيات قيادية في إيران أو في جبهة المقاومة، ثم تقديم هذه المشاهد بصورة توحي للمشاهد بأن هناك انهيارًا أو عزلة أو مرضًا أو هروبًا.
هذا النوع من القصّ المتعمّد يخلق واقعًا زائفًا في أذهان المتلقين، فيظهر المشهد وكأنه حقيقي بينما هو في الحقيقة صناعة إعلامية خبيثة تهدف إلى تشكيل وعي زائف، لكنه مقنع بفعل الصورة.
ثانيًا: الترجمات والدبلجات المفبركة – انقلاب المعنى
واحدة من أخطر أدوات هذه الحرب النفسية هي إساءة استخدام الترجمة. فبدلًا من نقل الكلام بأمانة، تقوم الحسابات والمراكز الإعلامية التي قد تكون بعضها موالية لـ”إسرائيل” بترجمة مجتزأة أو مغلوطة، وأحيانًا تلجأ إلى تركيب دبلجات صوتية بالكامل لا تمتّ بصلة إلى النص الأصلي.
تُستخدم هذه الترجمات المفبركة لتشويه تصريحات القيادات الإيرانية أو شخصيات المقاومة، فيتم إظهارها وكأنها تعترف بالهزيمة، أو تتهرّب من المسؤولية، أو تنتقد النظام القائم. ويكمن خطر هذا الأسلوب في أنه يستهدف جمهورًا واسعًا من غير الناطقين بالفارسية، والذين قد لا يملكون أدوات التحقق من صحة هذه الترجمات.
ثالثًا: توظيف الذكاء الاصطناعي والتزييف العميق (Deepfake)
مع تطور أدوات الذكاء الاصطناعي، بدأت هذه الحسابات باللجوء إلى ما يُعرف بالتزييف العميق، حيث يتم توليد صور وفيديوهات مزيفة عبر خوارزميات قادرة على محاكاة وجوه وأصوات شخصيات حقيقية.
في هذا السياق، تم نشر مقاطع تظهر شخصيات شبيهة بقيادات في سوريا أو إيران أو حزب الله، وهي تتحدث بكلام لا أساس له، أو تظهر في مشاهد توحي بالانهيار، أو الانشقاق، أو التراجع. والهدف هو إضعاف صورة هذه القيادات في أعين جمهورها، وبثّ الشك والريبة داخل البيئة المؤيدة للمقاومة.
رابعًا: من هو الجمهور المستهدف؟
تستهدف هذه الحرب النفسية جمهورين رئيسيين:
1. الجمهور الإيراني الداخلي، ويهدف ذلك إلى إضعاف الروح المعنوية، خلق فجوة بين الشعب وقيادته، وزعزعة الثقة في قدرة النظام على إدارة الأزمات.
2. البيئة الشعبية الداعمة لمحور المقاومة في المنطقة والعالم، إذ تسعى هذه الحملات إلى إقناع هذه الجماهير بأن “إيران تنهار”، و”المقاومة مهزومة”، و”المعركة خاسرة”، وكل ذلك بقصد دفع هذه القواعد الشعبية نحو التخلّي أو التراجع أو على الأقل الصمت.
خامسًا: الأهداف الاستراتيجية – انتصار بلا معركة
في أعقاب فشل العدوان العسكري الإسرائيلي الأخير على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وما أعقبه من ردٍّ إيرانيّ حاسمٍ وحازمٍ أكّد بما لا يدع مجالاً للشكّ استعداد طهران للدفاع عن سيادتها وثوابتها دون تردّد، تتجلّى الأبعاد الأعمق للمواجهة بين الطرفين، وتبرز الحرب النفسية كأداة مركزية تلجأ إليها “إسرائيل” لتعويض إخفاقها في ميدان المواجهة المباشرة.
لا تقوم هذه الحرب على القذائف والصواريخ، بل تُشنّ بأسلحة أكثر خفاءً وأشدّ تأثيرًا: التشكيك، التثبيط، زرع الهواجس، واستنزاف المعنويات. هدفها ليس تدمير البنية التحتية، بل تقويض الثقة، وتمييع القناعات، وبثّ الشعور بالعجز والهزيمة الذهنية. إنها حرب تهدف إلى تحويل روح المقاومة إلى سخرية، والإيمان بالمشروع إلى شكّ، والتعبئة الشعبية إلى تراجع وصمت وانكفاء.
الغاية النهائية من هذه الحرب النفسية تتمثل في تحطيم جبهة الصمود من الداخل، بحيث يصبح التراجع خيارًا ذاتيًا قبل أن يُفرض خارجيًا، ويغدو الانسحاب من الموقف خيارًا عقلانيًا مزعومًا بفعل الضغط الإعلامي والتضليل المنهجي.
سادسًا: تنوّع الجهات المنتِجة للمحتوى المضلل
من الخطأ الاعتقاد بأن كل هذا المحتوى ينتج فقط عن مؤسسات استخباراتية معادية. فجزء كبير منه يُنتج من قِبل أفراد عاديين، لا تحرّكهم أيديولوجيا أو دوافع سياسية، بل دافع الربح والمشاهدة والشهرة. يقوم هؤلاء بفبركة محتوى صادم عبر اجتزاء الصور، وتركيب الترجمات، ونشره على منصات مثل “تيك توك” و”إنستغرام” و”يوتيوب”، بهدف رفع أعداد المتابعين والحصول على عائدات من إعلانات المنتجات التجارية. هذه الممارسات، رغم بساطتها، تؤدي في المحصلة إلى خدمة أهداف العدو من خلال زعزعة الأمن النفسي لجمهور المقاومة، خاصة في ظل غياب الوعي النقدي الكافي لدى المستخدمين.
خاتمة: نحو مواجهة معرفية واستراتيجية للحرب الرمادية
إنّ الحرب النفسية الجارية تمثل جبهة صدام مركزية لا تقلّ خطورة عن ساحات المعارك العسكرية، بل تتطلّب مستوى أعلى من الوعي، وسرعة أكبر في التفاعل والمعالجة. ومن هذا المنطلق، فإنّ المواجهة الفاعلة لهذه الحرب تقتضي ما يلي:
• رفع مستوى الوعي النقدي والإعلامي لدى مختلف شرائح المجتمع، ولا سيما فئة النخب؛
• تطوير المنصّات الإعلامية المقاومة، القادرة على إنتاج محتوى احترافي، موثوق، وسريع التأثير؛
• كشف أدوات التضليل الرقمي، وتحديد مصادرها، وتعقّب شبكات تمويلها؛
• بناء منظومات تنسيق بين المؤسسات الإعلامية والأمنية ضمن محور المقاومة لمواجهة الحملات المركبة.
غير أنّ هذه الإجراءات تظلّ غير كافية إن لم يواكبها استنفار حقيقي في أوساط النخب الثقافية، الدينية، والسياسية، يدفعهم نحو التحديث المستمر لمعارفهم، والإلمام العاجل بالتقنيات الناشئة في ميدان الذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا “الديبفِيك”، وأساليب الفبركة الحديثة التي تُستغل في إنتاج محتوى مرئي ومسموع خادع.
فكلّ مقطع مفبرك قد يُحدث أثرًا أعمق من رصاصة، وكلّ خبر كاذب قد يكون أشد فتكًا من قذيفة. والانتصار في هذه المعركة الرمادية يبدأ من فهم البيئة التكنولوجية المتحوّلة، وتحصين وعي الجماعة، ومنع اختراقها من الداخل.
إنها معركة دفاع عن السيادة المعنوية، ورفض للهيمنة الرقمية، واستعادة للمبادرة في ميدان الإدراك الجماهيري.