تفسير الشيخ مغنية عن علاقة الابمان بالغيب والصلاة

الكاتب : د. فاضل حسن شريف
—————————————
عن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله تعالى “الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ” (البقرة 3) العالم بكل شيء لا مكان له: قيل: ان عالما كان يجلس في مكان الصدارة، والناس من حوله يستمعون له، ويخشعون، فحسده منافس له في المهنة، فقال له بمسمع من الجميع: ما قولك بكذا ؟ وسأله مسألة أشبه بالطلاسم. فقال العالم: لا أعلم. قال السائل: ان المكان الذي أنت فيه لمن يعلم، لا لمن لا يعلم. قال العالم: ويلك، ان هذا المكان لمن يعلم شيئا ولا يعلم أشياء، والذي يعلم كل شيء لا مكان له. أجل، ان الإنسان يستحيل أن يحيط بكل شيء علما: “وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ” (الإسراء 85). المعرفة: لا أحد من الناس يخلق عالما بشيء من الأشياء، وانما تتجدد له المعرفة آنا بعد آن بسبب من أسبابها، حتى اسمه العلم لا يعرفه إلا بعد أن ينادى به أكثر من مرة، وقد ذكر أهل الاختصاص للمعرفة أسبابا، منها: 1 – أن يتلقى الإنسان معلوماته من إحدى حواسه الخمس، كمعرفته الألوان بالبصر، والأصوات بالسمع، والروائح بالأنف، والطعوم بالذوق، والصلابة وما إليها باللمس.. ومثلها ما يتصوره الإنسان عن طريق مشاعره الباطنية، كالجوع والشبع، والحب والبغض. 2 – أن يتلقى معارفه من المراقبة والتجربة. 3 – أن يتلقاها بالبديهة، أي أن يشترك في معرفتها جميع العقلاء مثل: واحد وواحد اثنان، والأشياء المساوية لواحد متساوية، والشيء النافع خير من الضار، أو يتلقاها من إعمال الفكر واجتهاد العقل الذي يتلقاها بدوره من الحواس، أو التجربة أو البديهة، مثل الحكم على كل قطعة من قطع الحديد بأنها جسم صلب، فان هذا الحكم على كل قطعة ما وقع منها في خبرة الحس، وما لم يقع، ان هذا الحكم لا يعتمد على اختبار كل القطع الحديدية، وانما اعتمد على مجرد تصور العقل وتنبؤه بوجود قدر جامع بين جميع قطع الحديد، وعلى هذا يكون الحكم الشامل عقليا لكنه استخرج من المعرفة التي تستند إلى التجربة. 4 – أن لا يتلقى معلوماته من الحس، أو التجربة، أو القوة العقلية، بل يتلقاها مباشرة وبلا واسطة. وذلك بعد جهاد النفس لتنقيتها من الشوائب كما يقول المتصوفة. وبكلمة أوضح ان القلب عند المتصوفة تماما كالعقل عند غيرهم فكما ان العقل يدرك بعض الأشياء بالبديهة، ومن غير نظر، والبعض يدركه بالاجتهاد والنظر كذلك القلب، فإنه يشعر بأشياء من غير حاجة إلى جهاد النفس، كشعوره بالحب والبغض والبعض يشعر به بعد جهاد النفس، كوجود الباري وصفاته، فالاجتهاد العقلي عندنا يقابله جهاد النفس عند المتصوفة. ولا أحد يستطيع أن يناقش الصوفي في آرائه ومعتقداته، لأنك إذا سألته عن الدليل يجيبك بأن ايماني وعلمي ينبع من ذاتي وحدها.. وإذا قلت له: ولما ذا لا ينبع هذا الإيمان، وهذا العلم من ذوات الناس، كل الناس ؟ يقول: لأنهم لم يمروا بالتجربة الروحية التي مررت بها. ونحن نقف من هذا التصوف موقف المحايد المتحفظ، فلا نثبته، لبعده عما عرفنا وألفنا، ولا ننفيه، لأن المئات من العلماء في كل عصر، حتى في عصرنا هذا يؤمنون بالتصوف على تفوقهم، واختلافهم في الجنس والدين والوطن واللغة، وليست لدينا أية حجة تنفي التجارب الشخصية البحتة، ومن الجائز أن تكون تجربة الصوفي أشبه شيء باللحظات التي يلهم فيها الشاعر والفنان، ولكن هذا شيء يعنيه وحده، ولا حجة له فيه على غيره، حيث لا ضابط له، ولا رابط.

ويستطرد الشيخ مغنية قائلا في تفسيره المبين للآية المباركة البقرة 3 عن الغيب: الغيب: وهناك أشياء لا وسيلة إلى معرفتها بالحس والتجربة والقوة العقلية، منها: اللوح المحفوظ والملائكة، وإبليس، وحساب القبر، والجنة والنار. ومنها: انقلاب العصا حية، واحياء الموتى، وما إلى ذلك مما أخبر به النبي، ولا يستقل العقل بإدراكه، ولم نره نحن بالعين، كل ذلك هو المقصود بالغيب في قوله تعالى: ” يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ”. فالغيب هو الذي لا يمكن التوصل إلى معرفته الا بالوحي من السماء على لسان من ثبتت نبوته وصدقه بالعقل: “وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ” (الأنعام 59). وبهذا يتبين ان الايمان بالغيب جزء من الإسلام، وان من لا يؤمن به فليس بمسلم. وأيضا يتبين ان ما لا يمكن استكشافه بالمشاهدة والتجربة، أو بالعقل، ولم تنزل به آية من كتاب اللَّه، أو تأتي به رواية عن رسول اللَّه فهو أسطورة وخرافة، كأكثر ما يرويه الرواة من الإسرائيليات، وما إليها. الدين والعلم: والغريب ان الطبيعيين يؤمنون بالغيب، لأنهم يعتقدون اعتقادا جازما بأن الكون وجد صدفة. وليس من شك ان الايمان بالصدفة ايمان بالغيب، لأن الطبيعيين لم يشاهدوها بالعيان، إذ المفروض انهم وجدوا بعد الكون، وأيضا لم يدركوها بالعقل، لأن العقل يبطل الصدفة، أولا تقع تحت اختباره اثباتا ولا نفيا على الأقل. والأغرب انهم يسمحون لأنفسهم أن يفترضوا وجود مادة لطيفة يطلقون عليها اسم الأثير، ومنها وجد الكون بزعمهم، بل يؤمنون بذلك ايمانا لا يشوبه ريب، ثم يحرمون على غيرهم أن يفترض ويؤمن بوجود قوة حكيمة مدبرة وراء هذا الكون. مع العلم بأن هذا الافتراض أقرب إلى العقل والقلب من افتراض وجود مادة عمياء صماء. وعلى أية حال، فان الغيب يدل اسمه عليه، يدرك بالوحي فقط، لا بالتجربة ولا بالعقل. أجل شرطه الوحيد أن لا يتنافى مع العقل، لا أن يستقل العقل بإدراكه. وعلى هذا فلا يبقى مجال لأية محاولة تهدف إلى اخضاع الوحي ونصوصه للعلم التجريبي. ان مهمة هذا العلم تنحصر في محاولة الإنسان لفهم الطبيعة، والسيطرة عليها، ويجيب عن هذه الأسئلة: ما هي القوى التي تتألف منها طبائع الأشياء من جماد ونبات وحيوان؟ وكيف نصمم طائرة تزيد سرعتها على سرعة الصوت؟ ولا يدرك العلم التجريبي من أوجد الطبيعة ونظامها.

وعن علاقة الدين بالصلاة كما جاء في تفسير الآية البقرة 3 يقول الشيخ محمد جواد مغنية: أما الدين فإنه يعرفنا بأسباب الوجود ويعطينا المفاتيح الرئيسية لمعرفة خالق الكون ويقودنا إلى ما ينبغي عمله في هذه الحياة، لنحقق أهدافنا الروحية والمادية. ان المصنع وحده، والحقل وحده، أوهما معا لا يفيان بجميع أغراض الإنسان وأهدافه، لأن الإنسان ليس جسما ومادة فقط، انه مادة وروح وعاطفة ووعي. ان في داخل الإنسان رحمة شاملة، اسمها الانسانية، ونورا ساطعا، اسمه العقل الذي يتصاغر أمامه، ويتضاءل العالم الأكبر. ان مطالب جسمنا هذا المحسوس من الأكل والشرب والنوم قد فرضت نفسها علينا فرضا، ولا خيار لنا في رفضها، فنحن نسعى للقيام بها دون اختيار، ولا يختلف في ذلك فرد عن فرد عالما كان أو جاهلا، نبيا أو غير نبي. أما الروح فتختلف مواهبها ومطالبها باختلاف الأشخاص والأفراد، وكثيرا ما يكبت الإنسان عواطفه وميوله، ويكظم غيظه، ويتجرعه طواعية، لا قسرا، ويكون الخير كل الخير في هذا الكبت والردع، على العكس من الجسم إذا لم نلب مطالبه. هذا، ولوكان الإنسان جسما فقط لتحكم به علماء الطبيعة، كما يتحكمون بالمادة، ولاستطاعوا أن يعرفوا أسرار النفس وكوامنها، وان يحولوا جحودها إلى ايمان، وإيمانها إلى جحود، وحزنها إلى فرح وفرحها إلى حزن، وحبها إلى بغض وبغضها إلى حب، وإدراكها إلى جنون، وجنونها إلى ادراك، وشيخوختها إلى شباب، وشبابها إلى شيخوخة. ولو استرسلت في هذا الباب لملأت العديد من الصفحات.. وأرجو أن أوفق لعرض هذه المسألة في المناسبات الآتية بصورة أكمل وأوضح. والقصد من هذه الإشارة هو البيان بأن موضوع العلم التجريبي شيء، وموضوع الدين والوحي شيء آخر.. فالأول موضوعه المادة جامدة كانت، أو نامية، وهدفه الكشف عما تحتوي عليه من قوى، والثاني موضوعه حياة الإنسان بشقيها المادي والروحي، وان شئت قلت حياته الروحية والعملية. أما هدفه فهو أن يعيش الناس، كل الناس عيشة راضية مرضية. أجل، ان الإسلام يحترم العقل والعلم النافع، ويحث على طلبه، ويعتبره فريضة على كل مسلم ومسلمة، ويرفع أهله درجات، ومن أجل هذا يجب على المسلم بما هو مسلم أن يعتقد بأنه لا شيء في العلم الصحيح أو العقل السليم، يتنافى مع الإسلام، ولا في أحكام الإسلام ما يتنافى معهما.. ان عدم المنافاة والمناقضة شرط أساسي، أما أن يستقل العقل، أو العلم التجريبي بإدراك كل حكم من أحكام الإسلام فليس بشرط. وتسأل: لقد ثبت عن الرسول الأعظم صلى الله عليه واله قوله: (أصل ديني العقل) وهو بظاهره يدل على ان العقل يدرك جميع الأحكام الدينية الاسلامية؟. الجواب: ان الإسلام يرتكز أول ما يرتكز على الألوهية والنبوة، ومنهما تنبع تعاليمه وأحكامه، والسبيل إلى معرفتهما هو العقل، وعليه يكون معنى الحديث الشريف ان الإسلام الذي يرتكز على الألوهية والنبوة اعتمد في إثباتهما على العقل، لا على التقليد والمتابعة العمياء، ولا على الخرافات والأساطير. قد تحكم السلطة على شخص بالإقامة الجبرية في بلد معين، وتحجر عليه ان يتعداه إلى غيره، وتلزمه بالحضور كل يوم في الدائرة المختصة اثباتا لوجوده، فان تخلف كان مسؤولا. واختط الإسلام للمؤمن مخططا خاصا يثبت به ويؤكد كل يوم خمس مرات إيمانه باللَّه فاطر السماوات والأرض، وإخلاصه في جميع أعماله: “وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ” (الأنعام 79). “قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ” (الأنعام 162-163). ومن ترك الصلاة جاحدا فهو مرتد عن الإسلام، أو متهاونا فهو فاسق مستحق للعقاب. وبهذا نجد تفسير قول الإمام أمير المؤمنين في نهج البلاغة: (ان رسول اللَّه شبه الصلاة بالحمّة هي عين تنبع بالماء الحار تكون على باب الرجل، فهو يغتسل منها في اليوم والليلة خمس مرات، فما عسى أن يبقى عليه من الدرن). أي ان المواظبة على الصلاة تزكي القلب من الارتداد والفسق، تماما كما يطهر الاغتسال الجسم من الأقذار، وأي شيء أقذر من الكفر والفسوق؟