المهدوية بين النص القرآني والتأويل الغربي ( مقارنة في مناهج الفهم والتفسير)

الكاتب : الاستاذ حسين شكران الاكوش العقيلي
—————————————
المهدوية بين النص القرآني والتأويل الغربي: مقارنة في مناهج الفهم والتفسير
إعداد: الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي – ماجستير فقه مقارن
المقدمة
تُعدّ فكرة المهدوية من أعمق المفاهيم العقدية التي تشكلت في الوعي الإسلامي، إذ تلتقي عندها النصوص الدينية بالآمال الإنسانية، والعقيدة بالانتظار، والواقع بالمستقبل. وقد حظيت هذه الفكرة باهتمام واسع داخل الفكر الإسلامي بمذاهبه المختلفة، حتى غدت رمزًا للخلاص الإلهي، ومبدأً للإصلاح الكوني في آخر الزمان.
وفي المقابل، مثّلت المهدوية مادة خصبة في الدراسات الاستشراقية الغربية التي تناولتها بقراءة مغايرة، تتراوح بين التأويل التاريخي والسياسي والاجتماعي، بعيدًا عن الإيمان بالغيب أو التسليم بالنص. وهكذا برز تباينٌ واضح في منهج الفهم بين منطلقات الإيمان الإسلامي، ومنهج التحليل الغربي الذي يتعامل مع العقيدة بوصفها ظاهرة بشرية لا وحيًا سماويًا.
أولاً: المهدوية في ضوء النص القرآني
القرآن الكريم، وإن لم يذكر لفظ “المهدي” صراحة، إلا أنّه أشار إلى المضمون والمبدأ الذي تقوم عليه الفكرة المهدوية، كالوعد الإلهي بوراثة الأرض للمستضعفين، وإقامة العدل بعد الظلم، وظهور الدين على سائر الأديان. يقول تعالى:
﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5)
هذه الآية، مع غيرها من النصوص، شكّلت الأساس الذي انطلقت منه المدرسة القرآنية في تثبيت مفهوم الخلاص الإلهي، بوصفه وعدًا حتميًا لا يتحقق إلا بقيام قائدٍ ربانيّ يُقيم العدل ويُنهي هيمنة الباطل.
وقد ربط المفسرون الشيعة – بخاصة – بين هذه الوعود القرآنية وبين الظهور المهدوي، مؤكدين أن مشروع الإمام المهدي عليه السلام هو الامتداد الطبيعي للسنّة الإلهية في نصرة الحق وإتمام الدين. ومن هنا نجد أن التفسير القرآني الإسلامي يعتمد على المنهج النصّي الإيماني الذي يقرأ الغيب بوصفه امتدادًا للوحي، ويؤمن بأن الغيبة والظهور ليستا رمزين بل حقائق غيبية ذات أبعاد وجودية وتشريعية.
ثانياً: التأويل الغربي للمهدوية
في المقابل، فإنّ الفكر الغربي الاستشراقي – منذ القرن التاسع عشر – قد تناول المهدوية كمفهوم اجتماعي-سياسي أكثر من كونه إيمانًا غيبيًا. فقد اعتبرها المستشرقون ظاهرة تعبيرية عن الاضطرابات السياسية والروحية في المجتمعات الإسلامية، أو أداةً لتبرير الثورات الشعبية ضد السلطة.
ومن أبرز من تناولها في هذا الإطار المستشرق الألماني جولد تسيهر، الذي رأى في المهدوية “حركة نفسية اجتماعية نابعة من الحرمان السياسي”، وكذلك فان فلوتن الذي ربط الفكرة بسياق التشيع التاريخي بعد مقتل الإمام الحسين عليه السلام.
أما المستشرق البريطاني مونتغومري وات، فقد اعتبرها “أسطورة سياسية” تسعى إلى تعويض فقدان الزعامة الشرعية في العالم الإسلامي.
وهكذا، يغيب عن التأويل الغربي البعد الإلهي والروحي للمهدوية، لتحل محله قراءة مادية تاريخية، تختزل الإيمان بالمهدي المنتظر في إطار التحليل النفسي والاجتماعي، متجاهلةً أبعادها القرآنية التي تربطها بالوعد الإلهي والعدل الكوني.
ثالثاً: المقارنة بين المنهجين
1. في المنطلقات:
المنهج الإسلامي ينطلق من الوحي والإيمان بالغيب، فيرى المهدوية وعدًا إلهيًا قائمًا على النصوص القطعية، في حين ينطلق المنهج الغربي من التجربة الإنسانية والعقل التاريخي، فيتعامل مع النص بوصفه منتجًا ثقافيًا قابلًا للتأويل والنقد.
2. في المنهج التفسيري:
المفسر الإسلامي يعتمد على التكامل بين النص والعقيدة، بحيث لا ينفصل التفسير عن الإيمان. أما الباحث الغربي فيعتمد على المنهج النقدي الوصفي، الذي يُقصي القداسة ويحلّل الظاهرة من الخارج.
3. في الغاية والمقصد:
يرى الفكر القرآني أن المهدوية مشروع إصلاحي إلهي لإنقاذ البشرية، بينما يرى الفكر الغربي أنها تعبير عن أزمة داخلية في المجتمعات الإسلامية تبحث عن رمز للخلاص.
ومن هنا تتجلى الفجوة المنهجية بين رؤيةٍ تؤمن بالوعد الإلهي ورؤيةٍ تؤطر الغيب بالإنسان.
رابعاً: النتائج والدلالات
إن المقارنة بين المنهجين تفضي إلى نتائج مهمة، منها:
أن القراءة الإيمانية للمهدوية تمنحها طابعها الكوني والروحي، بينما القراءة الغربية تحصرها في الإطار الزمني والسياسي.
أن النص القرآني لا يُمكن فهمه خارج سياق الإيمان بالغيب، إذ يمثل الغيب بُعدًا جوهريًا في بنية الفكر الإسلامي.
أن التفسيرات الغربية، رغم قيمتها التحليلية، تكشف عن عجز معرفي في إدراك البنية الماورائية للعقيدة الإسلامية، لأنها تُقارب الوحي بمقاييس التاريخ البشري.
أن الحوار بين المنهجين يجب أن يقوم على الاحترام المتبادل للمناهج المعرفية، لا على نفي أحدهما للآخر.
الخاتمة
إن المهدوية ليست فكرة غيبية فحسب، بل هي مشروع إلهي لإحياء القيم الكبرى التي بُني عليها الوجود الإنساني. وقد أثبتت المقارنة بين النص القرآني والتأويل الغربي أن الفهم الإيماني أقدر على تفسير هذه الفكرة بما ينسجم مع روح النص وقدسيته، بينما يبقى التأويل الغربي محكومًا بحدود التجربة والعقل التاريخي.
وفي نهاية المطاف، يبقى القرآن هو المرجع الذي يفتح أمام الإنسانية باب الأمل بظهور من “يملأ الأرض قسطًا وعدلًا”، في وقتٍ تموج فيه الدنيا بالظلم والاضطراب، ليكون المهدي عليه السلام رمز العدالة الإلهية المنتظرة وامتدادًا لوعد الله الذي لا يتبدّل.