حقوق الإنسان بين النص الدستوري والرؤية الفقهية: دراسة مقارنة في ضوء القانون العراقي والفقه الإمامي

الكاتب : الاستاذ حسين شكران الاكوش العقيلي
—————————————
✍️ الأستاذ حسين شكران الأكوش العقيلي – ماجستير فقه مقارن
يُعَدّ الحديث عن حقوق الإنسان في الفكر الإسلامي والأنظمة القانونية الحديثة من أكثر الموضوعات عمقًا وتشعبًا، إذ يتقاطع فيها الفقه مع القانون، والمقدّس مع الوضعي، والحق الفردي مع المصلحة العامة. وبين هذين البعدين – الفقهي والقانوني – تشكل التجربة العراقية ميدانًا ثريًّا للدراسة المقارنة، لما يتضمنه الدستور العراقي من نصوص مستوحاة من المرجعية الإسلامية من جهة، ومن المواثيق الدولية لحقوق الإنسان من جهة أخرى.
في الفقه الإمامي، لا تُقدَّم حقوق الإنسان على أنها منحة قانونية أو امتياز اجتماعي، بل هي كرامة أصلية مغروسة في جوهر الخلق الإلهي للإنسان. فالقرآن الكريم حين يقول: “ولقد كرّمنا بني آدم” (الإسراء:70) إنما يقرر مبدأ الكرامة بوصفه أصلًا وجوديًا لا يزول بزوال السلطة أو تبدل الزمان. ومن هذا المنطلق، فإن الحرية، والعدالة، والمساواة، وحق الحياة، وحق التملك، وحرية الاعتقاد، كلّها تُستمد من تصوّر إلهي يجعل الإنسان خليفة الله في الأرض، لا مجرد كائن اجتماعي محكوم بالقانون.
أما في القانون العراقي، فقد أقرّ الدستور لعام 2005 منظومة واسعة من الحقوق والحريات الأساسية، مؤكّدًا في مادته (14) مبدأ المساواة أمام القانون دون تمييز بسبب الجنس أو الدين أو المذهب أو القومية أو الفكر أو الوضع الاجتماعي. كما نصّت المادة (37) على حرمة الإنسان وكرامته، ومنعت جميع أشكال التعذيب والمعاملة القاسية، في حين ضمنت المادة (38) حرية التعبير والصحافة والتجمع السلمي.
ورغم هذا الانسجام الظاهري بين النص الدستوري والرؤية الفقهية، إلا أن المقارنة الدقيقة تكشف فروقًا جوهرية في المنطلق والمآل. فالقانون العراقي يستمد مشروعيته من إرادة الشعب الممثلة في البرلمان والدستور، بينما الفقه الإمامي يستمدها من الشرع الإلهي والعقل المستنير بالنص. وهذا يعني أن الحقوق في المنظور القانوني قابلة للتعديل بحسب المصلحة العامة، بينما هي في الفقه الإمامي ثابتة بثبوت النص ومقيدة بضوابط الشريعة ومقاصدها.
إن الفقه الإمامي، بطبيعته التأصيلية، يتعامل مع الإنسان بوصفه مكلفًا قبل أن يكون مواطنًا، ولذلك فإن الحقوق ترتبط بالواجبات ارتباطًا وجوديًا. فالحرية مثلًا لا تُفهم بمعزل عن المسؤولية الشرعية، وحرية الرأي لا تعني تجاوز حدود الأدب أو الطعن في المقدسات، بل تُمارس ضمن دائرة “لا ضرر ولا ضرار”. وهذا المنهج يضمن توازنًا دقيقًا بين الحرية والنظام، وبين الحق الفردي والمصلحة الجماعية.
أما في التطبيق الواقعي، فيواجه القانون العراقي تحديات جمّة في تحقيق الموازنة بين النصوص الدستورية والموروث الفقهي والاجتماعي، خصوصًا في المسائل المتعلقة بحرية المعتقد، والمساواة بين الجنسين، وحقوق الأقليات. وهنا يظهر الدور الحيوي للفقه الإمامي في ترشيد القانون لا في مناقضته، من خلال تأصيل مفهوم “الحق” في ضوء المقاصد العليا للشريعة التي تهدف إلى حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال.
وفي ضوء المقارنة، يمكن القول إن الفقه الإمامي يمثّل البعد الأخلاقي الروحي لحقوق الإنسان، بينما يشكل القانون العراقي الإطار التنظيمي العملي لها. وإذا ما تحقق التكامل بينهما، يمكن للعراق أن يقدم نموذجًا متميّزًا في العالم الإسلامي يجمع بين العدالة التشريعية والمشروعية الإلهية، فينطلق من قيم السماء ليحمي كرامة الإنسان على الأرض.
إن الخلاصة الجوهرية لهذه الدراسة أن الحقوق في الإسلام ليست رديفًا للحرية فحسب، بل مرادف للعدالة، وأن الفقه الإمامي والقانون العراقي – رغم اختلاف المسار التاريخي والمصدر التشريعي – يلتقيان في هدف واحد هو صون الإنسان من الاستبداد والانتهاك. ويبقى التحدي الأكبر في ترجمة هذه المبادئ إلى واقع مؤسساتي يحفظ للإنسان حريته دون أن يجرّده من مسؤوليته، ويمنحه الكرامة دون أن يقطع صلته بالمطلق الإلهي.