اسم الكاتب : رياض سعد
الكذب اساس الشرور وجذر المشاكل , ومنبع الاوهام والاضرار , وجالب البلايا والاخطار ؛ فلو جعلت الشرور في بيت , لأضحى الكذب مفتاحا له , وقد وردت الروايات التاريخية والدينية عن ال البيت وكرام الصحابة واجلاء القوم بما يؤكد ما ذهبنا اليه انفا ؛ اذ جاء فيها : (( … هل يكذب المؤمن؟ قال : إنما يفتري الكذب من لا يؤمن … ؛ وقد سأل الحسن بن محبوب الامام جعفر الصادق , قائلا له : يكون المؤمن بخيلا ؟
فأجابه : نعم ..
فقال : فيكون جبانا ؟
فأجابه : نعم ..
فقال: فيكون كذابا؟
فأجابه : لا، ولا خائنا، ثم قال : يجبل المؤمن على كل طبيعة إلا الخيانة والكذب … ؛ وجاء في روايات ال البيت وغيرهم ايضا : إياكم والكذب، فإن الكذب مجانب للإيمان … ؛ إن الكذب هو خراب الإيمان ؛ كثرة الكذب تذهب بالبهاء , خطت الخبائث في بيت وجعل مفتاحه الكذب … , الكذب رأس كل خطيئة , والكذب جماع كل شرٍّ وأصل كل ذمٍّ لسوء عواقبه وخبث نتائجه … )) بل وصل الامر بهم ان يأمروا اتباعهم بترك جد الكذب وهزله .
وقد يستطبن الكذب النفاق بل سمي بالنفاق الاصغر ؛ و المنافق كاذب لأن لسانه ينطق بغير ما في قلبه , لذا جاء في كتاب القران الكريم : (( فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ )) ؛ فالمنافق اشد خطرا على الامة من كل عدو ؛ لأنه يظهر شيء ويخفي اخر , وعدو السر اشد فتكا وخطرا من عدو العلانية ؛ وقد نقل لنا حكيم العراق وحاكمه الامام علي عن النبي محمد ما يثبت ذلك : (( … ولقد قال لي رسول الله صلى الله عليه وآله : إني لا أخاف على أمتي مؤمنا ولا مشركا. , أما المؤمن فيمنعه الله بإيمانه، وأما المشرك فيقمعه الله بشركه ، ولكني أخاف عليكم كل منافق الجنان عالم اللسان، يقول ما تعرفون ويفعل ما تنكرون … )) .
ومن الواضح ان النفاق والكذب هما سر دمار الأمم والدول ، وفشل الحضارات وانهيارها، وخراب الدين والإيمان ، وانهما سر التقهقر و الركض والهرولة الى الوراء، و انهما سر تحطم الجماعات والشعوب والأحزاب والعوائل والفئات والقيادات … الخ ، فهما جذر البلاء والشقاء … ؛ فلو اننا ذهبنا إلى الوزارات، او الشركات، أو الأسواق، أو الجامعات، والمدارس او مقرات الاحزاب والتنظيمات السياسية وغيرها، فسوف نجد ان سر الخراب في كل تلك الاماكن ؛ هو النفاق والكذب … ؛ و لو ذهبت إلى الوزارة الفلانية مثلا ، فستجد ان البعض كالمدير او الموظف لا يعمل بانتظام وبجودة وإتقان واخلاص ، إلا عندما تكون هيئة النزاهة أو الرقابة أو الرقيب أو المفتش موجوداً ، وإلا فهو يسرق من الوقت أو المال أو الامتيازات أو غيرها ، وكذلك الحال بالنسبة للسياسي والزعيم والمثقف والاعلامي والاستاذ الجامعي … الخ ؛ فانه يتقن عمله ويجد بخدمة ابناء وطنه وقول الحق وتحري الصدق ؛ لو وجد الرقيب والمحاسب فقط ، اما إذا لم يوجد رقيب ولا حسيب فإنه يخون الأمانة ويقصر بالمسؤولية ويتهاون بأداء مهامه … ؛ وكذلك قد تلاحظ عندما تذهب او تراجع تلك الدوائر والمؤسسات والمراكز والمقرات … الخ ؛ ان البعض ينافق ويدلس ويمارس الدجل والرياء والتملق ويدعي ما ليس فيه ويبالغ بالادعاءات والانجازات إن وجد رقيبا صارما ومحاسبا نزيها ومسؤولا وطنيا صادقا ؛ يقف على رأسه ويتابع عمله ويرصد تحركاته ؛ فإنه عندها يقوم بعمله على اتم وجه ويعامل المراجعين والمواطنين بشكل جيد … ، وان لم يجد رقابة وصرامة وقوانين عادلة تحاسب المخالفين وجهات تنفيذية نزيهة لا تقبل الرشاوى ولا تعترف بالمحسوبيات والالقاب والعناوين ولا تأخذها في تطبيق القانون والمحافظة على الوطن والسهر على امن وامان المواطن ؛ لومة لائم ؛ فانه يهمل ويتماهل ويسوّف اعماله ومسؤولياته ومهامه ؛ وعندها لا تستغرب عندما يقول للمراجع : اذهب وتعال غدا أو بعد غد ؛ او عندما يطلب رشوة , او عندما يعنف المواطن ويشتم المراجع … !!
ومن هنا تعرف ان الكذب والنفاق وسائر الموبقات والسلوكيات المنحرفة والمنكوسة ؛ سبب خراب الاوضاع العامة , وعذاب ابناء الامة العراقية ؛ وبسببها تهدر الطاقات والاوقات والجهود والاموال ؛ فالكذب كأساس البيت وكذلك النفاق ؛ ان غش المقاول والبناء فيه ؛ فأن البيت لا محالة يسقط على ساكنيه ولو بعد حين … .
وهنالك قصة شعبية متداولة تتحدث عن ضرر الكذب وتداعياته واهمية الصدق واثاره الايجابية على حياة الفرد والامة ؛ اذ روي ان هنالك رجل كان يمارس القتل والنهب والسلب واغتصاب النساء والسرقة … الخ ؛ وفي احد الايام أنبه ضميره ؛ فجاء الى احد كرام القوم واخيار الحي ؛ قائلا : كيف اترك هذه الموبقات والجرائم ؟
فأجابه : أترك الكذب والتزم الصدق … .
فقال الرجل : وما علاقة الكذب بهذه الجرائم التي ارتكبها …؟!
فرد عليه الرجل الناصح , قائلا : اترك الكذب وسترى … ؛ واقتنع بذلك وعزم على تنفيذ النصيحة ؛ فهم بالخروج من بيته كالعادة لممارسة الجنس مع جارته ؛ فسأله احد جيرانه اين انت ذاهب ؟ ؛ عندها لم يحر جوابا , ولم يستطع الكذب , فرجع الى بيته , وخرج في اليوم التالي من اجل سرقة احدهم ؛ فسأله احد اصدقائه ؛ الى اين تذهب ؟ ؛ وكذلك كانت ردة فعله تشبه ردة فعله بالأمس , فرجع خائبا … ؛ وهكذا استمر الوضع لمدة اسبوع , كلما هم بارتكاب احدى الموبقات والجرائم وسأله احدهم , لم يستطع الافصاح عن حقيقة نواياه وجرائمه التي ينوي ارتكابها , وكذلك لم يستطع الكذب … ؛ وعندها اقلع عن كل تلك الموبقات والجرائم ؛ لأنه التزم بقول الصدق وتجنب الكذب .
فإذا ما صار النفاق حالة في الأمة مستحكمة والكذب سلوك معتاد في المجتمع ، فان كل شيء سوف يفسد ويخرب وينهار؛ لأن الجوهر تُلف وفسُد وما ذلك الا لأن المنافق والكذاب لا يعترف بعقيدة اخلاقية او وطنية او انسانية او دينية ، فيكذب ويدلس ويحتكر ويفسد ويسرق … الخ ؛ إلى ما شاء الشيطان له أن يسرق ويفسد في الديار . (1)
وذلك عكس ما إذا كان الكل متقناً في عمله , ومؤمنا بما يقول , وملتزما بما يعتقد , وكان ظاهره كباطنه ، وكانت الامة تهوى الحقيقة والمجتمع يقدس الصدق ؛ فالحقيقة محبوبة من قبل الاحرار بل هي ضرورة حياتية لا يمكن الاستغناء عنها ، والبحث عنها بجد وصدق يكسبها أهمية عظمى في دنيا الناس، فبالحقيقة وحدها ينتشر الأمل، ويصبح الصدق سيدا، ولا تجد مكانا للكذب والخداع في المجتمع، سواء على مستوى القيادة أو على مستوى الأفراد… ؛ وعندها يكون الموظف أو العامل او المواطن الذي دوامه (8) ساعات ؛ ملتزما بأكملها ولا يضيِّع بعض الوقت أو أكثره ؛ من خلال اجراء الاتصالات الهاتفية الشخصية او اللهو( بالأنترنيت والموبايل وغيرهما ) أو بحديث مع صديقه مضيِّعاً بذلك حقوق الوظيفة والعمل والوطن والمواطن والمراجع … ؛ فلو التزم الكل بالصدق والحقيقة والنزاهة والاخلاص ؛ لتحولت حياتنا من حال الى حال ؛ وتغيرت حالتنا نحو السعادة والاستقرار والتنمية والازدهار ؛ ف حياتنا نتاج اختياراتنا وأهم ما نتبناه من خيارات , وما نمارسه يوميا من اعمال وسلوكيات وتصرفات … ؛ ولهذا السبب قرن كتاب القران الكريم تغيير الحال بتغيير سلوك وعقيدة الانسان (( إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم )) .
وقد عرَّف الحكماء الكذب بأنه مخالفة الكلام للواقع ... ؛ ولعلهم جاروا في هذا التعريف الحقيقة العرفية ... ؛ ولو شاءوا لأضافوا إلى كذب الأقوال , كذب الأفعال في تضليل العقول ... ؛ والعبث بالأهواء وخذلان الحق واستعلاء الباطل عليه … ؛ ولا فرق بين أن يكذب الرجل ... ؛ فيقول إني ثقة أمين لا أخون ولا أغدر فأقرضني مالا أعيده إليك … , ثم لا يؤديه بعد ذلك … ؛ وبين أن يأتيك بسبحة( 101) يهمهم بها فتنطق سبحته بما سكت لسانه من دعوى الأمانة والوفاء ... ؛ فيخدعك في الثانية كما خدعك في الأولى ، لا بل يستطيع كاذب الأفعال أن يخدعك ألف مرة قبل أن يخدعك كاذب الأقوال مرة واحدة ... ؛ لأنه لا يكتفي بقول الزور بلسانه حتى يُقيم على كذبته بيّنةً كاذبةً من جميع حركاته وسكناته ...؛ فقد يفعل الإنسان فعلاً يوهم به حدوث شيء لم يحدث، أو يعبر به عن وجود شيء غير موجود، وربما يكون الكذب في الأفعال أشد خطرًا أو أقوى تأثيرًا من الكذب في الأقوال كما اسلفنا انفا ، ومن أمثلة ذلك ، ما حكاه كتاب القران الكريم لنا من أقوال وأفعال إخوة يوسف ، إذ جاءوا أباهم عشاءً يبكون بكاءً كاذبًا … ؛ نعم قد يأتي الكذب بأشكال مختلفة ويتمثل في صور متنوعة ... ؛ فالموظف المرتشي والمسؤول الفاسد في هيئة النزاهة ؛ كاذب وان لم يتكلم ؛ وكذلك السياسي الجاهل والزعيم الفارغ ؛ كاذب لأنه يدَّعي لنفسه منزلة غير منزلته ؛ ورجل الدين الدجال والمرائي ؛ كاذب لأن ظاهره خلاف باطنه ,و لسانه ينطق بغير ما في قلبه ، وافعاله تخالف اقواله ؛ بل و احيانا يكذب على نفسه وعلى الله وعلى الناس في كل صباح ومساء على الرغم من تستره بالعناوين الدينية , ورفعه للشعارات الروحية والاخلاقية السامية , وتحصنه بالطقوس العبادية … ؛ والمرشح الانتهازي والحزبي الطماع ؛ كاذب في شعاراته الوطنية وادعاءاته السياسية ؛ لأنه كذب في دعوى الوطنية ومعرفة دهاليز واسرار الحكم والسياسة , وادعى ما ليس فيه ؛ والاعلامي المتملق والصحفي المرتزق كاذب ؛ لأنه يتجر بعقول الجماهير كما يتجر النخاس بالعبيد والإماء … الخ . (2)
وعندما رأى الناس القاتل يشيع جنازة القتيل ويبكي في مجلس عزاءه ؛ وسمعوا أكثر من يتكلم عن الشرف هي العاهرة ؛ وأكثر من يتحدث عن الأمانة هو اللص ؛ وأبلغ من يتحدث عن الكرامة هو الذليل ؛ و سمعوا الديكتاتور الظالم و المتعصب الغاشم يعد بالإصلاح والعدل والحرية والديمقراطية … ؛ استغربوا وقالوا : (( اسمع كلامك اصدقك .. اشوف افعالك استغرب )) ,
نعم المواقف هي وحدها من تكشف الأقنعة وتبين لنا معادن الرجال , وتميز الخبيث والكاذب من الطيب والصادق … ، والتعامل هو من يكشف لنا الحقيقة ، فمن رام معرفة صدق الوجوه فليتأمل في المواقف والسلوكيات اليومية ، وليتأمل أصحابها وسيرتهم وافعالهم ، عندها يسرى حقيقة الوجوه والنفوس ؛ وصدق السياسي بينجامين فرانكلين عندما قال : ((الأفعال دائماً أبلغ من الأقوال ، صدق ما تراه وانسى ما تسمعه )) .
وقديما قيل : جــزى الله الشـدائد كـل خير *** عرفت بها عدوي من صــديقي .
فأن لم تعمل القيادات والزعامات السياسية والدينية والاجتماعية , على حل مشاكل الناس , وتسهيل امورهم , ورفع مستواهم المعيشي والثقافي والحضاري والاخلاقي , ونشر العلم والمعرفة والثقافة والوعي والنظام والانضباط في اوساطهم وفي كافة مرافق ودوائر و مؤسسات الدولة الحكومية والاهلية , وحمايتهم من الاخطار والنكبات والضرر المادي والمعنوي والفواجع والازمات والحروب والفقر والمرض والجهل والتخلف و سائر الويلات … ؛ فلا خير في شعاراتها ولا صدق في ادعاءاتها ؛ اذ ان وعودها مجرد سراب يَحْسَبهُ الظَّمْآن مَاء ؛ وزخرف القول لا يغني من الحق شيئا … ؛ وصدق اهلنا عندما قالوا : ((تترجى من بارح مطر )) فكيف تطلب الصدق من الكاذب , والعلم من الجاهل , والنجاح من الفاشل , والكرم من البخيل , والشجاعة من الجبان , والموقف الحازم من المتلون المتردد …؟! .
لقد هان على الناس أمر الكذب وطبع النفاق …؛ لان قيادات و زعامات المجتمع ودوائر التأثير فيه , كاذبة ومنافقة ومدلسة وخائنة ؛ وبما ان الناس على دين الملوك والقادة والزعماء ؛ فهذه النتيجة تكون تحصيل حاصل … ؛ حتى اصبح الصادق والنزيه والوطني الغيور غريبا و منبوذا ومستبعدا ومغيبا … ؛ فالويل كل الويل لهؤلاء الصادقين والوطنيين والمثقفين والاعلاميين والمواطنين النزيهين الاحرار؛ الذين يعيشون وسط هذه الذئاب الغادرة والثعالب الماكرة واصحاب الاقنعة المزيفة والوجوه المتعددة والقلوب القاسية .
اصبح البعض يمارس الكذب بدون حدود ، يمارسه في حياتنا بشكل بشع ، ويستخدمه لأغراضه المشبوهة واهدافه المنكوسة بشكل لا يليق حتى بالوحوش ، يكذب من أجل مصالحه القومية والطائفية والفئوية والحزبية الضيقة ، يكذب من أجل تبرئة نفسه وجماعته و زمرته ، يكذب بكل شيء ؛ يكذب بمشاعره وعواطفه وفي علاقاته وصداقاته وعهوده وشعاراته ومواقفه … ؛ يكذب بكل ما ملك من مكر وخبث ودهاء و مال و وسائل , و قدوته في ذلك واسوته الحسنة السياسة الميكافلية ورموزها وشياطينها .
الكذب يندرج ضمن الجانب اللاأخلاقي وهو مصداق الباطل الجلي كما ان الصدق مظهر الحق والحقيقة ، كيفما كانت أسبابه ؛ وعليه لا ينبغي أن نمارسه في علاقاتنا وتصرفاتنا وكلماتنا وتعابيرنا واختياراتنا وقراراتنا … ؛ لذا جاء عن الامام موسى الكاظم : ((قل الحق وإن كان فيه هلاكك، فإن فيه نجاتك… ودع الباطل وإن كان فيه نجاتك فإن فيه هلاكك )) .
نعم قد يكون الصدق مؤلم ومكلف احيانا ؛ لكن لا تستقيم الحياة إلا به … ؛ وطالما سقط الاف الصادقين والاحرار ضحايا كلمة الصدق وصرخة الحق ؛ و ليس بغريب في مجتمع الانحراف والظلم والكذب وحكومات العمالة والخيانة والنفاق والفشل ؛ أن تكون التهمة هي قول الصدق وتحري الحق ؛ وأن تكون الجريمة هي الشرف والنزاهة . وأن تكون الجناية هي السعي لكرامة الامة ورفعة الشعب ؛ وأن تصبح مجرما خطيرا ومتهما مشبوها بمجرد انضمامك الى زمرة الاحرار الصادقين و الرجال الوطنيين … ، ولعل قصة العالم النحوي ابن السكيت العراقي من شواهد التاريخ على الضريبة الباهظة التي قد يدفعها الانسان الحر والرجل الصادق احيانا ؛ نتيجة لالتزامه بقول الصدق والحق وتجنبه لقول الباطل والكذب … ؛ فقد طلب منه المتوكل العباسي تأديب و لديه المعتز والمؤيد ، فأدَّبَهما خير أدب … ؛ وحين علم المتوكل بتشيُّعه ، سأله :أيّما أحبّ إليك ابناي هذان، أي المعتزّ و المؤيّد، أم الحسن و الحسين ؟
فغضب ابن السكيت و قال : والله إن قنبرًا خادم علي بن أبي طالب خيرٌ منك و من ابنيك، فأمر المتوكل حرسه أن يستلُّوا لسانه من قفاه ، فسلّوه فمات من فورهِ ، و كان ذلك في الخامس من شهر رجب سنة 244هـ … !! .
ولعل بعضكم يسأل : إذا كان الكذب – في حد ذاته- وسيلة لا أخلاقية ومنافية للقيم العامة والتحضر والتمدن والاخلاق , والتعاليم الدينية والروحية … ؛ فكيف يتسنى للكذب والخداع أن يكتسبا مشروعية سياسـية ودينية من قبل بعض الاحزاب السياسية والساسة والفصائل والجماعات والشخصيات الدينية …؟!
فهؤلاء لا يكتفون بقول الاكاذيب بل وترديدها على مسامع الجماهير وتكرارها في وسائل الاعلام كافة , وبعضهم يكذب الكذبة ويصدقها , ويعتقد بها , وقد يحارب من يخالفه ويتهمه بالكذب والانحراف عن الحق والحقيقة ؛ بل وينسب الكذب لغيره ويلصق الاكاذيب بالآخرين الصادقين , ويبرئ نفسه منها , وطالما شاهدنا ومن على شاشات التلفزيون تهافت تصريحات بعض الساسة وتناقضها ؛ ولأنهم سريعو النسيان ؛ يفضحون انفسهم من كثرة التصريحات المتضاربة والاكاذيب الكثيرة والاقوال المتناقضة ؛ حتى أضحوا مهزلة واضحوكة للناس ؛ وباتوا استهزاءً رخيصاً للمشاهدين والمتابعين … ؛ وصدق من قال : (( فِي مُسْتَنْقَعِ الأَكَاذِيب لَا تُسَبِّح سِوَى الأسْمَاك الْمَيْتَة )) .
وللإجابة عن السؤال السابق ؛ نقول : البعض اباح الكذب بحجة التورية والتقية والعناوين الثانوية – مبحث فقهي من اراد التوسعة فيه فليراجع – ؛ او استنادا على القاعدة الفقهية : (( الضرورات تبيح المحظورات )) والبعض الاخر يكذبون ؛ ايمانا منهم بالنظرية السياسية الميكافلية , فهؤلاء عندهم : الغاية تبرر الوسيلة … ؛ والبعض يستهويه الكذب كما باقي الموبقات ؛ لأنه مرفوض وممنوع , باعتبار ان كل ممنوع مرغوب ؛ لذا تراه ، لا يتوانى عن إتيان الممنوع ، وذلك لما يمكن أن يحققه من وراءه من لذة أو مصلحة ، هذه النتيجة أو هذا الهدف يجعل الإنسان لا يكترث للممنوع ، وتصبح بذلك الغاية مبررا للوسيلة ، وتصبح المحظورات مباحة للضرورة ، فإذا كانت غاية الإنسان هي تحقيق مصلحته، فيمكن أن يستخدم لهذا الغرض وسيلة الكذب ، وإذا كان مضطرا لإتيان أمر ما ، فإن المحظورات والكذب واحد منها يجعل الإنسان قادرا على استخدام المحظورات من أجل تحقيق مصلحته … . (3)
وعندها لا يمكن التفريق بين هؤلاء والبعثية والنازية وغيرها من الحركات والاحزاب الاجرامية الارهابية المنحرفة على صعيد الواقع والمعطيات والمخرجات ؛ فكان شعار النازية : (( اكذب اكذب اكذب )) فالكذب والخداع والنفاق يمثل للأنظمة والقيادات السلبية ؛ مبدأ سياسي وطريقة عمل روتينية , وعقيدة وعبادة – بالنسبة لبعض الحركات والفصائل الدينية – , بل ارتبط وجودهم بممارسة الكذب والنفاق ؛ فأن جاء الصدق واشرقت شمس الحقيقة – ( لابد وان تطلع الشمس على الحرامية ) – ؛ او تركوا الكذب بمحض ارادتهم – مجرد مثال ؛ لأنه خلاف الواقع والمفروض – ؛ انهاروا وسقطوا , وانهارت حكوماتهم وقياداتهم …؛ لان شعارهم الحكم خدعة , والقيادة تعني المكر , والزعامة تعني المراوغة والدهاء , وسلوكهم مبني على اطلاق الشعارات والادعاءات و ممارسة شتى انواع التخديرات بحق الامة العراقية ؛ كي لا يعرف الشعب ما له وما عليه وماذا يراد منه … ؛ وهذه الامور السلبية لن ولم تتوقف يوما في العراق ؛ لان المستعمر البريطاني ومن بعده الامريكي يريد بقاء الشعب في دوامة الاكاذيب والنفاق السياسي والازمات والانتكاسات المستمرة .
واني لاستغرب من سؤال بعض سياسيي الصدفة و جهلة المناصب الحكومية ؛ عندما يتساءلون ببلاهة وسذاجة , بعد كل هذه الحقائق والمقدمات ؛ لماذا تعزف الاغلبية والامة العراقية عن المشاركة في الانتخابات …؟!
الا يعلمون ان قرارات واجراءات وانجازات الحكومات المنتخبة السابقة كانت مخيبة للآمال والتطلعات الجماهيرية , بالإضافة الى ان الشعارات الانتخابية المطروحة اغلبها طوباوية وهلامية وفضفاضة , ولا تعكس هموم المواطن اليومية ولا تمثل الواقع , ولا تلبي الطموح ولا تحقق احلام الشباب العراقي , ولا تمس حياة المواطن اليومية , فهي في واد والمواطن في واد اخر , بل ان بعضها مكررة وسمجة , ولذلك تفقد تأثيرها في الناخب … , وعندما يراجع المواطن سيرة الساسة والمرشحين ويقارن بينها وبين الشعارات المطروحة والادعاءات التي تملئ الاجواء صخبا وضجيجا ؛ سيعرف انه يعيش فصول مسرحية وهمية للتصريحات والمزادات والمزايدات , وان هذه السلوكيات تمثل ظاهرة سلبية كبيرة يتجسد فيها النفاق بأقذر صوره ؛ بل انه يرى مهرجان عالمي للكذب بكافة انواعه واشكاله القديمة والمستحدثة , والتضليل والدجل والتدليس .
ان أخطر نسيان يعيشه بعض البشر ؛ نيسان مبادئهم واصولهم وحقيقتهم والتحديات التي تحيط بهم ؛ فالهالك من لم يعرف حجمه وقدر نفسه , و من الواضح ان قيمة المرء ما يحسنه , وخير الناس من نفع الناس ؛ وقالوا اهلنا سابقا : (( الشجرة الي ما تفيي على اهلها كصها وخلي تولي )) فأن كنت لا تستطيع خدمة وحماية الاغلبية والامة العراقية , وعاجزا عن تقديم الخدمات لهم , ولا تستطيع اصلاح ملف الزراعة او الصناعة او التجارة او السياحة , وليس بمقدورك حل مشكلة الجفاف والتلوث والتغير المناخي وقلة المياه , وكذلك ليس بإمكانك رد التدخلات الدولية والاقليمية الخارجية وحفظ الحدود العراقية وحماية الثروات والخيرات الوطنية من عبث ونهب الاجانب والفاسدين … الخ ؛ فعلام ترشح نفسك , ولماذا لا زلت تتزعم وتتدعي القيادة …؟! .
فحال البعض كما قال المثل (احديده عن الطنطل ) لا يحل ولا يربط ؛ وصدق الشاعر عندما قال :
اذا انت لم تنفع فضر فإنما *** يرجى الفتى كيما يضر وينفع .
ومهما وجدوا من تخريجات واعذار وتبريرات للكذب والفشل والضعف والخداع والنفاق ؛ يبقى الْكَذِب وباقي الرذائل المذكورة ؛ دَلِيلٌ ضَعْفٌ الثِقَةٌ بِالنَّفْس و الشعور بالدونية والحقارة والانحطاط … ؛ والتأريخ لم ولن يرحم الكذبة والدجالين والسفلة والفاسدين كما فعل مع القتلة المجرمين والظلمة الجلادين .
ولا يلجأ الى هذه الموبقات الا صغار النفوس واشباه الرجال ؛ فهؤلاء فقدوا الصدق والشرف والنزاهة والشجاعة والوطنية , وقد تغلبت عليهم شهواتهم وامراضهم النفسية ومصالحهم الفئوية والعائلية والحزبية الضيقة , وشتان بين هؤلاء الشراذم وبين اصحاب الهمم الوطنية العالية والاخلاق والقيم والمثل السامية , من الذين لهم في الامام علي اسوة حسنة ؛ الذي قال قولته التاريخية في هذا الموضوع ؛ وقوله الفصل : (( لولا أن المكر والخديعة في النار لكنت أمكر العرب ؛ لولا التقى كنت أدهى العرب )) فأن لم تستطيعوا اتباع الامام علي ولن تستطيعوا ؛ فلكم في الحكومات الوطنية المتحضرة ؛ مثال يحتذى و قدوة ؛ فها هي الحكومات الديمقراطية الحكيمة والقيادات السياسية الوطنية تصارح الجماهير بالحقائق وتعامل الشعوب بمنتهى الصدق والنزاهة والشفافية , وتعمل جاهدة على رفع مناسيب الوعي السياسي الجماهيري , ورفد الشعب بالثقافة والمعرفة السياسية كي يكونوا على دراية بمصالح الوطن والتحديات الداخلية والخارجية التي تحيط به , ولعل تصريح مستشار رئيس الوزراء السوداني للشؤون الامنية خالد اليعقوبي في قناة ( تلفزيون عراق 24 ) اذ قال : كل الحكومات السابقة كانت تظهر للشعب شيء وتخفي عنه الحقائق الا حكومة السوداني فهي في السر والعلانية سواء … ؛ يكشف لنا عظم البلاء وسوء الحال ؛ وكل اناء بالذي فيه ينضح ؛ وصدق شاعرنا العظيم المتنبي عندما قال :
عَلى قَدْرِ أهْلِ العَزْم تأتي العَزائِمُ *** وَتأتي علَى قَدْرِ الكِرامِ المَكارمُ
وَتَعْظُمُ في عَينِ الصّغيرِ صغارُها *** وَتَصْغُرُ في عَين العَظيمِ العَظائِمُ
………………………………………………………
- (الكذب) سر سقوط الحضارات وفساد البلاد وخراب الايمان والنفاق / مرتضى الشيرازي / بتصرف .
- من خواطر الاديب المصري مصطفى المنفلوطي / بتصرف .
- عندما يلجأ الإنسان إلى الكذب! : حبيب آيت صالح / بتصرف .