اسم الكاتب : ثامر عباس
سبق للمفكر السوري (برهان غليون) أن أنجز دراسة قيمة في مضمونها بقدر ما هي جريئة في طروحاتها بعنوان ؛ المحنة العربية : الدولة ضد الأمة . وبصرف النظر عما إذا كنا مؤيدين أو معارضين لما حملته تلك الدراسة من تصورات فكرية أو إيحاءات سياسية استهدفت إقناع القارئ / المتلقي العربي بطبيعة مضامينها وتوجهاتها ، إلاّ ان أحدا”لا ينكر أنها وضعت يدها على بعضا”من أوجاع المآسي المتوطنة في بيئة البلدان العربية الموبوءة ، ليس فقط في مجال السياسة المضطرب باستمرار والتاريخ الملتهب على الدوام فحسب ، بل وكذلك في مجالات الاقتصاد الخرب والاجتماع المحترب والثقافة المجدب والوعي المستلب .
وإذا كان (غليون) قد وجّه أصابع الاتهام الى (الدولة) العربية لاعتقاده بدورها المحوري في إعاقة نهضة (الأمة) العربية من كبوتها المزمنة ، ومن ثم الحيلولة دون استئناف سيرورتها في مضامير التطور العلمي والثقافي والحضاري ، فان فداحة (المحنة العراقية) تدعونا هذه المرة لأن نوجه أصابع الاتهام ليس الى (الدولة) بما هي كيان مؤسسي مختطف من قبل الجماعات العصبية والكيانات الأصولية بعد أن تم تجريدها من عناصر سيادتها الإقليمية ومكونات هيبتها القانونية ، وإنما الى (السلطات) العديدة المذاهب والمتنوعة المشارب والمتعارضة المآرب ، والتي لم تفتأ تناصب الدولة العداء على أكثر من مستوى وفي أكثر من صعيد ، مثلما تسعى جاهدة لاخصائها بشتى الطرق والأساليب ، للحدّ الذي يجعلها ضعيفة الإرادة وعنينة القدرة وغير مؤهلة لحماية نفسها والذود عن سلطتها ، ناهيك عن حماية المجتمع الذي تحكمه داخليا”وتمثله خارجيا”، والذي يفترض بها أن تحفظ كرامته وتدافع عن مصالحه .
ولعل من مفارقات التاريخ في إطار المحنة العراقية أن تأتمر (الدولة) بأوامر (السلطة) وليس العكس ، كما ينبغي أن يكون الأمر في واقع التجربة الإنسانية الممتدة على مسار التاريخ . وإذا ما حدث – كما في بعض الحالات – وأن تجرأت (سلطة) ما على إزاحة (الدولة) من عرينها والحلول مكانها الشرعي والاستحواذ على مكوناتها المادية ومقوماتها الرمزية ، فان العواقب الناجمة عن هذا الفعل كانت – وستكون – وخيمة ليس فقط بالنسبة لمستقبل (الدولة) المنتهكة فحسب ، بل وكذلك بالنسبة لمصير (السلطة) التي تجاسرت على الخوض في هذا الغمار الشائك والخطر . ذلك لأن فعل (الاغتصاب) المؤسسي للدولة من قبل السلطة سيترجم تباعا”الى خراب في المؤسسات السياسية والأمنية ، وتداعي في الهياكل الاقتصادية والاجتماعية ، وتصدع في البنى الثقافية والرمزية ، وتفكك في المنظومات التاريخية والرمزية ، على خلفية تشظي جماعات السلطة الى أحزاب متصارعة ، وتذرر كياناتها الى قبائل متحاربة ، وانشطار ولائها الى طوائف متقاتلة .
ولعل ما يجعل المحنة العراقية تبدو بهذا القدر من الفجيعة المنغمسة في الطابع الكارثي (العدمي) كونها وليدة مصدرين أساسيين من مصادر الخراب العراقي المستديم ؛ الأول هو أن (الدولة) استمرت – منذ نشأتها الأولى – تتعاطى مع الشأن (الوطني) الجامع من منظور (أقوامي – مذهبي) تجزيئي ، بحيث تعذر عليها تأسيس هوية معيارية (عراقية) شاملة تقوم على مبدأ (المواطنة) التي تلزم الفرد باحترام (الدولة) وتحضّه على أن يقيم وزنا”لقوانينها واعتبارا” لتشريعاتها . وهو الأمر الذي سيؤسس لاحقا”لصيرورة المصدر الثاني القائم على شعور الإنسان العراقي – فردا”كان أم جماعة – ب (اغترابه) عن كل ما يتعلق بكيان الدولة ومؤسساتها وأجهزتها ، بحيث تولد لديه – بالتقادم والتراكم – انطباع لن يمحى من ذاكرته بسهولة مفاده ؛ ان كل ما ينتمي الى الدولة ماديا”أو معنويا”هو (غريب) عنه وعديم (الثقة) به ، وبالتالي شرعنة انتهاكه سواء بالسرقة أو بالتحطيم ان تعذر عليه ذلك . لاسيما وان الانسان العراقي ظل يحمل موروثا”متداولا”يفيد بان الدولة العراقية ما هي إلاّ صنيعة الاستعمار الأجنبي (البريطاني) المتحالف مع الإقطاع الريفي والمتواطئ مع الرجعية المدينية .
وفي ضوء ما يعيشه العراق حاليا”– أرضا”وشعبا”- من فوضى وخراب ودمار على جميع الصعد والمستويات ، تبدو لنا صورة المستقبل قاتمة وموحشة حيث يضمحل الأمل وينعدم الرجاء في إمكانية الخروج من هذا المأزق الوجودي والخانق التاريخي ، خصوصا”وان جماعات (السلطة) المنفلتة من عقالها لا تبرح تتعملق – بقوة السلاح – على كيان (الدولة) المتصاغر على نحو مستمر . ومما يزيد الطين بلّة ان (المواطن) العراقي المستلب الحقوق والمنتهك الحريات ، لا يجد من يذود عنه طغيان العنف بشتى أنواعه واستشراء الفساد بمختلف أشكاله سوى جماعات (السلطة) الأقوامية والطوائفية والقبائلية والمناطقية ، بعد ترسخ لديه الاعتقاد ان (الدولة) العراقية لم تعد قادرة على حمايته وضمان أمنه وتحقيق مصالحه ، بقدر ما أضحت مجرد عبارة جوفاء تلوكها ألسن الناس العاجزين وتتداولها خطابات الأحزاب البائسة ! .