اسم الكاتب : ثامر عباس
لعل من مزايا المنهج الجدلي انه يحض الفكر على رفض كل ما يعيق تطلعه إلى فضائل (التغيير) الاجتماعي ومزايا (التطوير) الثقافي من جهة ، ويحثه على مجانبة كل ما يشده إلى رذائل (الثبات) ورزايا (السكون) في مواجهة دفق الوقائع وفيض الأحداث من جهة أخرى . هذا في حين لا تفتأ رواسب الأصول الانثروبولوجية من السعي لإعاقة أي تقدم في مضامير الوعي وإيقاف أي تطور في ميادين السلوك . وكلما كانت سياقات المجتمع التقليدي أميل الى التأثر بتلك الأصول والانصياع لتلك الخلفيات ، كلما تقلصت مساحات الجدلية الاجتماعية وضعف دورها في إيجاد المخارج المناسبة لتجنب الوقوع في شباك الخوانق البنيوية والعوائق الوظيفية المسؤولة عن تواتر الأزمات في الواقع وتكاثر الإشكاليات في الوعي .
ولعل من أسباب إعاقة أواليات التفكير الجدلي من اختراق حواجز البنية الاجتماعية المتكلسة والمتحجرة ، ومن ثم حمل عناصرها على التفاعل والتمفصل البيني بما يفضي الى حراكها الدائم وتقدمها المستمر ، هو رجحان كفة الأصول الانثروبولوجية المضمرة بين ثنايا الوعي الجمعي والمتحكمة في سيكولوجية مثل هذه الأنماط الاجتماعية التقليدية ، خصوصا”وأن تلك الخلفيات والمرجعيات هي بمثابة مناجم لا ينضب ثرائها في مجال التصورات الاجتماعية ، ولا يشح غناها في مضمار التمثلات التاريخية ، ولا ينفد عطائها في ميدان الانزياحات الحضارية . لاسيما وأن الكيانات والتكوينات الجماعاتية (الأقوام والطوائف والقبائل) التي طالما كانت – وستبقى – الحاضنة العضوية لتلك الأصول ، والمحفز الطبيعي لاجتياف أعرافها وقيمها والتماهي مع رموزها ومخيالها ، لا زالت تتمتع بوجود اجتماعي طاغ وحضور ثقافي مسيطر .
ومما هو جدير بالذكر ، ان دور هذه الظاهرة النكوصية لا يقتصر فقط على الإسهام في تأجيج الأزمات السياسية وتعقيد الإشكاليات الاجتماعية كما تقدم ذكره فحسب ، بل ان تأثيرها السلبي يطال سيرورات الجدلية الاجتماعية ذاتها ، من خلال عكس مسار الديناميات الموكول إليها تحقيق التطور الحضاري المنشود ، كما سبق وبيناه في دراسة لنا تحت عنوان (الجغرافيا العراقية ومفارقات الديالكتيك الحضاري) . عازين ذلك الى دور (العوامل الذاتية) الناشطة في هذا النمط من المجتمعات المأزونة سياسيا”والمتشظية اجتماعيا”، والتي غالبا”ما كانت معرقلا”أساسيا”ومعيقا”فعليا” لأواليات وديناميات (العوامل الموضوعية) المشارك الرئيسي في دفع تلك السيرورات لبلوغ مراحل النضج والاكتمال . بمعنى ان الخاصية الجدلية للوعي لا تني تعاكس الخاصية الجدلية للواقع ، إذ كلما أمعنت عناصر هذا الأخير في انتهاج مسار التقدم الاجتماعي والاستجابة لضرورات التطور الحضاري ، كلما عمدت أصول الكيانات والمكونات الانثروبولوجية الى تحريف سيرورات الوعي باتجاه تصورات وسرديات وسياقات سابقة ، كان الواقع التاريخي قد أسقط شروطها وتجاوز معطياتها وتخطى علاقاتها ، الأمر الذي يجعل من عمليات الانزياح عن القديم والانفتاح على الجديد صعبة وغير ممكنة ، ان لم تكن باهظة التكاليف سياسيا”واقتصاديا”واجتماعيا”وثقافيا”وحضاريا”.
وكحال الغالبية العظمى من المجتمعات التي لا زال ماضيها يقرر توجهات حاضرها ويؤطر توقعات مستقبلها ، فان ما يعيق قدرة الجماعات والمكونات العراقية على التفكير بكيفية (عقلانية) ناضجة تتيح لها فهم ما يضطرم في رحم المجتمع من تقاطعات وتصادمات ، واكتناه ما يشترطه الواقع الموضوعي من ضرورات واستجابات ، والاندراج ، من ثم ، داخل سيرورات التقدم الاجتماعي وديناميات التطور الحضاري وتفاعلات الترقي الإنساني ، بما يجعلها تواكب تلك التحولات القيمية من شأنها تسهيل عمليات التحول والانتقال من طور (التبربر) الى طور (التحضر) ، وتمكنها من مجاراة تلك الانتقالات الحضارية من حقبة (التبدون) الى حقبة (التمدن) ، بأقل قدر ممكن من العوائق بنيوية ، أو الانقطاعات التاريخية ، أو الصدامات أصولية ، أو الارتدادات القيمية .
ولعل ما يثير الأسى في النفس ان الأصول الانثروبولوجية المتحكمة بأواليات بنى الوعي وأنماط الثقافة لدى الجماعات العراقية المتذررة ، لم تبرح تمتلك من مقومات القوة والصلابة ما يمكنها من مقاومة التغييرات الاجتماعية ومناهضة التحولات الحضارية فحسب ، وإنما يجعلها مصدر لا يستهان بدوره في إثارة المشاكسات الذهنية وخلق الممانعات النفسية ، إزاء كل محاولة يبديها الوعي التقليدي للتخلص من قيود الرتابة التي تكبل تطلعه ، والخروج من شرانق العطالة التي تعيق تحرره .