فبراير 11, 2025
news-280123-iraq_0

اسم الكاتب : منقذ داغر

ما سر الاهتمام الفرنسي بالعراق؟

تحليل جيوستراتيجي

خلال سنة واحدة فقط زار ماكرون العراق مرتين، الاولى في 3 سبتمبر 2020  واعلن خلالها عن مبادرته لدعم سيادة العراق  https://www.france24.com/en/20200902-macron-to-reassert-iraq-sovereignty-on-first-official-baghdad-visit والثانية في 27 أغسطس 2021 لحضور مؤتمر التعاون الاقليمي . واذا كانت الزيارة الاولى قد تضمنت رسائل مهمة بخصوص أهمية العراق لفرنسا بخاصة انها جاءت مباشرة بعد زيارة ماكرون المهمة للبنان،فأن الزيارة الثانية    https://www.france24.com/en/middle-east/20210829-macron-visits-the-former-is-group-s-stronghold-in-iraq-city-of-mosul  أكدت في رسائلها ليس فقط اهمية العراق لفرنسا،بل الالتزام بشراكة أستراتيجية تؤشر تحولا واضحا في النهج الفرنسي في العراق والمنطقة والذي كان دوما ظلاً فقط للسياسة الاميركية. لقد تضمنت هذه الزيارة اربع رسائل استراتيجية،اولها على الصعيد الجيو ستراتيجي حيث كانت فرنسا الدولة الوحيدة من التي حضرت المؤتمر المخصص لمناقشة التعاون الاقليمي وهي ليست من دول الاقليم،كما انها الدولة الوحيدة من الحاضرين ممن تتمتع بمقعد دائم في مجلس الامن الدولي.

وتكتسب الرسالة الثانية من زيارة ماكرون بعداً نفسياً وأمنياً مهماً،فهي قد جاءت مباشرةً بعد الانسحاب الامريكي وانسحاب الناتو من افغانستان مما اثار قلقاً كبيراً دى حكومات وشعوب المنطقة حول جدية التزام المنظومة الغربية عموما وفي مقدمتها امريكا بأمن المنطقة تجاه الارهاب والتطرف في المنطقة! كما ان ماكرون أكد التزام فرنسا بمحاربة داعش في العراق https://www.aa.com.tr/en/europe/france-vows-support-to-iraq-s-fight-against-daesh-isis/2348871 . يأتي ذلك في ظل مخاوف للمراقبين من احتمالات عودة داعش بقوة اكبر في العراق بعد انسحاب كل القوات القتالية الامريكية من العراق في نهاية هذه السنة وتحول مهماتها الى مهمات تدريبية فحسب بحسب الاتفاق الاخير بين الحكومتين الامريكية والعراقية.

أما الرسالة الثالثة فقد كانت أقتصادية،حيث تزامنت الزيارة مع توقيع شركة توتال الفرنسية العملاقة والتي تأسست في العراق قبل اكثر من مئة سنة،على عقد ضخم لاستثمار الغاز في حقول البصرة بقيمة عشرات المليارات من الدولارات https://totalenergies.com/media/news/press-releases/iraq-totalenergies-signs-major-agreements-sustainable-development-basra . كما تتجه النية لتنفيذ الشركات الفرنسية لمشروع مترو بغداد الذي ستموله الحكومة الفرنسية  https://www.reuters.com/article/iraq-metro-alstom-idUKKAM03414320110121  فضلا عن مشاريع اخرى في مجال اعادة اعمار المدن العراقية المحررة من داعش .

وتضمنت الرسالة الرابعة للزيارة بعداً وطنياً وثقافياً غالباً ما تم اغفاله من قبل القوى المنخرطة في الشأن العراقي بضمنها أمريكا. فقد تضمنت أجندة زيارة ماكرون ثلاث زيارات مهمة،الاولى لمرقد الامام الكاظم وهو واحد من اقدس الاماكن للشيعة العراقيين ولشيعة العالم عموماً .والثانية لمدينة الموصل التي كانت عاصمة دولة (الخلافة) لداعش وقد تضمنت تلك الزيارة بعدا روحياً وثقافياً للسنة العراقيين من خلال زيارة مسجد النوري الذي فجره داعش وزيارة لاحد اهم الكنائس هناك. وفي الخطوة الثالثة ،زار ماكرون مدينة اربيل والتقى زعمائها الكرد. بذلك ارسل ماكرون للعراقيين رسالة مفادها ان فرنسا تقف على مسافة واحدة من الجميع،وانها تنظر لكل جغرافية العراق على انها جزء لا يتجزأ من وحدة العراق وسيادته. https://www.euronews.com/2021/08/29/in-iraq-macron-visits-mosques-and-churches-in-the-ruins-of-mosul

أن من الواضح ان فرنسا-ماكرون باتت تنتهج سياسة جديدة في المنطقة (قد تكون العراق بوابتها) تختلف عما اعتادته السياسة الخارجية الفرنسية بعد ديغول الذي كان يؤمن بان على فرنسا ان تنتهج خطاً مستقلاً عن اميركا في سياستها الخارجية في العالم https://foreignpolicy.com/2010/09/02/charles-in-charge/  . لكن السؤال البارز هو:ما سر هذا الاهتمام المفاجىء بالعراق من قبل ماكرون؟ هل هو لاسباب انتخابية كما يشير لذلك بعض المحللين السياسيين  https://www.france24.com/en/middle-east/20210830-afghanistan-sahel-iraq-already-on-the-campaign-trail-macron-seeks-to-boost-his-global-image ؟ أم هناك اسباب استراتيجية أخرى وراء هذا الاندفاع الفرنسي نحو العراق؟ هناك كما يبدو عدد من الاعتبارات الاستراتيجية التي تدفع فرنسا نحو العراق كبوابة للمنطقة عموماً،يقع في مقدمتها التنافس الاقتصادي الجيو ستراتيجي مع الصين.

التهديد الجيوستراتيجي الصيني

تعود بدايات القلق الفرنسي من التنافس الاقتصادي الجيوستراتيجي مع الصين الى بدايات العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين عندما بدأت الصين تحركا اقتصادياً نشطاً وفعالاً في افريقيا التي تعد تقليدياً منطقة اهتمام جيوستراتيجي واقتصادي فرنسي.لفرنسا تاريخ طويل من الاهتمام بافريقيا حيث كانت تستعمر دزينة من الدول في غرب وشمال افريقيا منذ القرن الثامن عشر حتى القرن العشرين    https://courses.lumenlearning.com/boundless-worldhistory/chapter/france-in-africa/ .  حتى بعد الاستقلال،كانت هناك علاقات ثقافية وسياسية واقتصادية قوية بين افريقيا وفرنسا حتى ان فرنسا كانت هي البلد المصدّر الاول لكل المستعمرات الفرنسية السابقة لكن الصين استطاعت في السنوات الاخيرة ان تزيح فرنسا وامريكا عن قمة الشركاء الاقتصاديين لافريقيا لتصبح في عام 2019 الشريك الاقتصادي الاول بقيمة تصل الى 192 مليار دولار https://www.france24.com/en/africa/20210306-france-shifts-policy-on-aid-to-africa-to-counter-rising-chinese-influence .وعلى الرغم من تراجع نسبة نصيب افريقيا من حجم التجارة الخارجية الفرنسي الكلي من 60% عام 1950 الى 8.7% عام 1970 ثم 5% عام 2015 الا ان افريقيا ما تزال تشكل شريكا اقتصاديا مهما لفرنسا حيث ان حوالي 35% من النفط والغاز المستورد في فرنسا يأتي من أفريقيا،وان حوالي 28% من الغاز والنفط اللذان تنتجهما شركة توتال الفرنسية العملاقة تأتي من أفريقيا  https://www.aa.com.tr/en/africa/opinion-unfair-french-economic-relations-with-africa/2073357

وما يقلق فرنسا،والدول الغربية عموماً،هو الاسلوب الاقتصادي الكولونيالي الذي باتت تعتمده الصين مؤخرا من خلال اغراق دول العالم،وفي مقدمتها الافريقية،بفخ الديون الذي يجعل تلك الدول مدينة للصين بجزء كبير من ناتجها المحلي وبشكل يجعلها عاجزة عن السداد مما يعرض سيادتها للخطر الداهم. فمن مجموع 400-600 مليار دولار اقرضتها الصين للدول النامية كانت حصة الدول الافريقية كبيرة منها،حتى ان دولة مثل جيبوتي تدين بحوالي 100% من ناتجها المحلي الاجمالي GDP  الى الصين في حين تدين الكونغو والنيجر بحوالي ثلث ناتجها للصين،هذا من حيث الارقام المعلنة اما ارقام الديون المخفية وغير المعلنة فهي كبيرة ايضا https://www.ifw-kiel.de/fileadmin/Dateiverwaltung/IfW-Publications/Christoph_Trebesch/KWP_2132.pdf . لذلك صرح وزير الخارجية الفرنسي Jean-Yves Le Drian  بان فرنسا”في حالة من صراع النفوذ في افريقيا مع الصين”. في حين صرح الرئيس ماكرون في جيبوتي عام 2019 بان ازدياد التدخل الصيني في افريقيا يجبرنا على انهاء سلبيتنا في التعامل مع هذا الموضوع في المديين القصير والمتوسط لاننا لا نريد لنوع جديد من الاستثمارات الدولية ان يهدد سيادة شركائنا او يضعف اقتصاداتهم  China’s increasing involvement in Africa threatens to “end up being negative over the medium to long term”,

I wouldn’t want a new generation of international investments to encroach on our historical partners’ sovereignty or weaken their economies,” he added.    https://www.france24.com/en/africa/20210306-france-shifts-policy-on-aid-to-africa-to-counter-rising-chinese-influence  .ان هذا التهديد الذي اشار له ماكرون لسيادة الدول الافريقية نتيجة فخ الديون debts trap الذي تنصبه الصين لافريقيا والتي تعد ساحة اهتمام جيوستراتيجية لا لفرنسا فحسب بل لامريكا ولاوربا،هو الذي يدفع فرنسا لاستعادة دورها الذي لعبته طيلة الحرب الباردة. لقد كانت فرنسا وبتشجيع قوي من امريكا واوربا تستثمر علاقاتها السياسية والاقتصادية،والاهم من ذلك الثقافية الفرانكفونية لكي تشكل منطقة عازلة للنفوذ السوفيتي في افريقيا،ويبدو انها اليوم تستعيد ذات الدور ولكن في مقابل النفوذ الصيني المتصاعد هناك. ويبدو ان فرنسا خططت لمواجهة ذلك النفوذ الصيني المتنامي عبر منصة جي 5 الساحل   G5 Sahel وهي اطار عمل مؤسساتي افريقي تأسس عام 2014 بدعم من فرنسا والاتحاد الافريقي وتضم 5 دول افريقية. بناء على هذه المبادرة تأسس عام 2017 اطار عمل امني لمكافحة الارهاب والاتجار بالبشر ضمن ما يسمى  Cross-Border Joint Force in Bamako اشتركت فيه جيوش هذه الدول وبدعم من الامم المتحدة عبر قرارها  2359 of 21 June 2017 . وتم التبرع من الدول الاوربية وفي مقدتها فرنسا وكذلك امريكا باكثر من نصف مليار دولار لدعم هذه القوة التي نفذت عمليات امنية مشتركة لمحاربة الارهاب. كما تضمنت منصة G5 اطارا آخر يضمن تعاونا اقتصاديا  بين الدول الافريقية فتم تحت قيادة فرنسا تأسيس ما يسمى   Priority Investment Program  عام 2014 والذي تضمن انشاء عشرات المشاريع التنموية في الدول المشاركة وبمليارات الدولارات تم تقديمها بشكل منح وتبرعات من الدول الاوربية وامريكا وكثير من المنظمات الدولية https://www.diplomatie.gouv.fr/en/french-foreign-policy/security-disarmament-and-non-proliferation/crises-and-conflicts/g5-sahel-joint-force-and-the-sahel-alliance/ .

الانموذج الفرنسي في العراق

يبدو ان النجاح الذي حققته المبادرة الفرنسية في افريقيا من خلال تاسيس مجموعة الساحل 5 شجعت فرنسا،مدعومةً من اوربا وامريكا للعب دور مشابه في العراق الذي ما زال يمثل اهمية جيوستراتيجية للغرب حتى بعد تراجع الاهمية النسبية لنفط المنطقة بضمنه انفط العراقي،نتيجة تحول امريكا الى بلد مصدر للنفط ولتزايد الاعتماد عالميا على مصادر الطاقة البديلة. مع ذلك فيتوقع للنفط الذي يشكل حاليا 40% من مزيج الطاقة الدولي ان يستمر كمصر رئيس للطاقة لعقود كثيرة. كما يتوقع ان ينمو الطلب العالمي على النفط ب 38-115 مليون برميل يومياً. وستبقى الاوبك اللاعب الرئيسي في سوق الطاقة الدولية     https://www.opec.org/opec_web/en/902.htm. وبما ان العراق هو ثاني منتج للنفط في اوبك واحد اكبر احتياطات النفط العالمية فسيبقى العراق يتمتع باهمية استراتيجية لاقتصاد العالم. كما ان الموقع الجغرافي للعراق يجعله جسراً حيوياً لكل انواع النقل والربط بين الاسواق الاوربية والاسيوية.والاهم من ذلك فقد اثبت الغزو الامريكي للعراق مدى الاهمية الجيوستراتيجية للعراق . لقد ادى فشل ذلك الغزو الى تداعيات سياسية وامنية خطيرة في كل منطقة الشرق الاوسط كان من ابرزها تنامي قوة الحركات الارهابية في المنطقة والعالم. لقد ادى الاختلال الامني في العراق الى اطلاق موجات لا متناهية من العنف الديني والقومي ادت الى نزوح وهجرة عشرات الملايين من البشر مما ادى الى تهديد مباشر لامن اوربا وامريكا والعالم ككل. هذه الاسباب وسواها تجعل العراق منطقة اهتمام جيوستراتيجي لا لفرنسا فقط التي تضم اكبر جالية مسلمة ،بل لاوربا التي تنظر للمنطقة كساحة خلفية لها ،ولاميركا التي فضلا عن مصالحها الاستراتيجية في العراق فانها لا تريد ان يكون العراق من حصة منافسيها الدوليين(الصين وروسيا) او الاقليميين (ايران). كما لا تريد امريكا او حتى العالم، ان يكون مصير العراق مثل افغانستان.

من جهة أخرى فأن المصالح الحيوية الفرنسية،والاميركية، في أفريقيا ومعاناتها من تنامي نفوذ وقوة  الحركات الاسلامية المتطرفة والتي يرجح ان لها علاقات مع داعش مثل حركة الشباب التي صنفتها امريكا كحركة ارهابية مطلقة عليها اسم (داعش موزمبيق) تحتم عليها التعاون للقضاء على هذا الخطر المتنامي الذي بات يهدد حتى مصالحهما الاقتصادية المشتركة . وكمثال واضح على ضرورة هذا التعاون المريكي الفرنسي فقد احتلتت حركة الشباب(داعش موزمبيق) قبل اقل من شهر مدن مهمة في شمال موزمبيق واوقفت العمل في استثمار نفطي فرنسي امريكي هناك بقيمة 120 مليار دولار. ان مثل هذا التهديد للمصالح الاقتصادية للبلدين والذي يضاعف من معاناةهما بسبب المنافسة الصينية هناك يجعل من المتوقع جدا قيام فرنسا وامريكا بالتحرك عسكريا لمواجهة هذا التهديد لمصالحهما وذلك عبر استخدام منصة G5  والقوات المشتركة التابعة لها بدلا من التدخل المباشر هناك  https://www.newagebd.net/article/148656/is-k-taliban-and-africas-frozen-uprising  .ان انتشار تهديد الحركات الاسلامية المتطرفة يزيد بلا شك من اهمية التعاون الدولي لمحاربة داعش في العراق والمنطقة باعتباره النموذج الاصلي والملهم للحركات الاسلامية المتطرفة في افريقيا والعالم. لذا فان نجاح هذا الانموذج من التعاون الافريقي الاقليمي لمحاربة الارهاب قد يجعل فرنسا ومن ورائها امريكا واوربا لتطبيقه في المنطقة عبر البوابة العراقية.

من جانب آخر فان المنافسة الصينية لفرنسا وامريكا واوربا لم تقتصر على افريقيا بل وصلت للخليج العربي في السنوات القليلة الماضية . معروف ان العالم الغربي هو الشريك الاقتصادي الرئيس لدول الخليج العربي. لقد ادى نمو الصين الاقتصادي واكتفاء اميركا من الحاجة للنفط المستورد الى زيادة نسبة الصين في مجمل الصادرات النفطية الخليجية والتي تشكل حوالي 70% من مصدر دخل تلك الدول. ان ثلث الصادرات النفطية السعودية تذهب للصين وبذلك تفوقت على الصادرات النفطية الروسية للصين. كما ان ربع الصادرات النفطية الكويتية تذهب للصين ايضا. كما ان الصين وقعت خلال السنتين الاخيرتين عقود بعشرات المليارات من الدولارات وبخاصة في مجال الاتصالات والتكنولوجيا مع السعودية والامارات فضلا عن شرائها لحصص كبيرة في الشركات الخليجية العملاقة   https://www.worldpoliticsreview.com/articles/28924/how-china-is-quietly-expanding-its-economic-influence-in-the-gulf .

ومما زاد الطين بلة وقرع جرس الانذار بشدة في اذن الدول الغربية المنافسة للصين هو توقيع ايران لاتفاق شراكة استراتيجية مع الصين في آذار عام 2020 يمتد لخمس وعشرين سنة وبقيمة قدرها البنك الدولي بحوالي تريليون دولار https://www.mei.edu/publications/making-sense-iran-china-strategic-agreement . ومما يضاعف من قلق الدول الغربية من هذه الاتفاقية انها لا تتضمن شراكةً اقتصادية فحسب،ولا حتى تسهل للصين مشروعها العالمي الاستراتيجي (مبادرة الحزام والطريق BRI ) الذي سيكفل لها بسط نفوذها الاقتصادي العالمي ويتيح لها ميزة استراتيجية هائلة، بل ان ما قد يقلقها حقا هو تضمن هذه الاتفاقية لشق عسكري يتيح للصين ولاول مرة قدماً عسكرية في مياه واراضي الخليج التي تصنف تقليديا كمنطقة نفوذ اميركية https://www.nytimes.com/2020/07/11/world/asia/china-iran-trade-military-deal.html .  وتكمن خطورة هذا التواجد الصيني العسكري في ايران والتي تقع شرق منابع النفط في الجزيرة العربية، بأنه سيكمل طوق النفوذ الصيني في المنطقة مع وجود القاعدة الصينية في جيبوتي والتي تقع غرب الجزيرة العربية. ومع سعي الصين التي رغم امتلاكها لاكبر بحرية في العالم الا انها تفتقر للقواعد العسكرية الخارجية، للتمدد خارجياً وزيادة نفوذها عالميا فأن الموقف يبدو حرجا جدا للدول الغربية عموما وامريكا خصوصاً https://foreignpolicy.com/2021/07/07/china-pla-military-bases-kiribati-uae-cambodia-tanzania-djibouti-indo-pacific-ports-airfields/ . وعلى الرغم من زيادة الشكوك من قبل المراقبين المحايدين حول قدرة ورغبة الصين وايران على تنفيذ هذه الاتفاقية لاسباب تتعلق بمصالح الصين مع امريكا ودول الخليج من جهة ،وللاعتراضات الايرانية الداخلية على الاتفاق من جهة اخرى https://eurasianet.org/analysis-iran-china-pact-not-a-cure-all-for-tehrans-economic-woes

أن هذه العوامل بمجملها تضيف للعراق أهمية استثنائية لايقاف زحف النفوذ الصيني بحيث يطوق اوربا من الجنوب بعد ان بات يمتد في مناطق وسط آسيا ليطوق اوربا من الشرق. من هنا يمكن فهم الجهد الفرنسي مؤخرا في العراق. ففرنسا على ما يبدو تلعب دور رأس الحربة في ايقاف التمدد الصيني الاستراتيجي من جهة وفي المحافظة على المصالح الاقتصادية للغرب من جهة أخرى. لكن السؤال الذي قد يبرز هو،لماذا فرنسا بالذات؟ وماهي الميزات التي تمتلكها فرنسا للعب هذا الدور الاستراتيجي نيابة عن الغرب في  المنطقة؟ وقبل الاجابة على هذا السؤال يجب الاجابة على سؤال يتقدم عليه لفهم المسرح الجيوستراتيجي في المنطقة،وهو لماذا العراق كنقطة انطلاق للجهد الفرنسي والغربي لمواجهة التنافس الاقتصادي والجيوستراتيجي مع الصين؟

لماذا العراق؟

عانى العراق ومنذ الغزو الامريكي في 2003 من فقدان قدرته على ضبط التدخلات الخارجبة (الدولية والاقليمية) في شؤونه الامنية والاقتصادية والسياسية بل وحتى الاجتماعية. وعلى الرغم من ان معظم دول الاقليم كانت لها محاولات لضمان مصالحها في العراق من خلال سياسيين عراقيين يعملون لصالحها، الا ان الواقع يشير الى ان امريكا وايران هما اللاعبان الاساسيان في العراق طيلة السنوات التي اعقبت الغزو. لقد استطاعت ايران استثمار كل روافعها الجغرافية والثقافية والسياسية والاقتصادية لضمان نفوذها وبشكل تفوق في كثير من الاحيان على النفوذ الامريكي. واذا كانت امريكا قد بنت نفوذها اساسا على قوتها الخشنة من خلال الغزو العسكري، فأن ايران استثمرت اضافة الى قوتها الخشنة والمتمثلة في الميليشيات العراقية المدعومة ايرانياً قوتها الناعمة والمتمثلة في تمثيلها لدور الدولة الراعية للاسلام الشيعي وتصديره للعالم. وبسبب العداء الامريكي الايراني فقد تم استثمار العراق من قبل الاميركان والايرانيين كساحة نزاع مستمر بينهما. وبعد ان فُرض الحصار الامريكي على أيران زادت الضغوط الايرانية على العراق كي تنضم الى المحور الصيني الايراني في المنطقة بعد ان تم التوقيع على الاتفاق الستراتيجي الصيني الايراني. وحتى مع وجود معارضة ايرانية داخلية لهذا الاتفاق https://foreignpolicy.com/2021/07/07/china-pla-military-bases-kiribati-uae-cambodia-tanzania-djibouti-indo-pacific-ports-airfields/ فأن ايران زادت من ضغوطها لقيام العراق بتوقيع اتفاقية مماثلة مع الصين عام 2019 من قبل حكومة عادل عبد المهدي التي اطاحت بها الاحتجاجات الشعبية العراقية في بداية 2021. وعلى الرغم من عدم تحمس حكومة الكاظمي التي جاءت بعد حكومة عبد المهدي في العراق للاتفاق الصيني الا ان مثل هذه الخطوة قد تتبعها خطوات مستقبلية اكثر خطورة على المصالح الغربية بخاصة اذا انضم العراق فعلاً للمحور الايراني الصيني الروسي في المنطقة.

فالعراق اذاً يواجه(من وجهة النظر الغربية)احتمالات حقيقية للانضمام للمحور المنافس للغرب. ليس ذاك فحسب وانما الموقع الجغرافي للعراق يجعله جسراً رابطاً مابين ايران وسوريا ولبنان التي تقع ضمن محور النفوذ الصيني الروسي،ناهيك عن اهمية سوريا ولبنان لفرنسا وضرورة عدم تركهما تسقطان في كنف النفوذ المعادي لفرنسا. ان اكتمال تشكل (الهلال) الصيني الروسي الذي يمتد من ايران عبر العراق الى كل من سوريا ولبنان على البحر المتوسط سيفرض طوقاً شمالياً على منابع النفط في الخليج العربي،وجنوبياً على اوربا.

من جانب آخر فأن العراق قد تحول الى ساحة صراع سياسي اقليمي دولي انعكس داخلياً فانتج دولة فاشلة شكلت موئلاً للحركات الدينية المتطرفة وفي مقدمتها داعش التي امتد نفوذها ليشمل مناطق افريقية تمثل اهمية استراتيجية قصوى لفرنسا والغرب. لذا فأن هناك مصلحة حقيقية للغرب عموماً وفرنسا خصوصاً لكي يتحول العراق الى دولة(ناجحة)تتمكن من المساعدة في القضاء على الارهاب.

أما على الصعيد الاقتصادي فيتمتع العراق بامكانات وفرص اقتصادية واعدة لفرنسا بالذات. فخلال زيارة ماكرون الاخيرة للعراق وقعت شركة توتال الفرنسية التي تأسست تاريخياً في العراق،عقداً ضخماً بعشرات المليارات من الدولارات تضمن استخراج النفط والغاز من عدد من الآبار في البصرة.( https://totalenergies.com/media/news/press-releases/iraq-totalenergies-signs-major-agreements-sustainable-development-basra كما ان هناك عقداً فرنسياً آخر لانشاء مترو في بغداد. فضلاً عن أمل فرنسا بالحصول على عقود في حملة اعادة أعمار المناطق السنية المدمرة بسبب حرب داعش.أما في مجال العقود العسكرية فان هناك احتمالات واعدة لتوقيع عقود ضخمة لشراء طائرات ومعدات عسكرية فرنسية.

وما يزيد من احتمالات النجاح الفرنسية في العراق هو هذا التوافق الاقليمي الدولي على حكومة الكاظمي التي استطاعت ان تحافظ على توازن حرج للقوى الاقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة. فالعراق بات يتمتع مؤخراً بعلاقات مميزة مع محيطه العربي والخليجي. كما ان الكاظمي وبرغم علاقاته المتوترة مع الميليشيات العراقية التابعة لايران،فانه استطاع ان يبني علاقات متبادلة مقبولة مع ايران بخاصة بعد ان نجح في اقناع الاميركان بتقليص قواتهم في العراق وتحول مهامها من القتال الى الاستشارات الامنية والتدريبhttps://www.bbc.com/news/world-us-canada-57970464  كما استطاع الكاظمي من خلال تحركاته المكوكية من بناء علاقات متينة مع تركيا ومعظم الدول الاوربية المؤثرة وفي مقدمتها فرنسا. وجاءت زيارة تموز الماضي الى واشنطن لتؤكد متانة الشراكة الاستراتيجية الاميركية العراقية(https://www.usip.org/publications/2021/07/beyond-security-quest-sustained-strategic-us-iraq-partnership لقد تحول العراق في ظل حكومة الكاظمي الى جسرٍ للقاء بعد ان ظل لفترة طويلة أرضاً للعداء الاقليمي والدوليhttps://foreignpolicy.com/2021/08/11/iraq-is-the-middle-easts-new-power-broker/ لا بل ان العراق تمكن من لعب دور الوسيط النزيه في الوصول الى تفاهمات اقليمية مهمة كالتفاهم التركي الاماراتي،والتركي المصري.وشهد مؤتمر التعاون والشراكة الذي عُقد في بغداد في شهر أغسطس جلوس قطر مع الامارات والسعودية لاول مرة منذ فترة طويلة. والاهم من ذلك فان بغداد اصبحت مكاناً لانعقاد المباحثات السعودية الايرانية منذ عدة أشهر للآن. لقد توج لقاء قمة بغداد للتعاون والشراكة جهود الكاظمي وماكرون لايجاد ارضية تعاون اقليمي ومثل فرصة مهمة لانشاء منصة تفاهم اقليمي شبيهة بمنصة G5 الافريقية التي قادتها فرنسا ودعمتها اوربا وامريكا.

لماذا تقود فرنسا الجهد الغربي في العراق

إضافة الى الاسباب الامنية والاقتصادية المهمة التي تمت الاشارة اليها اعلاه،فان فرنسا تتمتع بميزتين استراتيجيتين تؤهلانها لقيادة الجهد الدولي الغربي لارساء الأمن في المنطقة وبالتالي منعها من الوقوع في براثن الارهاب والتطرف، ومنع الصين من مد نفوذها وتوسيعه في هذا الجزء الحيوي من العالم.

تحتفظ فرنسا بعلاقات اقتصادية وسياسية جيدة مع كل دول الاقليم(عدا تركيا) .بالتالي يمكن لفرنسا ان تلعب دور الشريك الموثوق في اي ترتيبات اقليمية سواء لمكافحة الارهاب والتطرف او لبناء شراكات اقتصادية استراتيجية. وبعد السمعة والدور السيئ الذي لعبته امريكا في العراق والمنطقة،وخروج بريطانيا من الاتحاد الاوربي،صارت فرنسا الممثل الاكثر تأهيلاً للاتحاد الاوربي في المنطقة(https://gulfif.org/an-expanding-transregional-network-frances-growing-role-in-the-gulf/ وحتى على الصعيد الدولي فان فرنسا كأحد اعضاء مجلس الامن الدائميين وكشريك رئيس لامريكا وبريطانيا فان بامكانها حشد الدعم الدولي والاممي اللازم لاي ترتيبات امنية في المنطقة تماماً مثلما حصل مع تجمع G5 الساحل الذي قادته فرنسا وأقرت شرعيته الدولية من خلال قرار مجلس الامن الدولي رقم 2359 of 21 June 2017

 https://www.diplomatie.gouv.fr/en/french-foreign-policy/security-disarmament-and-non-proliferation/crises-and-conflicts/g5-sahel-joint-force-and-the-sahel-alliance/    235لذلك ورغم الغضب الفرنسي الشديد من أميركا وبريطانيا بعد اتفاقهما العسكري مع استراليا لتزويدها بغواصات نووية لمواجهة النفوذ الصيني مما ادى لخسارة فرنسا لصفقة الغواصات مع استراليا،فان وزير الخارجية الامريكي(بلنكن) سارع لطمأنة فرنسا وتذكيرها انها شريك استراتيجي مهم لامريكا والغرب ليس في المحيطين الاطلسي والهادي فحسب بل في كل العالم  https://www.state.gov/secretary-antony-j-blinken-secretary-of-defense-lloyd-austin-australian-foreign-minister-marise-payne-and-australian-defence-minister-peter-dutton-at-a-joint-press-availability/ . وهذا يؤكد ان هناك اتفاق استراتيجي امريكي فرنسي لتطويق النفوذ الصيني المتنامي في العالم،وبالتأكيد فان الخليج العربي والعراق هي احد مناطق التنافس الجيوستراتيجي بين الغرب والصين.لا بل ان الطعنة التي شعرت بها فرنسا نتيجة استبعادها من قبل بريطانيا وامريكا من صفقة الغواصات النووية الاسترالية   https://edition.cnn.com/2021/09/17/politics/france-anger-over-nuclear-powered-submarines-explained/index.html  ،سيزيد من أصرار فرنسا على لعب دور أكثر أهمية للغرب في مناطق اهتمامه الاستراتيجية(مثل العراق والخليج العربي) كي يتمتع بروافع استراتيجية تجعل اميركا وبريطانيا وسواهما من القوى الغربية الكبرى تفكر اكثر من مرة قبل ان تخطو مثل هذه الخطوة التي استبعدت فرنسا من صفقة الغواصات.

ان عدم اشتراك فرنسا في غزو العراق من جهة، وعلاقتها المتوازنة مع كل شعوب المنطقة من جهة يجعل فرنسا شريك اكثرمقبولية في العراق. لقد استطاع ماكرون ان يجسد هذا البعد الاستراتيجي المهم من خلال تمديد زيارته ليوم آخر في العراق كي يزور مدينة الكاظمية المقدسة عند الشيعة،ومدينة الموصل المهمة للسنة،ومدينة اربيل عاصمة كرستان العراق .

ان رفض فرنسا مع شركائها الأوربيين لانسحاب امريكا من الاتفاق النووي مع ايران من جهة أخرى،جعل فرنسا طرفاً أكثر مقبولية من قبل الايرانيين(الذين يتمتعون بنفوذ قوي في بغداد) للعب دور اقليمي في الترتيبات الامنية والاقتصادية في العراق والمنطقة،وهو ما عبر عنه بوضوح وزير الخارجية الايراني الجديد(لاهيان) في تعليقه على مشاركة فرنسا في مؤتمر بغداد الذي جرى الشهر الماضي.فرغم معارضة ايران للنفوذ الغربي في المنطقة الا انها قد ترى في التواجد الفرنسي اخف الاضرار الممكنة للانفتاح على العالم مرة اخرى. اذا اضفنا لذلك مدى معاناة الاقتصاد الايراني من العقوبات الاميركية وحاجة ايران الملحة للعودة للاتفاق النووي لرفع العقوبات فان فرنسا بعلاقاتها المميزة مع امريكا يمكنها لعب دور الوسيط النزيه الذي تطمح له ايران. ان قبول ايران ذات النفوذ القوي في العراق للدور الفرنسي يعتبر عامل حاسم في نجاح الجهد الغربي الدولي للوقوف بوجه التمدد الاستراتيجي الصيني في المنطقة. https://iranintl.com/en/world/iran-fm-says-raisi-did-not-go-baghdad-because-french

الخلاصة

على الرغم من المصالح الاقتصادية الكبيرة التي يمكن ان تجنيها فرنسا من زيادة تمتين علاقتها مؤخرا مع العراق بحيث تصبح شريكا استراتيجيا له، الا ان هناك كثير من المزايا الجيوستراتيجية التي يمكن لفرنسا والغرب عموما ان تجنيها من بناء ودعم هذه الشراكة. ان التنافس الصيني الغربي في المحيط العالمي بات يزدادالى درجة قريبة جدا من حافة الحرب الباردة التي شهدها العالم طوال عقود مابعد الحرب العالمية الثانية ولغاية سقوط جدار برلين. الفرق الان هو ان الطرف الذي بات يهدد مصالح الغرب في العالم هو الصين وليس الاتحاد السوفيتي. ان تجربة فرنسا الناجحة في افريقيا لمحاربة الارهاب من جهة والتقليل من خطر التمدد الصيني هناك من جهة اخرى،فضلاً عما تتمتع به فرنسا من مقبولية اقليمية وعراقية يجعلها افضل شريك غربي محتمل للعراقز هذه الشراكة التي ستعود بالفائدة على الطرفين العراقي والفرنسي يمكن ان تمثل منطقة مانعة buffer zone  لتمدد النفوذ الصيني الذي بات مقلقا للمنظومة الغربية عموما بخاصة بعد توقيع الاتفاق الستراتيجي الايراني الصيني في العام الماضي. كما ان انسحاب القوات الامريكية من العراق مؤخرا فرض ضرورة ايجاد ترتيبات دولية امنية تضمن استمرار الدعم لجهوده لمكافحة الارهاب الذي ما زال يهدد المنطقة والعالم ككل.لذا فان فرنسا التي دربت وقادت القوة المشتركة لمجموعة G5الساحل في محاربتها للارهاب هناك يمكن ان تلعب دورا مشابها وبدعم غربي ايضا للتقليل من خطر داعش في العراق والمنطقة عموما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *