اسم الكاتب : علي المؤمن
الهوية الشيعية الوطنية هوية مركبة، تتألف من عدد من العناصر، كالدين والمذهب والمرجعية والوطن والقومية والقبيلة والعشيرة والأسرة والمدينة والحزب، كغيرها من الهويات الإنسانية؛ إذ لم تعد توجد هويات بسيطة في العالم، باستثناء بعض القبائل البدائية المنعزلة التي تعيش في أفريقيا وغابات الأمازون ومحميات الهنود الحمر والبوشمن وبعض جزر المحيط الهادي والهند. أما المجتمعات الإنسانية المتحضرة، بما فيها البدوية المندمجة؛ فلديها هويات مركبة، وأكثر تركيباً بمرور الزمن، وبما ينسجم مع مستوى تحضر المجتمع، فكلما ارتفع منسوب التحضر والتعقيد في وسائل العيش، ارتفع عدد العناصر المشكلة للهوية، وتراكمت القواعد المؤلفة للمجتمع، وباتت أكثر تعقيداً وتقعيداً.
ينتمي البشر اليوم الى أوطان، أي دول معترف بها من منظمة الأمم المتحدة غالباً، وقسم من الناس ينتمي الى أكثر من دول، كما ينتمي إلى عقائد، أي أديان أرضية أو سماوية أو أفكار غير دينية، وإلى عقائد فرعية، أي مذاهب وفرق، وإلى عقائد متشعبة عن العقائد الفرعية، كالجماعات والمدارس الدينية الاجتماعية والفكرية، والى جماعات نسبية، كالسلالات البشرية ثم الأعراق ثم القوميات ثم الشعوب ثم القبائل ثم العشائر ثم الأسر ثم البيوت، والى مؤسسات وظيفية، والى جماعات سياسية، كالأحزاب والمنظمات والتيارات، والى جماعات ثقافية وسلوكية وغيرها من عناصر تأليف الهويات.
وقد ذكرنا في مقال سابق بأن من أهم ميزات الإسلام هو أنه جعل هوية المسلم مركبة، بعد أن كانت أحادية، هي الهوية القبيلية، بينما وضع الإسلام انتماء غالباً جديداً، هو الانتماء الى العقيدة، وفي الوقت نفسه لم يتنكر الإسلام الى انتماء المسلم الى القبيلة والى مسقط الرأس ومكان السكن (الموطن)، وحبهم والاعتزاز بهم والدفاع عنهم؛ فبات الإنسان المسلم يوصف بهويته المركبة: مسلم، شيعي، عربي، مضري، قرشي، هاشمي، علوي، حسيني، عراقي، كوفي. وكلها انتماءات مشروعة وطبيعية، ومن حق الإنسان الانحياز إليها، رغم تعددها. ولكن؛ يبقى أن تقديم إحداها على الأخرى في سلم الأولويات، يعود الى طبيعة مرجعية الإنسان وفهمه، والى طبيعة الظرف؛ فمثلاً بقي بعض المسلمين ينزعون الى القبيلة، ويقدمونها على الدين، وآخرون يقدمون المضرية على الدين، أو العروبة على الدين. بينما كان المسلم الحقيقي هو الذي يتعامل بتوازن مع هذه الانتماءات، ويعي كيف يدير عناصر هويته المركبة، ولايتركها لقمة سائغة للدعاية الجاهلية أو السلطوية؛ الأمر الذي يتسبب في حالة عميقة من الإرباك الفكري والنفسي، وصولاً الى الوقوع في شرك الانحراف.
ويحظى كل عنصر من عناصر تشكيل الهوية بأهميته وحجم تأثيره في الهوية، وكذا أولويته وتقدمه وتأخره لدى كل إنسان وجماعة ومجتمع، وفق خصوصية كل موضوع؛ إذ لايوجد – عادة – عنصر مطلق في الأولوية والشمولية والتقدم، بل أن الأولوية والشمولية والتقدم نسبيين. ولكن؛ على مستوى التوصيف العام، يمكن القول أن سلم أولويات العناصر المشكلة للهوية الإنسانية المركبة، خاضع للعقيدة والفلسفة والرؤية الحياتية التي يؤمن بها الإنسان والجماعة والوطن؛ فهناك من يقدم الدين على الوطن والمذهب والقومية والحزب والعشيرة والمدينة، وهناك من يقدم الوطن على الدين والمذهب والحزب، وهناك من يعد المذهب هو التجلي الحقيقي للدين؛ فيذكر المذهب ولايذكر الدين، ويضعه في مقدمة العناصر المؤلفة لهويته، ويعده العنصر الأهم، وهناك من يعد القومية هي العنصر الأهم، وهكذا.
وبشكل عام؛ لايوجد تعارض بين العناصر التي تشكل هوية الشيعي، أي بين عنصر الدين وعنصر المذهب وعنصر الوطن وعنصر القومية وعنصر العشيرة وعنصر الحزب وعنصر المدينة وعنصر المرجعية، بل أنها تكمل بعضها عادة، او لاتستقيم إلّا بوجودها معاً غالباً، ولكن يكون التقديم والتأخير خاضعاً لمبدأ الإنسان الشيعي وايديولوجيته؛ فإن كان متديناً وإسلامياً؛ فإنه يقدم عنصري الدين والمذهب على كل شيء، أو يكتفي بعنصر المذهب فقط؛ فيكون – مثلاً – شيعياً ثم عراقياً ثم عربياً، وإذا كان قومياً؛ فإنه يقدم عنصر العرق والقومية على الوطن والدين والمذهب؛ فيكون – مثلاً – عربياً، ثم عراقياً وشيعياً، ولعل بعضهم يقدم عنصر المذهب على الوطن في حين إذا كان يعتد بالوطن أكثر من المذهب والقومية؛ وصف نفسه بأنه لبناني عربي شيعي أو بحراني شيعي عربي.
ومن الطبيعي أن يكون كل إنسان وفياً لعقيدته في تحديد أولويات عناصر هويته، شرط أن لا يتعارض ذلك مع تمسكه بانتمائه السياسي لبلده كضابط أساس، وهو ما قاربه الفقهاء من الناحية الشرعية، حتى بالنسبة للبلدان غير المسلمة؛ فالشيعي المتدين، سواء كان متديناُ تقليدياً أو كان متديناً إسلامياً؛ فإنه يقدم انتماءه الى عقيدته الدينية الشيعية بكل تفاصيلها، وما تفرزه من اجتماع ديني يتجلى في النظام الديني الاجتماعي، الذي تقف على رأسه المرجعية الدينية العليا أو مرجعية الولي الفقيه، لأنه يعد عقيدته هذه هو العنصر الأساس والأول لهويته، وهي مدخله الدنيوي لبلوغ رضا الله وآل البيت، وصولاً الى دخول الجنة، وكما يقولون؛ فإن الله لايسأل الشيعي يوم القيامة عن جنسيته وقوميته وحزبه وعشيرته، بل يسأله عن تمسكه بتعاليم القرآن والرسول ومدرسة آل البيت في النظرية والعمل، وبالتالي؛ فإن الشعارات الفضفاضة والكلام العام والجنسية والقومية والعشيرة والحزب لاتٌدخل الإنسان الجنة، بل هي مجرد انتماءات قسرية لادخل ولا فخر للإنسان في اختيارها غالباً.
وبالتالي؛ لايوجد ما يتعارض بين انتماء الشيعي سياسياً لبلده، وانتمائه العرقي لقوميته، وانتمائه الاجتماعي لعشيرته وأسرته، وبين انتمائه العقدي الاجتماعي للتشيع والنظام الاجتماعي الديني العالمي؛ فكلها عناصر طبيعية، وكذلك لايوجد تعارض بين وطنية الشيعي من جهة، وشيعيته العالمية من جهة أخرى، وهو يستطيع التوفيق بينهما، ولكن؛ ليس توفيقاً عشوائياً ارتجالياً، بل على أساس ما يفرضه القرآن وسنة الرسول وآل بيته وفتاوى المرجعية الدينية.