اسم الكاتب : علي المؤمن
أثبتت التجربة الإنسانية طوال التاريخ، بأن إمكانية التوفيق بين الهوية الاجتماعية الدينية المذهبية للفرد والجماعة، وبين الانتماء الى الوطن الذي يحكمه نظام سياسي يقمع هذه الهوية وينتمي الى هوية اجتماعية دينية مذهبية مخالفة؛ أمر في غاية الصعوبة، لأن هذا النظام يعتبر نفسه هو الوطن والدولة، وأن هويته المذهبية هي هوية الوطن، وأن من يعارضه ويعارض هويته؛ فهو يخون الوطن ويخرج على الدولة.
هذه المعادلة النظرية نجد تطبيقاتها الواضحة في الأوطان التي يعيش فيها الشيعة بنسب عالية، وخاصة التي يشكلون فيها أكثرية سكانية، كعراق ما قبل العام 2003 والبحرين وآذربيجان، وكذا في بعض البلدان التي لاتقل نسبة الشيعة فيها عن 20%، كالسعودية وباكستان وأفغانستان وتركيا؛ إذ أن ربط وطنية الشيعي بانتمائه الى السلطة التي تقمعه طائفياً، سيؤدي الى أن يتحول الى خائن للوطن تلقائياً، بمجرد معارضته للسلطة أو بمجرد تمسكه بهويته العقدية، وهو ما لايتعرض إليه أتباع المذاهب الإسلامية الأخرى، سنية وغير سنية، بل لاتتعرض إليه حتى الأقليات المسيحية التي تجهر بهويتها، وتتمتع بالحقوق والحريات الدينية والإنسانية. هذا الواقع يذِّكر بما كان يدفع بعض شيعة لبنان خلال الحكم العثماني، من التحول الى المسيحية، لتجنب القمع والاضطهاد الطائفي، لأن المسيحي كان ذمياً ومصون الدم والمال، بينما الشيعي كافراً مهدور الدم.
ومثال آخر من حكم البعث في العراق؛ فقد كانت السلطة تقمع الشيعة لأنهم شيعة وليس لأنهم معارضين، وكانت تقدِّمهم حطباً لممارساتها السياسية والأمنية ومغامراتها العسكرية، وتعد هذه التضحية هو التعبير الحصري عن وطنية الشيعي وحبه للوطن، لأن البعث وصدام والسلطة كانوا عنوان الوطن والدولة والتعبير عنه حصراً، ومن خالفهم فهو خائن للوطن وغير وطني، ولذلك؛ كان الشيعي متهماً بعدم الوطنية منذ ولادته، حتى يثبت العكس، والعكس هو أن يكون محترفاً في كتابة التقارير التي يشي فيها بجاره وأخيه وصديقه، وأن يموت في حروب السلطة، ويتبرع بالمال والذهب للسلطة، ويتطوع في مؤسسات الحزب الأمنية والعسكرية. وهذا التزييف وشراء الذمم الرخيصة والقمع هو ديدن سلطة الأقليات القومية أو المذهبية التي تتحكم بوطن أكثرية شعبه يتعارض معها مذهبياً أو قومياً. وحيال ذلك؛ كان الشيعي العراقي المتمسك بهويته الدينية يصارع عقيدة السلطة الطائفية العنصرية، وسلوكها ومغامراتها، كما يصارع ليثبت أن الوطنية لاعلاقة لها بالانتماء لعقيدة السلطة وسياساتها، بل أن الوطنية وحب الوطن في هذه الحالات تستدعي معارضة النظام السياسي بكل الوسائل، من أجل تخليص الوطن منه.
والحقيقة أن التعبير عن الوطنية وحب الوطن هو أمر نسبي، وتخضع تطبيقاته الى نوعية النظام الحاكم وسلطة الدولة؛ فهذا التعبير كانت له تطبيقاته المختلفة في عراق ما قبل العام 2003؛ إذ كانت الوطنية الحقيقية تتجلى حينها في كل وسائل إضعاف السلطة وزعزعة كيانها وعدم المشاركة في مغامراتها، وإحباط سياساتها، لأن السلطة كانت تعمل على تدمير الوطن وخنق أكثريته السكانية وذبح الشيعة والكرد بكل وسائل التصفية والإعدامات والحروب.
أما بعد العام 2003؛ فقد جرت عملية فصل بين الوطن والدولة ومؤسساتها من جهة، والنظام السياسي وسياقاته من جهة أخرى، والحكومة والسلطة التنفيذية من جهة ثالثة، والأحزاب والتيارات السياسية من جهة رابعة، ولذلك؛ لم تعد معارضة الأحزاب أو الحكومة أو أي من سلطات الدولة الأخرى، خروجاً على الدولة والوطن وخيانةً للوطن وإلغاءً لوطنية الفرد والجماعة؛ إذ أن دولة العراق التعددي اليوم تختلف جوهرياً عن دولة العراق الشمولية البائدة، إذ باتت الوطنية بعد العام 2003 تعني تقوية الدولة ومؤسساتها، واستخدام الحق في معارضة سلطات الدولة سلمياً، بهدف تقويمها وإصلاحها وإعادة بنائها وتداولها. ولكن هذا التغيير لم يرافقه تغيير جوهري وضروري آخر في هوية الدولة ورمزياتها وناظمها المذهبي.
فلايزال العراق نموذجاً للبلد الذي تتحكم الأقليات القومية والطائفية بهويته وناظميه المذهبي والقومي، على حساب المكون المذهبي القومي الأكبر، بالرغم من ولادة عراق جديد بعد العام 2003، أسدل الستار على عراق النظام الطائفي العنصري، الذي ظلّت الأقلية السنية العربية تمسك بسلطته، وبهويته وأدبياته ورمزياته، وتشريعاته، وتمثيله المذهبي لمئات السنين، وخاصة بعد تأسيس الدولة العراقية العنصرية الطائفية في العام 1924، في حين لاتتجاوز نسبة المكون السني العربي 16% من عدد سكان العراق، وهو ما ظل يتسبب في خلل بنيوي في الاجتماع السياسي والثقافي والديني العراقي، وفصام حاد نفسي وسياسي ومذهبي وطائفي بين الدولة وبين أغلبية الشعب.
ولذلك؛ ومن أجل أن تستطيع سلطة الأقلية الطائفية العنصرية القضاء على هذا الفصام، والتحكم بالبلد والسيطرة على شعبه، ومصادرة الهوية المذهبية للأغلبية السكانية الساحقة؛ فإنها تعمد الى ستراتيجيات التزييف والاستغفال من جهة، وشراء الذمم الرخيصة من جهة ثانية، واستخدام القوة المفرطة من جهة ثالثة، وذلك عبر ضخ شعارات القومية والوطنية، وتزوير تاريخ العراق ورمزياته، وعبر توظيف أسماء شيعية تساهم في عملية التزوير والاستغفال والتزييف، وعبر القمع والاعتقالات والتشريد والقتل والإبادة الجماعية، وهو ما جعل العراق بؤرة توتر وعدم استقرار داخلي دائمة، ومركز قلق ومعارك لاتنتهي مع المحيط الإقليمي.
صحيحٌ أن حدث العام 2003، أسدل الستار على واقع تحكّم نخبة المكون السني العربي بسلطة العراق وهويته المذهبية، إلّا أن العراق الجديد لم يفكك هذا التحكّم، وظل يخشى الاقتراب إليه؛ إذ لايزال يُمارس بأبشع صوره من خلف الستار وفي كواليس المناورات السياسية والابتزاز الأمني، والاستقواء بالمحيط الطائفي الإقليمي، واستضعاف السياسي الشيعي، وإقناعه بذرائع اللحمة الوطنية والتوافق الوطني، وإرضاء المحيط الإقليمي الطائفي، وتجنب (زعل) أحزاب المكون السني العربي؛ فبقيت رمزية الدولة العراقية رمزيةً سنية، وهويتها العامة هويةً سنية. وهنا لانتحدث عن هوية الوطن وهوية الشعب؛ فهذه الهوية كانت ولاتزال شيعية، حتى في ظل أعتى الأنظمة الطائفية، كما لانتحدث عن هوية الحكومة، بل عن هوية الدولة العامة؛ فهناك فرق بين هوية الوطن وهوية الشعب من جهة، وهوية الحكومة من جهة أخرى، وهوية الدولة من جهة ثالثة. وعلى هذا الكلام آلاف الأدلة الجوهرية والشكلية.
وإذا ما بقي هذا الفصام بين الرمزية السنية للدولة والأغلبية الشيعية للشعب؛ فإن الخلل البنيوي سيبقى ينخر في جسد الدولة، ويُراكم عوامل عدم الإستقرار، والإخفاقات والشلل والفشل على كل الصعد، لأن انفلات هوية الدولة المذهبية والقومية، وتساوي المكونات المتعارضة في قرار الدولة، برغم التبياين الكبير في أعدادها ونسبها، وعدم وجود ناظم مذهبي وناظم قومي يحدد مسارات حركة الدولة وسلطاتها وهويتها ورمزياتها؛ لايتسبب في استمرار الضرر بالوطن والدولة وحسب، بل بالضرر على المكونين الكردي والعربي السني؛ فإعطاء نسبة الثلث من قرار الدولة الى 65% من الشعب، والثلث الآخر الى 16% لمكون من الشعب، والثلث الأخير الى مكون تبلغ نسبته السكانية 14% ؛ سيبقي الجميع في حالة من الصراع والهلع على الاستحقاقات، وهي قضية لن تنتهي إطلاقاً، إلّا بحل وحدة الناظم المذهبي للدولة. ولعل أبسط مواطن عراقي يستطيع تلمّس هذه الأضرار الجسيمة الناشئة عن هذه الصراعات والهلع، من خلال ما يقوم به ممثلي المكونات من استخدام سياسات التغالب ولي الأذرع ووضع العصي في دواليب حركة الدولة عند تشكيل كل حكومة جديدة، وإقرار الموازنات السنوية، وتحديد سياسات الدولة الداخلية والخارجية، وإدارة الملف الأمني وغيرها.
أما الحل؛ فهو بأن يتعامل العراقيون، سنتهم وشيعتهم، عربهم وكردهم وفيلييهم وتركمانهم، مع واقع التنوع المذهبي والقومي السكاني، ومبادئ الديمقراطية الحقيقية، ومع إلزامات بناء الدولة المتحضرة العصرية، التي لاتخشى من التحولات الصعبة التي تحقق لها مصالحها. وسيقود الإذعان لكل هذه الحقائق؛ الى حسم موضوع الناظم المذهبي للدولة، والإقرار بهويته الشيعية العربية، بناءً على كون الأغلبية السكانية العراقية ( 56%) هم من الشيعة العرب، الى جانب 9% من الشيعة الفيليين والكرد والتركمان والشبك، لتصل نسبة الشيعة الى 65% من عدد سكان العراق. ومن البديهي أن يتضمن حسم الناظم المذهبي الشيعي للدولة وتطبيقه؛ ضمانات قانونية حازمة لحفظ الحقوق المذهبية والقومية للمكونين الكردي والسني العربي.
ولاشك أنه حل صعب المنال وموجع، لكنه ضروري ومصيري، ويشبه العملية الجراحية الدقيقة التي تخلّص المريض من داء عضال؛ فهي توجعه وتكلِّفه، لكنها تحول دون انهياره وموته البطيء. ولاشك أيضاً أن الصعوبة الحقيقية تكمن في الهواجس النفسية وخشية الاقتراب من الموضوع، والتصورات المسبقة المغلوطة عنه، وذلك لأن أيا من القوى السياسية والمؤسسات الدينية والبحثية لم يدرس الموضوع بمنهجية علمية موضوعية، تتضمن الضرورات والأسباب الموجبة، وحساب نسب السلبيات والإيجابيات، والمصالح والمفاسد، والتبعات والضمانات التنفيذية.
ومن هنا؛ فإن من أهم تجليات وطنية الشيعي العراقي وتفعيل طموحه في إعادة بناء الدولة في الوقت الحاضر، هو أن يعمل بكل الطرق القانونية والعرفية على إنهاء معارك الهويات الطائفية والقومية، وتحقيق الاستقرار الطائفي والسياسي للوطن، والقضاء على التحاصص المكوناتي المعرقل لحركة الدولة والحكومة، وذلك عبر حسم الناظم المذهبي للوطن والدولة والنظام السياسي، والمتمثل بمذهب أغلبية الشعب، ليس من أجل تحقيق أهداف طائفية، بل من أجل بلورة هوية الوطن ووضوحها واستقرارها، لتكون ناظماً شكلياً وجوهرياً لحركة الدولة، ومن شأن هذا الناظم المذهبي الشيعي حماية حقوق أتباع المذاهب والأديان الأخرى وحرياتهم بشكل أفضل، فضلاً عن حقوق أبناء القوميات غير العربية، وصهرهم جميعاً في منظومة الدولة، دون تمييز وإقصاء وتحاصص. أي أن إقرار هذا الناظم المذهبي، يصب في مصلحة جميع المكونات الدينية والمذهبية، السنة قبل الشيعة، والمسيحيين قبل المسلمين.
وربما يتصور بعض المهووسين بالشعارات، بأن هذا العمل يصادر الهويات المذهبية الأخرى، ويحوّل الوطن الى وطن الطائفة الإقصائية الواحدة، على غرار السعودية، أو الى دولة إسلامية شيعية، على غرار إيران، وهذا التصور غير صحيح إطلاقاً، لأن جميع الدول المتحضرة تستند الى ناظم ديني مذهبي، يمثل هوية الدولة وأعرافها، وليس هوية المجتمع، ويحافظ على استقرارها التشريعي والسياسي والاجتماعي، بما فيها الدول العلمانية الغربية.
فالدولة في بريطانيا هي إنجيلكانية، والملك هو رئيس الكنيسة الانجيلكانية، برغم وجود مذاهب مسيحية أخرى، يتمتع أتباعها بحقوقهم كافة، وبرغم كون نظامها علمانياً، وهكذا الولايات المتحدة الأمريكية؛ فإن هوية الدولة فيها بروتستانتية، رغم أن أكثر من نصف السكان هم من الكاثوليك والارثدوكس والكنائس الأخرى، وهوية الهند هندوسية، رغم وجود (200) مليون مسلم و (100) مليون بوذي و(60) مليون سيخي فيها، والسعودية وهابية، رغم أن أكثر من نصف سكانها من أتباع المذاهب الأخرى، ولاسيما الشيعة الذين تزيد نسبتهم على 20 % من عدد السكان، والأمر نفسه بالنسبة لباكستان السنية، والعراق قبل 2003 الذي كان سنياً حنفياً، رغم أن 65 % من سكانه شيعة. وهكذا فإن هوية دولة اليابان طاوية، وتايلند بوذية، وايطاليا كاثوليكية، وايران شيعية إثني عشرية، واليمن شيعية زيدية، والمغرب سنية مالكية، ومصر سنية حنفية، وعمان إباضية، وأغلب البلدان العربية والإسلامية سنية.
أي أن تحديد الهوية المذهبية للدولة وناظمها الديني، ليس عيباً وبدعة وتخلفاً، بل هي قضية وطنية ضرورية، تسد ذرائع حروب الهويات، ولا تتعارض مع مدنية الدولة ومع مواطنية جميع أبناء البلد دون تمييز، كما لا علاقة لها بكون النظام إسلامياً أو علمانياً، بدليل الأمثلة التي ذكرناها، بل هو عين التحضر والوعي بمتطلبات العصر والحكم العصري.
فلماذا يجب أن يبقى العراق ضحية التزييف الدعائي، والتهديد والترهيب، والمناورات السياسية اليومية، وإرضاء الشركاء، بذريعة الوحدة الوطنية؟!، ولماذا يجب أن يشذّ العراق عن بلدان الكرة الأرضية ويتفلّت من إلزامات الواقع وضروراته، حين يكون فاقداً لهوية دينية مذهبية، تساهم في استقراره؟!، خاصة وأن هذه الهوية قائمة عملياً في كل ركن من أركان الوطن، ولاتحتاج إلّا الى الإرادة السياسية والجرأة الوطنية لإقرارها، ثم لتجد طريقها الى أدبيات الدولة وتشريعاتها ومفاصلها وأعرافها وتقاليدها.
وبناء عليه؛ فإن من البديهي أن تخضع هوية الدولة العراقية، كغيرها من دول العالم، الى الحقائق السكانية والانتماء المذهبي لأغلبية المواطنين، وإن كان انتماءً شكلياً، لأن موضوع الهوية المذهبية يرتبط بالجانب الاجتماعي الإنساني وليس العقدي أو بمستوى التزام أبناء الطوائف دينيا.ً أما الإبقاء على سنية الهوية المذهبية للدولة أو تركها عائمة، والتذرع بالشعارات التخديرية الفضفاضة؛ فسيساهم الى الأبد في عدم الاستقرار السياسي والتشريعي والأمني.
ولكي نكون أكثر وضوحاً؛ فإن عدم مبادرة القوى السياسية والدينية الشيعية الى طرح هذا الموضوع المصيري وتطبيقه، يعود الى مبررات غير واقعية، وترتبط بالمصالح السياسية غالباً، أو بعدم وعيهم بالموضوع وأهميته وتفاصيله، أو تخوّفهم من انقلاب الشريك السني على الدولة، أو تآمر المحيط السني الطائفي، أو كونه لايندرج ضمن أولوياتها وأولويات بناء الدولة، وهي مبررات لاتصمد أبداً أمام ما يحققه المشروع من مصلحة ستراتيجية للوطن، تفوق بكثير أية سلبيات طبيعية ممكنة، لأن التحديد الواقعي للمصلحة يتم على أساس قياس نسبة سلبيات أي موضوع وإيجابياته، ولا يمكن لأي قرار وطني مصيري أن يكون بلا سلبيات وبلاضريبة وبلا أوجاع.