اسم الكاتب : رياض سعد
ظن العراقيون خيرا بالإنكليز , وانشدوا لهم اغنية ( چلچل عليه الرُمّان النومي فِزعلّي ) , وان السنوات العجاف ولت مع المحتل التركي العثماني (ابو الفرهود) والذي (چلچل ) على العراقيين لعدة قرون , وان قصص مجاعة الموصل والسفاحين (عبود وخجاوة ) اللذان كانا يأكلان الاطفال من شدة الجوع ؛ لن تعود ابدا … ؛ وقد خاب ظنهم كالعادة , اذ كان المحتل الانكليزي ناهبا للثروات وسارقا للخيرات ؛ فأكمل شاعر الاغنية قائلا : (هذا الحلو ما اريده ودوني لأهلي ) …؛ ومن الواضح ان الشاعر كان يقصد بالرمان ( المحتل التركي العثماني ) وبالنومي ( المحتل الانكليزي البريطاني ) … ؛ وبعد ان عرف العراقيون حقيقة المحتل الانكليزي ؛ قالوا : هذا الحلو الانكليزي لا نريده , بل ونبغضه ؛ كما بغضنا التركي العثماني من قبل ؛لانهما وجهان لعملة واحدة , فقد استبدلنا المحتل التركي بالمحتل الانكليزي , وخلص الشاعر الى نتيجة مفادها : ان العراق لا يصلح حاله ولا يتحسن وضعه الا بأهله وناسه ؛ لا بالأتراك العثمانيين ولا بالإنكليز البريطانيين .
كما عاش العراقيون حالة من القهر والهوان والفقر والعوز والجوع مع حكومات الفئة الهجينة العميلة والطائفية منذ عام 1920 والى حين سقوط الصنم الاجرامي عام 2003 ؛ تمثلت في مشاهد مؤلمة توجع القلب وتدمع لها العين ؛ بدأ من مشاهد الركض خلف باخرات وسيارات وقطارات الانكليز للحصول على فتات الطعام , واستحواذ الساسة العملاء والخونة اللؤماء على مقدرات البلاد , واستهتار بعض الاقطاعيين واستغلالهم للفلاحين , مرورا بقصيدة الشاعر السياب : (كل عام حين يعشب الثرى نجوع*** ما مر عام والعراق ليس فيه جوع ) والتي كتبها عام 1953 ؛ حيث ظلت صور الفقر والبؤس والجوع والتخلف واضحة وملموسة في صورة المشهد العراقي بأكمله، حتى مع فترة العهد الجمهوري ؛ بل واستمرت حتى نهاية عقد السبعينات من القرن المنصرم ؛ الفترة التي عدها بعض الخبراء والمتابعين : بأنها الفترة الذهبية في العراق الحديث … ؛ والبعثيون والصداميون انفسهم كانوا يقولون ويصرحون : ان ابناء الشعب العراقي كانوا حفاة , ونحن من البسناهم الاحذية …!! .
وصولا الى العهد الصدامي الدموي , والذي بدأه بالحرب العراقية الايرانية التي أكلت الأخضر واليابس , وأهلكت الحرث والنسل , وعلى الرغم من الدعم العالمي والخليجي له في عقد الثمانينات , كان الشعب العراقي محروما وفقيرا , وصدام نفسه وفي اكثر من لقاء تلفزيوني , يصرح بأن العراقيين كانوا لا يستطيعون اكل اللحم , و في احدى لقاءاته مع الجيش العراقي في شمال العراق , قال للجنود : (( ان اللحم كان عزيزا لدى الناس , ولو اننا تعودنا على اكل اللحم واكثرنا من اكله , لما بقى غنم , ولاهلكنا الحلال كله خلال ايام …!! )) ووعد الجنود بأنه سوف يتبرع لهم بعدد من الخرفان , كي يأكلوا اللحم … ؛ ولا ادري ابر بوعده وصدق بعهده لهم؛ وهو الكذوب ؟! .
اذ قال في احدى لقاءاته : ((الا اخلي السيارة بسعر الطلي )) وكانت النتيجة ان صار ( الطلي بسعر السيارة …!! ) .
وجاءت ايام الحصار الرهيب التي أذابت الشحم و أكلت اللحم ودقت العظم … ؛ و كان العراقيون فيها , يصطفون في طوابير طويلة من أجل الحصول على طبقة بيض أو دجاجة، وباتوا – وبعضهم كان من نخبة المجتمع وصفوته – يحلمون برغيف الخبر وبكيفية جلب قوت يومهم ، وكانوا يتسمرون أمام شاشات التلفزيون، انتظارا لمكرمة الرئيس العراقي صدام ، بمنح ربع كيلو عدس لكل فرد أو علبة زيت وما شابه، تسبقها دعاية هائلة، في وقت كانت تنعم فيه القيادة العراقية وأعوانها بمباهج الحياة … ؛ ويستذكر العديد من العراقيين بكثير من المرارة تلك الأيام، وكيف كانوا يحتفلون عندما يتناولون اللحم أو الدجاج أو البيض في المنزل، أما الموز أو التفاح أو الفواكه الأخرى، فكانت نوعا من الترف ؛ اذ كانت حصة اعضاء قيادة مجلس الثورة صندق من التفاح اللبناني كل شهر مرة ؛ مكرمة من ابخل الحكام على شعبه ؛ ابن صبحة .
وتدهورت قيمة الدينار , ونتيجة لذلك، أصبح راتب الموظف بلا قيمة، وكانت رواتب بعض الموظفين لا تكفي لشراء طبقة بيض أو ساندويتش فلافل، فقد كان بعضهم على سبيل المثال يتقاضون 3 آلاف دينار عراقي شهريا، في حين أن سعر طبقة البيض الواحد بـ3500 دينار، أو يتقاضى 700 دينار شهريا وسعر ساندويتش الفلافل ألف دينار... ؛ واضطر العراقيون ولاسيما اهل الجنوب الى بيع شبابيك وابواب بيوتهم لشراء المواد الغذائية , ومات اكثر من مليون طفل عراقي بسبب امراض سوء التغذية وانعدام الحليب , واصبحت الحياة جحيما لا يطاق , وكثرت حالات الانتحار , والهروب من العراق والهجرة الى الدول ؛ اذ هاجر اكثر من 3 مليون عراقي , مما دفع الأمم المتحدة إلى تطبيق ما يعرف بـ”برنامج النفط مقابل الغذاء” من أواسط عام 1996 حتى 14 فبراير/شباط 2001، في محاولة أميركية لإبقاء العراقيين على قيد الحياة وتهدئة المجتمع الدولي والرأي العام العالمي... ؛ و كأنَّ الطريق للحصول على أسباب العيش يمر عبر بوابة الإذلال والمهانة، وهكذا كانت هذه عادة يومية طيلة عقد التسعينيات من القرن الماضي والسنوات الثلاثة الأولى من القرن الواحد والعشرين .
وعلى الرغم من ثروات وخيرات العراق الهائلة تقصدت حكومات الفئة الهجينة والطائفية والاجرامية ومنذ عام 1920 والى عام 2003 ؛ اذلال العراقيين الاصلاء وتجويعهم وحرمانهم … .
وبعد عام 2003 تغيرت الاوضاع فيما يخص ملف الغذاء , حيث انتشرت في الاسواق مختلف الاغذية وانواع الفواكه والخضراوات والماركات الغذائية المستوردة , وبأسعار تكاد تكون الارخص في العالم , حيث يباع صندوق الطماطة ب 3 الاف دينار , وصندوق البرتقال او التفاح او الموز ب 10 الاف دينار … الخ , بينما راتب المتقاعد – كحد ادنى الان – 500 الف دينار عراقي , وصار العراقيون يتنافسون فيما بينهم , في بذل الطعام للناس في المناسبات الاجتماعية والدينية مجانا , وسارت الركبان بقصص الكرم العراقي والبذخ الجنوبي , حتى اصبحوا مضربا للأمثال في الكرم وحسن الضيافة و(العزوبية ) واقراء الضيوف , وتنوعت المطاعم في العراق وتعددت خدماتها واختلفت وجباتها واطباقها , واصبح العراقي يطلب ما لذ وطاب من الطعام وهو جالس في بيته ؛ ويصله الطلب كلمح البصر … .
بل تعدى الامر الكرم وتجاوز الحدود , و وصل الى حد الاسراف والتبذير , لاسيما في المناسبات الاجتماعية والدينية ؛ فصرنا نسمع بأكبر طبق للأكل في العراق , واطول مائدة طعام في العراق , واكبر مظاهر لتوزيع الطعام المجاني في العراق وبواسطة المكائن الثقيلة والعملاقة … الخ .
وكشف موقع global hunger index عام 2023 : ان العراق ابتعد عن مؤشر الجوع العالمي منذ 8 سنوات... ؛ وهذا الموقع متخصص بعمل إحصاءات ودراسات سنوية فيما يخص الدول الأكثر جوعاً وشبعاً حول العالم... ؛ وذكر تقرير صادر عن الموقع : أن العراق في العام 2015 سجل 16.5 فيما انخفضت هذا نسبة الى 13.8 في العام 2023 ، وهي قريبة للنسبة المعتمدة عالميا … .
ويشغل العراق المركز الأول عربياً والسادس عالمياً من إجمالي 196 دولة، بأكثر الدول التي تهدر أكبر قدر من الغذاء لعام 2023، بحسب مجلة ceoworld الأميركية... ؛ ووفق تقرير المجلة الأميركية، جاء العراق بالمركز الأول عربياً، تليه السعودية، ثم لبنان، اليمن، سوريا، الكويت، قطر، الأردن، مصر، الجزائر، تونس، وأخيراً ليبيا... ؛ وبحسب تقرير صادر عن برنامج الأمم المتحدة للبيئة عام 2022، فإن الفرد العراقي يهدر من الطعام سنوياً ما يبلغ 120 كيلوغراماً، في حين يبلغ الهدر العام سنوياً نحو 5 ملايين طن من الطعام.
وبحسب وزارة البيئة العراقية، فإن المعدل اليومي لكل فرد عراقي من النفايات أكثر من 2 كيلوغرام، بينما تمثل بقايا الطعام نحو 43% من إجمالي النفايات في البلاد... ؛ وأوضح مدير عام الشؤون الفنية في الوزارة عيسى الفياض في تصريح سابق تابعته وكالة شفق نيوز، أن “بقايا الطعام تصل كمياتها في عموم العراق يومياً إلى قرابة 20 الف طن”.
ونحن هنا بصدد المقارنة بين عهدين , ولسنا بصدد تقييم هذه الظاهرة ( هدر الطعام ورميه في القمامة ) التي تتسبب بالخسائر المادية الكبيرة بالإضافة الى العواقب البيئية الخطيرة التي تهدد الصحة العامة .