نوفمبر 22, 2024

اسم الكاتب : د. محمد خالد الفجر

في فيلم «البيضة والحجر» نرى الأستاذ الجامعي الذي جسّده أحمد زكي يحاول أن يثبت نظرياته عن القيم وأهمية وجودها، ويحارب الوهم الذي يجر الناس إلى مستنقع الاستغلال والخديعة، وتدور الأيام وتتدهور أوضاع الأستاذ حتى يصل الأمر إلى فصله وتخلي أخيه عن مساعدته، بل هزّ كيانه عندما بيّن له أخوه الصيدلاني، أن ّتخصص الفلسفة يحول بينه وبين أن يجد له فرصة عمل في مكانٍ ما، وقال له: ليتك تعلمت أي مهنة صنايعية أفضل من الهم الذي أنت فيه، وقتها بدأت الأحداث تتسارع فيصبح الفيلسوف العاقل مولانا الذي يشفي الناس.

لخّص أحمد زكي نجاح مهنته أنه يقوم على إيمان الناس بالوهم المدغدغ لمشاعر تحقيق الأمنية، مبيِّنًا أنّ الإنسان كلما امتلك لغة تخاطب آمال الناس ورغباتهم وباعهم وهمًا، أحبوه وصدقوه وآمنوا به وأعطوه كل شيء، وهذا ما حصل معه فبدأ بفرحة الحاجة التي استطاع ابنها بفضل مولانا أن يقترب من عروسه، وانتهى بفيلا وحراس ومكاتب وعلاقات مع كبار رجال الدولة، إنه فنّ بيع الوهم، الوهم الذي عبّر عنه مهندس ماكينة الدعاية في زمن هتلر: «أكذب، أكذب، ثم أكذب حتى يصدقك الناس».

إنّ الوهم الشعوذي الذي رأيناه في فيلم «البيضة والحجر» هو نفسه الذي أتانا اليوم في ثوبٍ جديد يلتقي مع الشخصية التي مثلها أحمد زكي في الرتبة الوظيفية الأكاديمية، ولكنه يختلف في عرض السلعة وعرض المهنة التي يبيع سلعته من خلالها، فهو اليوم ليس متعاملًا مع الجن ولا عنده  كتب إحضارها، بل هو مبرمج لغوي يبيعك وهم الطاقة والنجاح الصاروخي، وفهم الذات والسيطرة على المشكلات والتغلب عليها، ويصنع القادة في أيام معدودة. الاتفاق هو أنّ الاثنين يتلاعبان برغبات الناس، وقد علّل أحمد زكي في الفيلم سبب تقبل الناس للوهم، بما ورد في مقدمة ابن خلدون: «عندما تنهار الدول يكثر المنجمون والمتسولون والمنافقون والمدّعون.. والكتبة والقوّالون.. والمغنون النشاز والشعراء النظّامون.. والمتصعلكون وضاربو المندل.. وقارعو الطبول والمتفيقهون.. وقارئو الكفّ والطالع والنازل».

فلا تستغرب أن تجد مجموعة من مشاهير لعبة بيع الوهم يدعون أنهم يصنعون قادةً في أيام معدودة، وعباراتهم تذكرك بكتب تعلم الإنكليزية في أسبوع، فمثلها تماما تعلم فن القيادة في خمسة عشر يوما، وقد قرأت من أيام إعلانا عن دورات لإعداد القادة، يعطيها مجموعة من المشاهير مدتها 16 يوما، وتتراوح التكاليف حسب الشرائح فالأولى 4000 آلاف دولار والثانية 3000 والثالثة 2000 دولار.

السؤال:  هل يمكن إعداد قائد في هذه المدة الوجيزة، أسحرٌ هذا ؟  والسؤال الثاني هلِ القائد يُعدُّ بحيث يبقى رهنًا لمن أعدّه، مع أنّ القائد يكون شخصية فريدة ملهَمة ومُلهِمة؛ ولهذا يسمى قائدًا لا مقادا؟ والسؤال الأهم هل يمكن أن نتخيّل أنّ الذين سيدفعون هذا المال يتعبون ويبذلون العرق لتحصيله؟ أم هو لون من ألوان تصديق الوهم والركض وراء سراب الرغبة المناقضة لواقع الشخص المقدم على مثل هذه البؤر؟ بل نقول إنّ من يحصل مثل هذه المبالغ بجدّه وعرق جبينه ويستطيع دفعها لأسبوعي دورة هو قائدٌ لا حاجة إلى إعداده أصلا، يا للعجب!

وكيف يمكن لمن ليس قائدًا في الأصل أن يبني قائدًا، أو يكون قدوةً لغيره في القيادة، بل إنّ نتائج بيع وهم القيادة ستُنتج وتفرِّخ صيصانًا  (كتاكيت)  من التابعين؛ لأنّ كلّ تربية تقوم على تنمية التبعية والخضوع، تنتج عقلا بليدا وشخصية مهزوزة محدودة الأفق، بعيدة كلّ البعد عن شيء اسمه قائد، ولكن كما وردت هذه العبارة في الفيلم الذي ذكرته في بداية المقال عندما قال أحمد زكي: «إنّ سرّ نجاح أيّ مشعوذ هو ثقته في نفسه، وقوة اعتقاد الناس فيه»، وهذا هو الحاصل للأسف في ما نراه في تجارة وهم دورات صناعة القادة؛ إذ إننا نقف على ثقة المتحدث بنفسه، وقوة اعتقاد كثير من الجمهور فيه، خاصة أنه يعزف على وتر حبهم الفطري للمتدينين، فيُظهِر لهم أنّه من أولي التقوى والعفّة والطّهارة.

الوهم الأكاديمي

لا شكّ في أنّ ثورة التعليم الأكاديمي بصورته المعاصرة كانت تنظيما للعقول واكتشافا للمواهب، وأسهمت في نقلات حضارية نتفيّأ ظلال رفاهيتها كل يوم، ولكن للأسف في عالمنا الإسلامي أصبح معظم التعليم الأكاديمي، خاصة في ميدان العلوم الإنسانية وهمًا وليس أكاديميًّا على الحقيقة، فكمٌّ هائل من شهادات الدراسات العليا تُمنح لأناس لا يتقنون كتابة حلقة بحث صغيرة، ولكن رزمة قليلة من الدولارات، تجعله مؤهّلا لنيلها، على الرغم من كون بحثه لا يمت في حقيقته للبحث العلمي الحقيقي بصلة، بل لا تستغرب أن تجد باحثا قد كتب له مشرفه الرسالة، أو باحثا لم يكتب شيئا وإنما سلخ واختلس ورقات قد كُتبت قبله، ونسبها لنفسه ومُنح كذبا وزورا شهادة ليست له، فصار باحثا وهميًّا لا باحثًا حقيقيًّا، وراجت في زمننا تجارة بيع وهم المؤتمرات العلمية وأصبحت موضة التجارة في عقد المؤتمرات تجارة رابحة رائجة، فمثلا تجد مؤتمرات تقبل ما يزيد على مئة مشارك، وكل مشارك يدفع ثمن مشاركته، وكما قال عادل إمام: «الساعة بخمسة جنيه والحسابة بتحسب».

 وتوضع لهذه المؤتمرات شعاراتٌ مثل: خدمةً للأمة، اجتماع ثلة من العلماء، بالعلم تبنى الأمم. ومعاجمنا ثريةٌ بمثل هذه الألقاب التي غالبا ما تكون في غير موضعها. وقِس عليها المشاريع التي يطنطن لها في الشرق والغرب، ثم تختفي وكأنها كانت سرابا بقيعة… هذا واقعنا؛ ولهذا أكثر مشاريعنا وجامعاتنا غدت وهمية وكذبة كبيرة، وفتّش الآن وراء كثير من المشاريع العلمية فستجد بروباغندا دعائية تفوق واقع الإنجاز الحقيقي، ويرضى القائمون على المشاريع العلمية بتقبل الناس لهذا الوهم، وتصديقهم أنّ هذه المشاريع لم تر الأمة مثلها، والصمت سببه كثرة المتنفعين من بيع مثل هذه الأوهام، فلو تكلموا بالحقيقة لخسروا قوت أيامهم وبهرجة مكانتهم الاجتماعية الوهمية.

الوهم التديني

نتندر في مجالسنا بقولنا إذا أردت أن تكون معروفًا مشهورا فاختصر طريق التعب وصر شيخًا، تندرٌ يحمل بين حروفه دموع مقولة : شرّ البلية ما يضحك، نعم لقد غدا الشيخ في كثير من مواقع المجتمع قائدًا، بل يتدخل في السياسة والاقتصاد والمجتمع، وكل شيء … وكنت قد ذكرتُ سابقا أنّ معظم من يتاجر ببيع وهم البرمجة اللغوية العصبية يدندن على وتر العاطفة الدينية، ليشعرك بطهارة ما يدعو إليه.

 سمعنا قديما أنّ علي بن أبي طالب طرد القُصّاص من المساجد لكثرة ما يستغلون الدين من خلال ألسنتهم؛ ولأنهم جعلوا القصص شبكةً لتحقيق غاياتهم، ومن هنا صار بعض الناس يظنُّ التدين كله وهمًا لا حقيقة؛ من تأثره بما يرى من تناقضٍ بين المتحدِّث باسم الدين وتعاملاته وواقعه، فما نراه من بيع للوهم باسم الدين أدّى إلى نفور كثيرين من التدين، فقد اظهر تقرير لـ«بي بي سي» صدر حديثًا عزوف الناس عن التدين في العالم العربي، وهذا يؤكد ما يؤمن به كثير منا وهو ضرورة السعي إلى إيجاد خطاب ديني جديد يفصل بين المتحدث باسم الدين، والدين كحاجة وضرورة للإنسان، فلو استطلعنا آراء الذين نفروا من التدين ستجد غالبيتهم قد نفروا بسبب أشخاص يدعون أنهم يمثلون المنهج الديني الصحيح، ولم يكن نفورهم من الدين، لأنّ الدين لمن عرفه وفقهه سيجده كلحمه ودمه فلا تكتمل حياته بدونه، ولكن من خلال المشاهدات والإسقاطات وفكرة أنّ الدين يقوم على اتّباع الشيوخ، ما أدّى إلى شعور بعض الشباب أنهم إذا تعلّقوا بالدين فسيكونون مثل هذا المتاجر به، فالتدين صار عندهم وهما وكذبة لا حقيقة، مع أن التدين الحقيقي يقوم على سلوك الفرد وخلقه الذاتي، وليس على جعل إنسان من تجار بيع الوهم ممثلا للدين والتدين.

ولا شك في أن ثمة صورا من بيع الوهم وتخدير المتلقي لم يقف عليها المقال، وكلٌّ منا يتعرض يوميًّا لمثل هذه الألوان من الفساد؛ ولهذا فإنّ هذه التجارة الفاسدة التي تتخذ من الوهم مادة خامًا تبني عليها أمجادها ونجاحتها، جعلت كثيرًا من الآمال العِراض تُحطّم على جُدُر الفساد في عالمنا الإسلامي الكئيب، ولا حلّ لهذه الآفة إلا بثورة وعيٍّ فكريٍّ تكشف الحقائق وترفض الزيف، ولا تقبل أن تكون سوقا لشراء وتقبل الوهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *