اسم الكاتب : روزيت الفار- عمّان
لماذا يبدو الماضي لمعظم النّاس أجمل وأفضل من الحاضر والمستقبل، حتّى وإن لم يكن فعليّاً كذلك؟ ثمَّ لماذا يتقدّم دائماً الشّعور بالرّغبة للعودة للماضي على شعور الاستمتاع باللّحظة الحاضرة؟
وهل صحيح أنَّ الحاضرَ يبدو لنا حياديّاً بينما الماضي والمستقبل أكثر إثارة؟
كيف يفسّر علم النّفس سلوك البشر في الحنين؛ بما فيه من ميزاتٍ وأضرار.
النّوستالجيا أو التّوق للماضي هو تعبير سيكولوجي أتى به الطّبيب السّويسري Johannes Hofer في القرن ال17 بعد أن لاحظ أعراضاً مرَضيّة مشتركة تظهر على مجموعة العمّال السّويسريّين المأجورين والمغتربين عن أوطانهم؛ كالتّوتّر وعدم انتظام دقّات القلب وعسر الهضم وحالات من الاكتئاب، ليتبيّن فيما بعد بأنّ أسباب ذلك كانت تعود بأغلبها لشعور الشّوق والحنين لأوطانهم.
وبعلم النّفس فإنّ “النّوستالجيا” هي آليّة دفاعيّة يوظّفها الدّماغ لتحسين الوضع النّفسي والعقلي لدى الشّخص ولتعديل مزاجه عند شعوره بالوحدة والاغتراب. ويفيد الحنين أيضاً في محاربة الاكتئاب وتعزيز الثّقة بالنّفس والنّضج الاجتماعي. بمعنى أنّه عمليّة معالجة آنيّة؛ لكنّها مهمّة للصّحّة الجسديّة والنّفسيّة للأفراد، وقد أثبت العلم ذلك باستخدام التّصوير المغناطيسي للدّماغ لدى مجموعات من الأشخاص أثناء تعرّضهم لتلك الحالة.
أمّا أسباب الحنين للماضي فهي متنوّعة ومُتعدّدة، منها:
* ربّما لعيش الشّخص ظروفاً صعبة في حاضره.
* ربّما لرغبته في الهروب من الحقيقة الواقعة.
* أو لأنّه غير مهيّأ لما يحدث له الآن.
* أو لأن كان له بالفعل تجارب مُفرحة في الماضي جعلته سعيداً ولم يعد قادراً على إيجاد أسباب تجعله كذلك في الوقت الحاضر.
ولكن يبقى السّبب الأساسي هو سعي الإنسان لنيل قسطاً من السّعادة والرّاحة اللّذين يجدهما في الحنين.
يصف علم النّفس سلوكنا أثناء استرجاعنا لذكريات الماضي وأحداثه بأنّنا نكون في ذلك انتقائيّين ونميل نحو اختيار النّهايات السّعيدة للأحداث وتجاهل السّلبيّات وأحياناً التّعميم والمبالغة المفرطة في إيجابيّاتها أي نقوم بتطبيق ما يُطلق عليه ب”التّفكير القطبي” Polar Thinking فتبدو الذّكريات داخل عقولنا حينها كقصصٍ تجعلنا نرى فيها فقط السّعادة ونشعر بالرّاحة والاطمئنان، حيث نجد الأشخاص والأماكن والأحداث الّذين ألِفناهم، بينما قصصنا الحاضرة قصص لم تنتهِ بعد ولا نزال نعيشها، فكلّ قصّة تبدو في وسطها شائكة؛ لكن حين تنتهي فإنّها تترك أثراً جميلاً. بمعنى أنّ الأمور، حين نتجاوزها، تبدو أجمل، فما عليك سوى الانتظار حتّى تنتهي فصول حياتك الحاضرة كي تتمتّع بالجزء الجميل من ذكراها.
يرى بعض علماء النّفس في الحنين هروباً من الخوف من سرعة مرور الأيّام والأحداث فنعود لنعيش تلك الأماكن والأزمان والمراحل كما نفسّرها نحن وغالباً ما يكون تفسيرنا لها تفسيراً عاطفيّاً مُعتمداً على رغبتنا الشّخصيّة في التّركيز على جزئيّة محدّدة منه وإهمال الباقي وربّما كان هذا الباقي هو الأهم.
ومن أسباب تجذّر ذكريات الماضي في عقولنا هو أنّ أحداث الماضي كانت تأخذ وقتها الكافي في سيرها وتمتدّ على مدى سنوات عدّة، خاصّة المظاهر الاجتماعيّة، فالتّغيير كان حينها بطيئاً ممّا أتاح لنا عيش الأحداث ومعالجتها بأريحيّة؛ خلافاً لما هو عليه الآن؛ حيث أنّنا نكاد نشاهد كلَّ يوم تغييراً وتحوّلاً جديداً في نمط وأساليب العيش بسبب التّقدّم العلمي والتّكنولوجي المتسارع والمستمر والّذي يطال جميع مناحي حياتنا ويؤثّر فيها، الأمور الّتي جعلتنا نشعر بالاغتراب النّفسي وصعوبة التّأقلم معها ومعايشتها خصوصاً فئة كبار السّن.
قد يكون الحنين لأشخاص لم نحتكّ بهم مباشرة، أو لأماكن لم نُقِم فيها، بل رأيناهم بأفلام أو سمعنا أغانيهم أو قرأنا كتبهم أو كانوا من الأشخاص المؤثّرين الّذين استطاعوا ترك آثارٍ بدواخلنا؛ نستعيد ذكراهم بمجرّد إعادة مشاهدة أفلامهم وسماع أغانيهم وموسيقاهم، أو قراءة كتبهم أو حتّى عند استنشاق عطر لأناس عرفناهم عن قرب. فجميع تلك الأمور هي محفّزات تحرّك مشاعر الحنين لدينا.
ما من شكٍّ إذاً في اعتبار الحنين جزءً من حياتنا وهو حاجة من حاجات الفرد الضّروريّة لاستدراج لحظات من السّعادة في بعض الأحيان للتّخفيف من ألم الحاضر وقلق المستقبل، غير أنّ لاستمراريّة التّواجد والانحباس به والإدمان عليه؛ مضارّاً جسيمة على الأشخاص تجعلهم يمارسون أعمالاً لا تتناسب مع ظروفهم وأعمارهم ويعيشون أحلام يقظة وحالات من الإنكار، كأن ينكروا موت عزيز أو إنكار التّعرّض لبعض التّجارب الصّعبة. وأنّ اعتماد اللّجوء للحنين كمتنفّس دائم للهروب من الضّغوطات أمر من شأنه إعاقة عمليّة النّمو والتّقدم عند الفرد ويصبح انسحابه من واقعه أسلوب حياة لديه ممّا يجعله عاجزاً عن اتخاذ قرارات سليمة حين تواجهه التّحدّيات.
يقول Echart Tolle الكاتب وعالم النّفس الألماني في كتابه “قوّة الآن” The Power of Now بأنّ “الحاضر” هو الوقت الوحيد الّذي نمتلك، حيث الماضي لن يعود والمستقبل قد لا يأتي، ويسمح بالرّجوع للماضي بحالة واحدة فقط هي حين يكون في ذلك خدمة للحاضر أو المستقبل. وأنّ السّعادة مرتبطة بعقليّة الفرد ومزاجه الّذي يصنعه لذاته ومقدار استعداده للتّفهّم والسّيطرة على مشاعره والشّعور بالرّضى والامتنان وبانتمائه لهذه الحياة.
وبكتابه “النّيل من السّعادة” The Conquest of Happiness يقول برتراند راسل: السّعادة ليست هروباً من الواقع ومآسيه؛ بل التّحرّر من تأثيره فينا وسيطرته علينا، ونجدها في الحياة الواقعيّة وبأنّ التّمادي بالتّفكير بالماضي يهدم لذّة الاستمتاع بجمال الحاضر. يبقى أن نقول أنّ هذا السّلوك لا ينطبق على كافّة البشر بل هناك من يرون فيه ألماً وحزناً وندماً، وكم جميل أن نستخدم تلك المشاهد كدروس وعبر نستفيد منها بحاضرنا ومستقبلنا.