نوفمبر 22, 2024

اسم الكاتب : / احمد الجوهري عواد

نظرا لأهمية الثقافة في المجتمع, ومدى خطورتها وتعدد مفاهيمها, فقد وجدنا أنه لابد الوقوف على بعض هذه المفاهيم, كتحديد أهمية الثقافة أولا ثم الولوج من ذلك إلى الوعى الثقافي وأهميته قبل الحديث عن موقف الدول المتقدمة والنامية منه، فالثقافة في أي مجتمع، هي الطابع الذي يشكل شخصيات أفراده، ويميزها عن غيرها من سائر المجتمعات الإنسانية الأخرى، فالثقافة تمثل نتاج تفاعل الإنسان مع بيئته، وتعبر عن طرق تكيف الفرد مع الواقع الذي يعيشه ، والوسائل التي ابتدعها لتحقيق ذلك التكيف، فهي عبارة عن أسلوب تعايش الأفراد مع واقعهم الاجتماعي والفيزيقي.

ومصطلح الثقافة من المصطلحات الحديثة نسبيا – كمصطلح تعريفي- رغم أن الثقافة ومعناها قد عرفا منذ قديم الزمان، فالحديث عن الثقافة لا يتوقف ولا يرتبط بأي عصر من العصور, ولا أي أمة من الأمم، ويعد مفهوم الثقافة مفهوما خلافيا بين كثير من الأمم، وذلك لأنه يختلف على حسب طبيعة كل عصر, ومقدار تقدم كل أمة, وطبيعة أبنائها، فنجد من يعرفها على إنها نسق اجتماعي من القيم والمعارف والعادات ، وهناك من يعرفها على إنها إيديولوجية نرى بها العالم ونرى بها الآخر, ويصل بها البعض إلى أن يجعلها انتماء ممثل في الهوية , أو إنها تواصل عن طريق الخبرة أو نقل الخبرات أو إنها دافعا للأبداع والابتكار, وانها حصاد كل إبداع من شعر ونثر وموسيقى ونحت وغيرها …

ونستخلص مما سبق أن الثقافة في أبسط معانيها ,هي الكل المركب الذى يشمل المعرفة, والمعتقدات, والفنون, والأخلاق, والأعراف, والقدرات, والعادات, التي اكتسبها الإنسان باعتباره عضو فعال في المجتمع يؤثر ويتأثر، وهى بذلك تشمل كل ما يسود المجتمع من إرث مادي ومعنوي قد اكتسبه الفرد من خلال وسائل التنشئة الاجتماعية والتربية المعهودة بذلك المجتمع والمميزة له عن غيره, وهى التي عندما يكتسبها الفرد فإنه يستمد عضويته, ويشعر باندماجه وانتمائه لهذا المجتمع.

أما عن المعنى الأنثروبولوجي للثقافة، فهي كل ما صنعته وأنتجته يد وعقل الإنسان من أمور معنوية, ومادية ,من خلال تفاعله مع وسطه الذي يعيش فيه ، أوهي مجموعة الأفكار, والقيم, والمعتقدات, التي توارثها الإنسان نتيجة عيشه في مجتمع معين.

ويلاحظ أن أهمية الثقافة تكمن في, أنها تمثل مرجعية تقييم المسلك الإنساني , بالإضافة إلى كونها الطابع المميز للأفراد ؛ أي أنها الفيصل في الحكم على نماذج السلوكيات الجديدة التي تتطور مع تغير المجتمع الإنساني عبر الزمن, وهذا التغير هو ما يطلق عليه (التغير الاجتماعي),أما اذا كانت هي نفسها تتغير فإن هذا ما نسميه (التغير الثقافي)ولكن يجب ملاحظة شيء مهم هو أن التغير الثقافي لابد وأن يتماشى مع ما تحتويه من قيم أساسية تقبل ذلك التغير ولا تتعارض معه.

أنها عندما تنشأ في مجتمع معين تظهر واضحة في سلوك أعضائه, وإنها قابلة للتناقل والدوام والاستمرار عبر الزمن ؛وذلك بسبب قدرتها على تخليد نفسها وعلى البقاء، وإنها تمثل المعيار الذي يستند إليه الأفراد في الحكم علي المسالك التي يسلكونها في تحقيق غايتهم وطموحاتهم، وتنتقل عبر عمليات متداخلة ومعقدة تعرف بأساليب التنشئة الاجتماعية وذلك عبر مراحل متعددة من عمر الإنسان .

ويجب ملاحظة أمرا مهم؛ هو أن الثقافة لا يمكنها أن تتخلص أو تستبعد بشكل كامل كل غث ومنحرف, ولا يمكنها أن تبقى وبشكل كامل أيضا على كل ما هو مفيد وغير منحرف؛ ولذلك فإنها تكون عرضة لأن يتعلق بها بعض المفاسد وبعض المركبات الثقافية غير المناسبة، وبذلك تتواجد الفجوة بين القيم الثقافية وبين بعض المركبات الثقافية غير المناسبة، وباتساع هذه الفجوة ينتج الصراع بين قيم الآباء والأجداد وقيم الأبناء , وذلك لأن قيم الأبناء يشوبها بعض هذه المركبات غير المناسبة، وهذا الصراع الأبدي ما هو ألا تغير ثقافي فشلت وسائل التربية في احتواءه, وإقناع الأبناء بمدى صلاحية هذه القيم والمركبات, ومدى تمشيها مع زمانهم الراهن .

ولعل هذا ما أدى إلى ظهور مصطلح (الوعي الثقافي) الذى اختلف الباحثون في تعريفه فمنهم من عرفه بأنه ؛هو ذلك الاعتقاد الناتج عن التأثير الفعال للثقافة لدى النخبة المثقفة ، ومنهم من عرفه بأنه صورة من صور قومية الحاضر، والقدرة على فهم القيم الشخصية والمجتمعية والمعتقدات والتصورات من الناس والثقافات الأخرى ؛ ليصبح الفرد على بينة من القيم الثقافية التي تشكل وتحدد الأشخاص، ومنهم من قال أنه يعبر عن مدى إدراك الفرد, ووعيه بدوره في المحافظة على تراثه الثقافي, ومبادئه الأصيلة, مع حمايتها من الشوائب؛ لتبقى خالية من أي تأثيرات خارجية.

وبذلك يمكن القول أن الوعى الثقافي :عبارة عن ردود أفعال من الإنسان تجاه الوسط الثقافي الذي يعيش فيه, كما انه يشير إلى نوعية الأفكار والعواطف التي استطاع الفرد تكوينها عن العالم الخارجي, وهو المهارة النقدية للمضامين الثقافية, التي يتلقاها الفرد والجماعة من المصادر التربوية والإعلامية ،فيشكل كل ذلك معتقداته وتصوراته وقيمه, التي تؤثر في تكوين سلوكه وعاداته وتقاليده وأنماط حياته .

ولا ريب أن مشكلة الوعي الثقافي ؛هي في الأصل مشكلة سياسية اقتصادية, قبل أن تكون مشكلة اجتماعية ثقافية ذات نطاق محدد, فالمشكلة الناتجة هي من أعمق المشاكل, وأكثرها تعقيدا في وقتنا الحاضر, ويلاحظ أن مشكلة الوعى الثقافي تثير قضايا ذات أهمية كبيرة ؛مثل قضية العلاقة بين الفرد والطبيعة, وقضية العلاقة بين العقل والمادة, وغيرها من القضايا الفكرية المهمة, وهناك عدة اتجاهات لتفسير هذه القضايا (العلاقات السابقة)؛ منها النظرية الإنسانية التي تفصل الإنسان عن الطبيعة, وتجعل الفصل حلا لأى ارتباكات اقتصادية وصناعية وهذا ما يختلف تماما عن المذهب الإنساني الذى لا يجد أصحابه ثغرة ثابتة أو خليجا لا يمكن عبوره بين الإنسان والطبيعة أو بين العقل والمادة.

ولقد زادت أهمية الوعي الثقافي وخاصة عند الشباب من طلاب الجامعات وغيرهم من المثقفين، بعد التقدم التقنية الذي أحدثته الثورة العلمية التكنولوجية وانعكاساتها على منظومة التربية وفلسفتها ومؤسساتها, وقد أدى تطور أساليب الاتصال التكنولوجية إلى تقارب واندماج مختلف أجزاء العالم, وسيطرة بعض عناصر الثقافة العالمية , واندثار بعض الثقافات المحلية.

وبقراءة بعض جوانب الوعي الثقافي للدول المتقدمة , مثل الولايات المتحدة الأمريكية والدول الأوربية؛ نجد أن معظم الأوربيين كانوا يعتقدون بوجود (الأمريكانية )كطراز للثقافة , ولكنهم يرونها ويعتقدون بوجودها كخطر يهددهم , وكرد فعل لذلك؛ نما لديهم في أوربا وعي بثقافة أوربية الطابع والمميزات , ويرون أنها رغم قيمة الثقافة الأوربية وتاريخية ؛ فإنها مهددة الكيان بغزو من نوع جديد من أشكال البربرية منبثق من الثقافة الأمريكية, ونرى كذلك أن الكثير من النقاد الأوربيين؛ الذين يحكمون على الحياة الثقافية الأمريكية؛ على ضوء ازدواجية المادة والروح, ولكنهم لا يدركون مدى مشكلة الثقافة الأمريكية, والتي هي كيفية جعل المادة أداة فعالة, في خلق حياة فكرية وفنية وثقافية مميزة لهذه الحضارة الحديثة.

والحديث عن الثقافة الأمريكية وجوانبها ، طويل ومستفيض ؛ ويرجع ذلك إلى كون الثقافة الأمريكية , رغم حداثتها إلا إنها وبلا شك تملك كل المقومات السياسية والاقتصادية التي تجعل منها المهيمنة على الثقافات, وهى أقل الثقافات تأثرا بالتيار الجارف الكبير للعولمة, فالاهتمام بالفن والعلم والفلسفة وغيرها من الجوانب, ليس في طريق الزوال, بل العكس هو الصحيح؛ وذلك بدليل ظهور كم ضخم, من الناس المنشغلين عمليا, في الولايات المتحدة بالجوانب, التي تكلل الحضارة؛ كمنتجين وأدباء ومثقفين, وذلك أكثر من أي زمن مضى, وأي مكان اخر بالعالم, وصار الاهتمام بهم أكثر وأشد حيوية من الماضي, وأكثر من أوربا نفسها تلك القارة التي جاء منها معظمهم, ولعلنا عندما نقرأ كلام” جون ديوي “نجد اعترافا كاملا بذلك؛ حيث يقول في كتابه( الفردية قديما وحديثا )”لا أرى سببا يحول بيننا في الولايات المتحدة وبين أن يكون لنا أيضا عصور ذهبية للأدب والعلم، ولكننا تعودنا التطلع إلى هذا العصر أو ذاك متميزا بأسماء شخصيات عظيمة وبإنتاج عظيم، بينما ننسى أن نسأل عن جذور هذا الازدهار “ونستخلص مما سبق مدى ازدهار الوعي الثقافي لديهم, ومحاولة خلق عصر ثقافي ذهبي لهم, يحاكي غيرهم من الأمم كالإسلامية واليونانية والفرعونية وغيرها, ولعل أهم ما يساعدهم على ذلك امتلاكهم لكل وسائل التقدم والهيمنة التكنولوجية, التي تجعلهم أصحاب كل الوسائل الحديثة؛ كالاتصال والتواصل وغيرها , وهم بذلك قادرون على فرض أي ثقافة , يريدون فرضها على غيرهم من الأمم, التي تعتمد في حياتها اليومية على استخدام هذه الوسائل ولا يمكنها الاستغناء عنها.

وهذه الحقيقة تضفي أهمية علي التساؤل, الذي كثيرا ما يثار بشأن؛ ما إذا كانت القوى المادية والآلية لعصر الالة والتكنولوجيا ستسحق الحياة الاسمى والمثل العليا للثقافات القديمة؟ أم أن هذه الثقافات ستستطيع الصمود, وحماية مثلها العليا؟! وبالرغم من ذلك نجد أن معظم كتاب أمريكا ومثقفيها, لا يجدون أي خطر مؤكد في ذلك السحق للحياة الاسمى, بزعمهم أن ذلك سوف يؤدى- لديهم – إلى ظهور الشعراء والرسامون والقصصيون وكتاب المسرحيات والفلاسفة والعلماء, وسيجدون حتما جماهيرهم المعجبة بهم, وسوف يشكلون وعيا ثقافيا يميزها عن غيرها من الثقافات.

والحقيقة الفريدة المتعلقة بالحضارة الأمريكية والتي تميزها عن غيرها هي إنها إذا كانت ستخرج للعالم وللحيز الثقافي بثقافة مميزة لها , فعليها أن تتطور ولابد أن يكون هذا التطور من داخلها المادي نفسه , وتعتمد عليه في تطورها وليس على هامات دعائم سياسية واقتصادية , بمعنى أن تنبع من تحويل عصر إلى نحو جديد من العقل والعاطفة , ويلاحظ أن الأمر الثقافي في هذه الحالة ليس مجرد أمر كمي , أي أنه لا يتصل بزيادة عدد الأشخاص الذين يشتركون في خلق الثقافة والقيم والتمتع بها ، بل هو أمر كيفي؛ بمعنى أنه يجب أن يسألوا أنفسهم سؤال مهم وهو: هل بوسعهم أو بمقدرتهم تحويل حضارة مادية صناعية إلى أداة جديدة مميزة ؟تقوم بتحرير عقول المشتركين فيها وتهذيب عواطفهم وخلق الجانب الثقافي لديهم؟ ذلك الجانب المتناسب مع قيم مجتمعهم, وبذلك تكون العلاقة بين المدنية الصناعية والآلية, وبين الثقافة والوعي الثقافي, هي أعمق مشاكل الحضارة الأمريكية وأكثرها تعقيدا في وقتنا الحاضر, واذا صدق الشارحون في قولهم أن الأمركة (الثقافة الأمريكية)في طريقها لتصبح عالمية؛ فان هذه المشكلة ستغدو بالضرورة عالمية أيضا؛ بمعنى أنها لن تقتصر على الولايات المتحدة فقط, وإن كانت هي أول من يعاني منها, ونجد ذلك واضحا في نظام التعليم الأمريكي, الذى يشهد على وجوب الوصول إلي حل للمشكلة الثقافية بطرق اقتصادية ,فليس هناك شعب في العالم ,التزم عمليا بالتدريس العام الشامل كشعب الولايات المتحدة , ولكن ماذا يستهدف النظام التعليمي الأمريكي؟ وما هي الغايات التي يعمل من أجلها؟ فليس في وسع أحد أن ينكر أن هذا النظام يمنح الفرص للكثيرين , والذين ما كان بوسعهم الحصول على التعليم بدونها, وهو الأداة الفعالة المستعملة في عمليات صهر عقلية الفرد؛ لخلق عقلية تتسم بطراز مميز من الثقافة, لكنها في داخلها شروط ليس إلا , وإذا كان نظام التعليم الأمريكي العام؛ ينتج المادة الإنسانية الكفء؛ التي تطعم وتغذى الصناعة والتجارة وغيرها, في دولة تسيطر عليها الصناعة الآلية ,فإن هذا النظام لا يساعد على حل مشكلة تشييد وعى ثقافي أمريكي ذات مميزات , إنما يزيد من خطورة المشكلة ,ذلك لأن ما يمنع المدارس الأمريكية من أن تقوم بوظيفتها التعليمية بحرية ؛ هو ذلك الضغط غير المباشر الناجم عن دافع الربح المالي في النظام الاقتصادي , والدليل على ذلك هو أن السمة المميزة لجماعات الطلاب الأمريكيين في المدارس العالية؛ هي نوع من عدم النضوج الإدراكي؛ الذى يعود في الأصل إلى العزلة الفكرية الراسخة ,على الرغم من العناية الحرة, ولكن غير المهتمة, في المدارس بإفهامهم المشاكل الاجتماعية لحضارتهم , ونحن نشير هنا إلى المدارس والنظام التعليمي عند الحديث عن مشكلة الثقافة والوعى الثقافي؛ لأنها (المدارس) هي الوسائل الرسمية لإنتاج هذه الاتجاهات العقلية, ولإنتاج طرق الإحساس والتفكير, والتي هي زبدة الثقافة المميزة, فالتعليم بمعناه الواسع؛ من حيث تشكيل الاتجاهات الأساسية للإدراك والرغبة والتفكير, مترابط تماما مع الثقافة في معناها الاجتماعي الشامل .

لعل أكبر دليل على ما سبق من أفكار حول الوعي الثقافي الأمريكي؛ ما قامت به العالمة الأمريكية ” أيدا ساوسر” أستاذة الأنثروبولوجيا في جامعات نيويورك, حيث قامت بأبحاث عديدة في هذه المدينة حول البنية الاجتماعية في مختلف أحياء المدينة, ولها عدة مؤلفات من بينها: (الأنثروبولوجيا الطبية والنظام الدولي) ،والعالم “توماس باترسون” و هو أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة كاليفورنيا, وله عدة مساهمات أكاديمية حول التاريخ الاجتماعي للولايات المتحدة الأمريكية, من آخر مؤلفاته (التغيرات والتطور في القرن العشرين)ولقد استطاع تحدد الخطوط العريضة للمكونات الثقافية الأساسية للمجتمع الأمريكي, والتطورات الأساسية التي شهدتها الخارطة الثقافية الأمريكية خلال القرن الماضي, والسمة الأولى التي تم التأكيد عليها ؛هي وجود نوع من (التنافر) بين المكونات الثقافية للمجتمع الأمريكي في الوقت الراهن ، وهذا ما يتم التعبير عنه من خلال عدة مفاهيم مثل (التعددية الثقافية) أو (النزعات الثقافية المتعددة)أو (التنوع الثقافي)، ولقد قدمت “أيدا ساوسر” في هذا السياق تحليلاً أنثروبولوجيا حول دور(العرق) في تشكل الأمم، كما بحثت أيضا في العلاقة بين(العرق)و(الطبقة)و(الأمة), وعلى الصعيد الأمريكي قررت بأنه يسود نوع من (التناظر) بين الانتماء الثقافي وبين (الموقع)في هرم السلطة , لاسيما وأن النخبة الثقافية قريبة من (دوائر صنع القرار) في الولايات المتحدة الأمريكية، وأن احد المعايير الأساسية في مسألة التنوع الثقافي يتمثل في مفهوم (الاختلاف), وفي الأسس التي يقوم عليها هذا المفهوم على اعتبار أنها ذات صلة وثيقة بمفهوم (الهوية) ذاته, والذي يحظى بنقاشات واسعة في مساهمات هذه العالمة, ومن الملحوظ أن اهتمام العلماء مكرس لدراسة مفهوم الهوية ,على ضوء الاختلاف البيولوجي والثقافي, والعلاقة بين النزعات الاستعمارية وبين الانتماء لمجموعات كبيرة من شرائح المجتمع الأمريكي, إلى القارة الأفريقية أو الشبه القارة الهندية, وتعرض مساهمات أخرى لأشكال تكوّن أنماط جديدة من الوعي الثقافي في الولايات المتحدة الأمريكية ,كنتيجة لعملية التحديث الصناعي التي ترافقت مع الثورة المعلوماتية وتطور شبكات الإنترنت, إن مثل هذا التطور السريع خلال النصف الثاني من القرن العشرين كان له آثاره, على السياسات الاقتصادية الأمريكية وعلى مفاهيم الأسرة والعلاقات الاجتماعية كلها, بل ولا تتردد الباحثة “أيدا ساوسر” في القول؛ بأن هناك تبدلاً كبيراً في المفاهيم وإعادة تعريف للعرق والمواطنة والتنوع الثقافي، ضمن المنظور نفسه وجرى نوع من التغير في سياسات الهجرة حيث أصبح يؤخذ بالاعتبار الخبرات التي يتمتع بها المهاجرون الجدد، وإن سياسات الهجرة الجديدة والتبدلات التي يشهدها المجتمع الأمريكي من زاوية التنوع الثقافي, لابد وأن يكون لها آثارها على ميادين التربية وعلى النمط المعاشي للعديد من المجموعات الأمريكية, وكذلك على مستوى معيشتها نفسه، كما توضح الباحثة «أيدا ساوسر» في كتابها الذي يحمل عنوان (البؤس والمشردون في المدن الأمريكية)، النتيجة الأساسية التي توصلت إليها تتمثل في القول بأن الشرائح الفقيرة في المدن الأمريكية قد تأثرت ثقافياً بالاقتصاد العالمي الشامل ، أو ما هو معروف عامة بـ (العولمة)؛ بسبب التغيرات التي عرفتها بنية العمل والمجال والزمان والهوية, واذا كان المشردون لا يشكلون ظاهرة استثنائية في المجتمع الأمريكي الراهن، فإنهم قد أصبحوا بما يدلون عليه من مؤشرات منظورة وعامة؛ يمثلون رمزا لبؤس الملايين من الأمريكيين ،أي بتعبير آخر رمزا للبؤس الجديد في الولايات المتحدة, على أساس المعايير المحددة للغنى والفقر في أمريكا اليوم، وحيث أن هناك نوع من إعادة صياغة المنظومة الاجتماعية ؛على أساس قاعدة المعطيات الجديدة للنظام الاقتصادي العالمي (العولمة) ,وعلى أساس تغير بنية الفقر ومعاييره , وحيث تركز الكاتبة في هذا السياق على واقع تزايد نسبة النساء في شرائح الفقراء بالولايات المتحدة الأمريكية.

أما بخصوص الوعي الثقافي لدى الدول النامية ، وهى التي تمثل الأغلبية العالمية، فمعظم دول العالم دول نامية أو تحاول النمو، وهذا النمو يكون بدرجات متفاوتة ، فهناك النامية التي وصلت في نموها إلى مرحلة متقدمة من الرخاء ورفع مستوى المعيشة؛ مثل دول النمور الأسيوية التي تجمعت معا لتصل إلى مرحلة من الرخاء الاقتصادي ورفع مستوى معيشة أفرادها ، وهناك الدول النامية والفقيرة التي تعاني المرض والجهل والفقر وغيره من عوامل التأخر والهدم لأي حضارة, وخاصة مشكلة الزيادة السكانية التي تلتهم أي محاولة تقوم هذه الدول بها نحو التقدم.

والجدير بالذكر؛ انه تم اختيار مصر كنموذج للدول النامية, ودراسة الوعي الثقافي بها ،واختيار أمريكا كنموذج للدول المتقدمة , وذلك لما وجدنا من مفارقة تستحق الدراسة ، حيث أن مصر تمتلك ارث ثقافي عظيم وعريق, ولكنها تعاني من بعض المشكلات التي تجعلها غير مستفيدة من هذا الإرث الثقافي خير الاستفادة ، وعلى العكس تماما نجد المجتمع الأمريكي, ذلك المجتمع الحديث العهد بالحضارة, والذى لا يملك ارث ثقافي كالذي تمتلكه مصر, ولكنه يحاول جاهدا ويعمل على صناعة ازدهارا ثقافيا ؛ ليجعل لنفسه عصورا ذهبية للأدب والعلوم كما ذكرنا سابقا.

فمصر من البلاد, التي تمتد على مساحات واسعة من الحضارة والثقافة ، وذلك نظرا لجريان النيل نهر النيل في مساحة ممتدة منها, فظهرت الحضارة على أرضها, قبل ان تظهر على أي غيرها ، فعمر الريف المصري من عمر الحضارة, وهو الطابع المميز لها عن غيرها, ويتميز المجتمع المصري الحديث؛ بانه قائما على خطين متلازمين ؛هما الريف والحضر, فمنذ عهد محمد على وحتى نهاية مرحلة الاحتلال البريطاني , يقوم بعض المقيمين في الريف المصري بالهجرة إلي المدن, وذلك للبحث عن حياة أفضل؛ من حيث فرص التعليم وفرص العمل والأماكن الثقافية والحضارية وغير ذلك ، وذلك لأنه في هذه الفترة كان الاهتمام منصبا على القاهرة؛ من حيث توفير أماكن العلم والثقافة بها, ومن بعدها الإسكندرية , ثم مدن القناة دون غيرهم ، مما عمل على ازدياد الفروق الاجتماعية والثقافية بين سكان القرى وسكان المدن أو الحضر.

ثم جاءت مرحلة التطبيق الاشتراكي, التي عملت على إذابة الفوارق, وتحقيق العدالة الاجتماعية, من خلال زيادة فرص التعليم, وجعله متاحا أمام الشريحة الكبرى من المجتمع المصري, عن طريق مجانية التعليم, وتوفير المدارس في الريف؛ حيث القرى والنجوع , ومنح الإناث الحق في التعليم , وتشجيعها على منافسة الذكور في الحصول على التعليم الجامعي, وغيره من الميادين ، وبهذا اتسعت القاعدة الكمية في التعليم ،وأدى هذا إلى اتساع رقعة الوعي الثقافي بين المتعلمين ، ثم جاءت مرحلة ما بعد حرب أكتوبر 1973 التي اتبعت فيها الدولة سياسة الانفتاح الاقتصادي, وما تبعه من انفتاح ثقافي وتحول من الاشتراكية إلى الرأسمالية, ومن الزراعة كأول اهتمامات الدولة والمواطن, إلى الصناعة والتجارة , وسياسة المكسب والخسارة, والمادة هي المحرك الأساسي لكل شيء, وانفتاح سوق العمل العربي أمام العمالة المصرية, بكل أنواعها الزراعية والصناعية وتجارية وغيرها, ممن لم يلحقوا بقطار الانفتاح وجني ثماره ، فهاجروا إلى الدول العربية؛ لمحاولة التعويض وحصد الأموال ؛لمواكبة التغير في مجتمعهم, وهذه الهجرات قد أسهمت وبشكل كبير في إحداث بعض التغيرات العميقة في المجتمع, والتي لحقت بالريف والحضر على حد سواء ، ففي الريف اصبح الفلاح يترك أرضه, ويهاجر للعمل بالزراعة في الدول العربية, بعد أن كان هذا ممنوعا في السابق, والمنع هنا ليس بالقانون, ولكن بالعرف والتقاليد, وثقافة ارتباطه بارضه, التي كانت تمثل له كالعرض, أو كنوع من الشرف والفخر, بكونه يملك أرضه ويزرع بها ,ولكن بعد أن اشتدت عليه متطلبات الانفتاح؛ من ارتفاع الأسعار وغيرها , تبدل كل ذلك لديه فهاجر إلى احدى البلاد العربية, وبداخله دوافعه الاقتصادية وتطلعاته للمستقبل, ويحاول وهو في هذه البلاد محاكاة وتقليد غيره, ممن لا يملكون أرضا , ويستبدل كل أنماطه التقليدية بكل ما هو جديد, والاهتمام بتعليم أولاده ليكونوا؛ أفضل حالا منه , وكذلك فإن هذه الهجرة أدت إلى زيادة دخول المهاجرين, ورفع مستوى معيشتهم, وأدى ذلك إلى الزحف العمراني على الأرض الزراعية, التي هجرها الفلاح, وزيادة النزعة الاقتصادية الاستهلاكية , والرغبة في الامتلاك لكل وسائل الترفيه والرفاهية الحديثة, ومحاولة أهل الريف في تقليد أهل الحضر في بناء العمارات العالية, واستخدام التكنولوجية , وغيرها من الأمور, مما انعكس على الريف فزاد الوعى الثقافي في القرى, وتنوعت فيها المدارس وأماكن الدراسة وأماكن التكنولوجية، ثم ظهرت محاولات الهجرة إلى الدول الأوربية وأمريكا وغيرها من الدول المتقدمة, التي يسلك فيها الشباب كل الطرق الشرعية وغير الشرعية؛ للخروج والهجرة فبعد أن كان الشاب ينتظر؛ ليستكمل دراسته العالية, ويبدأ في التفكير في السفر والهجرة إلى الخارج؛ لتكوين مستقبله بطريقة اسرع من تكوينه في بلاده, فكان يتقدم بطريقة شرعية إلى سفارات هذه البلاد؛ ليسمحوا له بالسفر, وجدنا الأن أن الشاب لا يريد حتى الانتظار؛ ليستكمل دراسته , ويحاول الهجرة بالطرق غير الشرعية, والتي أصبحت مشكلة تهدد مصر, وتهدد الدول الأجنبية نفسها, ولذلك فان القيادة السياسية في مصر, تهتم بهذه القضية, وتحاول حلها؛ لما لها من خطورة على المجتمع, وعلى الوعي الاجتماعي والثقافي به, فالريف المصري متغير, وتختلف سرعة وشدة هذا التغير؛ تبعا للتغيرات التي تطرا على المجتمع.

ومن مظاهر الوعي الثقافي في مصر: ما تبذله الدولة من جهود حثيثة في سبيل الاهتمام بتنمية الوعي الثقافي والفني عند المصريين، وكان الرئيس عبد الفتاح السيسي، قد كرر كلمة (الوعي) عدة مرات في مواقف عدة خلال الآونة الأخيرة، تأكيدًا على أهمية رفع مستوى الوعي عند المصريين، أما على السياق الفني، فنرى أن وزارة الثقافة لم تغفل الاهتمام بتنمية الحس الفني عند جموع المصريين من أبناء الطبقة المتوسطة وما تحتها.

ويعد مهرجان (محكي القلعة) من مظاهر هذا الاهتمام؛ إذ أننا نجد أن الدولة تطلق هذا المهرجان الغنائي، الذي يتيح للجماهير شراء تذاكره بأسعار زهيدة للغاية، وفي سياق ثقافي، يُعد الاهتمام بفتح معارض للكتاب عبر شتى أنحاء الجمهورية واحدًا من الأدلة الواضحة على اهتمام الدولة بتنمية الوعي الثقافي الجماهيري, ولعل معرض القاهرة الدولي للكتاب الذي يعقد سنويا على أرض المحروسة لهو اكبر دليل على تنمية الوعي الثقافي.

وانطلاقًا من دور الوعي الثقافي, كوسيلة تساعد الإنسان على انتقاء ما هو نافع, ونبذ كل ما هو ضار, يظل الوعي الفني والثقافي في مصر يواجه تحديات متعلقة بدرجة نضجه, ذلك يُفسر نجاح الكتب الهابطة في تحقيق مبيعات عريضة بين جماهير المراهقين, باعتباره نتيجة حتمية لقصور أصحاب الوعي الثقافي لدى هذه الشرائح, كما تفسر الجماهيرية الشعبية التي يتمتع بها مؤدو أغاني المهرجانات , باعتبارها أيضًا دلالة دامغة على تراجع الوعي الفني لدى شريحة المتابعين, والتي لا تشكل عددًا هينًا من المواطنين.، فهذه الجماهير المصرية لو كانت قد حققت مستوى ناضجا من الوعي، لكانت قد نبذت هذه الأنماط الرديئة من الفنون الثقافة بشكل تلقائي, وانصرفت عنها نحو كلما هو نمط فني وفكري أصيل, لذلك فمن الواضح أن الدولة ،وعلى الرغم كل ما بذلته من جهود، لازالت تواجه العديد من التحديات في سبيل تنمية الوعي لدى هذه القطاعات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *