اسم الكاتب : سعيد توفيق
طالما تحدثت عن «الوعي السياسي» باعتباره أحد التجليات الأساسية للوعي العام التي تترابط معًا في حالة ارتقاء الوعي في دولة أو أمة ما، بل إن مِن أعلام فلسفة السياسة المعاصرين مَن زاد على ذلك، فرأى أن «مشكلات النظام الإنساني في المجتمع والتاريخ تنبثق من نظام الوعي، ومن ثم فإن فلسفة الوعي هي صميم فلسفة السياسة» (كتاب: فلاسفة السياسة في القرن العشرين، ترجمة نصار عبد الله، المقدمة، ص. 13). وأنا أريد في هذا المقال الكشف عن بعض الأسس أو البديهيات التي ينبغي أن يقوم عليها هذا الوعي، ذلك إن إغفال هذه البديهيات أو تجاهلها هو المسؤول عن كثير من الخلافات التي تنشأ في إطار مناقشة الأمور السياسية. وهذه البديهيات التي ينبغي مراعاتها في أي نقاش حول السياسة، يمكن التنويه إليها- فيما أرى- في النقاط التالية:
*السياسة هي علم إدارة القوة ممثلة في السلطة أو الدولة. تقوم السياسة على إدارة المصالح؛ ومن ثم فإن كل مسؤول سياسي يكون منوطًا به رعاية مصالح الدولة عظم شأنها أم صغر، كلٌ بحسب حدود منصبه في الدولة. غير أن الهدف من إدارة المصالح هو في النهاية تحقيق الحكم الرشيد؛ ولذلك فإن تحقيق المصالح لا يمكن أن يأتي على حساب التضحية بتحقيق غايات عليا، من قبيل: الحرية والاستقلالية والهوية، وما إلى ذلك. وحيث إن المصالح غالبًا ما تكون متضاربة، ولا تأتي خالصة من دون تضارب؛ فإنه يمكننا القول بأن السياسي المحنك هو الذي يمتلك العلم والقدرة معًا على إدارة المصالح المتضاربة وفقًا لأولوياتها.
*هذا هو الأصل في نشأة فلسفة السياسة لدى قدماء اليونان والرومان؛ فلأول مرة تنشأ التساؤلات والنظريات السياسية مع أفلاطون وأرسطو حول الحرية والديمقراطية ونظام الحكم الأمثل. فلم تكن هذه التساؤلات مطروحة أصلًا في الحضارات الشرقية، رغم ما بلغته من قوة وازدهار. ويرجع السبب في ذلك إلى شيوع نظام من الحكم ينظر إلى الحاكم/الملك باعتباره الإله أو المقدس، وكانت أغلب الكتابات الشائعة آنذاك هي كتابات تصف هذا الواقع القائم بالفعل، ولكنها لا تناقش مشروعيته.
*ليس هناك نظام سياسي واحد يعد هو النظام الأمثل. ولو شئنا شواهدَ على ذلك فلنرجع إلى التاريخ منذ نشأته وحتى عصرنا الراهن: عصر المصريين القدماء قد حوى أزهى عصور مصر التي لا نطمح حتى في بلوغ شيء منها في عصرنا الراهن، سواء على مستوى العلم أو الحِكمة أو الأخلاق؛ ولذلك فإنني لا أدري السبب الحقيقي في تعريض الجماعات الإسلاموية المعاصرة- حتى تلك الجماعات من المصريين- بعصر قدماء المصريين الذين يسمونهم عن جهالة بالفراعنة، والذين يستخدمون دائمًا كلمة الفرعون في كل سياق باعتباره الحاكم الظالم المستبد! كما أننا لا يمكن أن نُرجع الحضارة اليونانية إلى نشأة الديمقراطية الأثينية وحدها، تلك الديمقراطية التي انتقدها أفلاطون باعتبارها نوعًا من الديماجوجية، أو حالة الحكم من خلال الخطاب الغوغائي الذي يدير شؤون العوام ويهيمن عليهم. ولا ينبغي أن ننسى أن أثينا الديمقراطية التي أنتجت لنا روائع الفكر هي أيضًا أثينا التي حاكمت سقراط وحكمت عليه بالإعدام، فتجرع السم بتهمة إفساد عقول الشباب! ولا ينبغي أن ننسى أيضًا أن الولايات المتحدة الأمريكية- التي هي نموذج الديمقراطية في عالمنا المعاصر- لا تزال بعض مؤسساتها الرسمية (كالشرطة) وغير الرسمية تضطهد المواطنين من ذوي البشرة السوداء، فما بالك بغير المواطنين!
*من المؤكد أن الغرب ليس عنصريًّا فيما يتعلق بإدارة شؤونه الداخلية، ولكنه يظل عنصريًّا تجاه الآخر المختلف في الجنس والأصول العرقية والثقافية. ولذلك فإننا نجد أن هذا الغرب- وفقًا لآلياته الديمقراطية يمكن أن يولي الآخر المختلف في الأصل أو العرق المناصب المرموقة في الدولة بما في ذلك رئاسة الدولة ذاتها، في حين أن الوعي العام لدى المواطن في ممارسة الحياة اليومية لا يخلو من عنصرية تجاه الشخص العادي من أصول مغايرة. ونحن من حين لآخر نجد شواهد عديدة على هذه العنصرية الغربية التي تقوم عليها وتبررها المركزية الغربية في أمور الفكر والسياسة.
*ومن المؤكد أننا أمة من بين الأمم التي تخلفت عن مسار التاريخ كما يقول فوكوياما المفكر الأمريكي من أصل ياباني؛ ولكن تنظير فوكوياما ليس صحيحًا في الترويج للديمقراطية باعتبارها النظام الأمثل الوحيد، وأنها نهاية التاريخ أو غاية ما وصل إليه، وهو ما يعني أن الشعوب التي لا تحيا وفقًا لنموذج الديمقراطية الغربية هي شعوب تحيا خارج التاريخ! فالواقع يشهد بأن هناك دولًا وأممًا عديدة حتى في تاريخنا الراهن لا تتبنى شكل هذا النظام، ولا تختزله في صورة الانتخابات؛ ومع ذلك فإنها تعد دولًا قوية تنعم بالاستقرار السياسي، وتشهد حالة من الرخاء المتنامي. ولا ينبغي تأويل كلامي هذا على أنني أتبنى موقفًا معاديًا للديمقراطية، وإنما الأمر بخلاف ذلك تمامًا: فما أود قوله هو أن الديمقراطية في صورتها الغربية ليست هي النظام الوحيد الأمثل للحكم الرشيد، وأن الديمقراطية التي يتم اختزالها عادة في عملية الانتخاب من جانب الجماهير لا تصلح في كثير من أمور إدارة المؤسسات في الدولة، تمامًا مثلما لا يصلح نظام التعيين الذي يأتي بقرارات فوقية؛ فالنظام الأمثل هنا ليس هو «الانتخاب»، وإنما هو «الاختيار أو الانتقاء» الذي ينبغي أن تقوم به دائمًا هيئات مختصة من الشيوخ المرموقين في مجالات الاختيار وفقًا لآلية من الضوابط والشروط الموضوعية.