اسم الكاتب : حميد طارش الساعدي
تلجأ الأنظمة المستبدة أحياناً إلى طرق ملتوية في اضطهادها للأفراد تؤمن لها عدم المساس بشكل القانون لكن نظام صدام المباد خرق القوانين النافذة بشكل سافر ومن دون مراعاة لاحترام القانون.
جرائم الإبادة الجماعية والقتل التعسفي والتعذيب
المادة (20) من الدستور العراقي المؤقت لسنة 1970 تنص على (أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته في محاكمة قانونية وجعل جلسات المحاكم علنية في الأساس والجلسات السرية استثناء ولسبب وجيه وحق الدفاع مقدس في كل مراحل التحقيق والمحاكمة، وللمواطن أن يدافع عن نفسه بالطريقه التي يراها وفي حالة امتناع المتهم عن توكيل محام له، فعلى المحكمة أن تنتدب محامياً للدفاع عن المتهم) ولم يطبق هذا النص على المتهمين لأسباب سياسية أو طائفية أو عرقية حيث كان النظام المباد يعتبر (المتهم مجرماً حتى تثبت براءته) فمن لحظة الاعتقال يعامل على أساس كونه مجرماً تمارس ضده شتى أنواع التعذيب الوحشي حتى يعترف بأنه مجرم، وعلى خلاف الحقيقة، أما المحاكمة فتجرى في محكمة خاصة تدار من قبل موظفين تابعين للأجهزة الأمنية لا يعرفون شيئاً عن إجراءات المحكمة العادلة ولا ضمانات المتهم ولا حقوق الإنسان وعادة ما تكون جلسات المحاكم سرية والاستثناء علنياً (يشمل الجنايات والجنح العادية). ولم نر أو نسمع يوماً عن محاكمة علنية لمتهم لأسباب سياسية أو طائفية أو عرقية. وألغي حق الدفاع المقدس تماماً حيث المتهم يظل مصيره مجهولاً ويلقى في زنزانات مظلمة وكثيراً ما تحدث إلينا الناجون من قمع النظام المباد عن سخرية هذه المحاكم بهم حيث تدخل قوى الأمن بصفة محامين يطالبون بإنزال أقسى العقوبات بحقهم. ونصت المادة (21) من الدستور العراقي المؤقت على: (لا تجوز العقوبة إلا على الفعل الذي يعده القانون جريمة أثناء اقترافه) ورأينا كيف سيق مئات الآلاف من أبناء العراق إلى زنزانات السجون الرهيبة ومقاصل الإعدام بتهمة الانتماء إلى أحزاب وحركات إسلامية ووطنية وكردية بينما لا يوجد قانون يعد هذا الانتماء جريمة، إضافة إلى نص الدستور في المادة (26) على: (يكفل الدستور حرية الرأي والنشر والتظاهر وتأسيس الأحزاب السياسية والنقابات والجمعيات) بل رأينا أن الآلاف من أبناء شعبنا الذين أصبحوا فيما بعد من ضحايا المقابر الجماعية لم يكن لديهم أي انتماء لحزب سياسي وتمت إبادتهم بسبب انتمائهم إلى طائفة أو قومية معينة. وتمثلت عمليات الإبادة الجماعية لأبناء الشعب العراقي من خلال التوسع في استخدام عقوبة الإعدام، تلك العقوبة التي هي مثار جدل ونقاش على شرعيتها (لم يحسم حتى الآن) وانقسم المجتمع الدولي ما بين الأخذ بها وإلغائها والبعض الآخر ضيق من نطاق استخدامها والآخرون منعوا تطبيقها على الجرائم السياسية لإيمانهم بـ(حرية الرأي) وأكدت المادة (6) الفقرة (2) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أنه (لا يجوز في البلدان التي لم تلغ عقوبة الإعدام أن يحكم بهذه العقوبة إلا جزاءً على أشد الجرائم الخطرة وفق التشريع النافذ وقت ارتكاب الجريمة وغير المخالف لأحكام هذا العهد ولاتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها) ونصت المادة (22) من قانون العقوبات رقم (111) لسنة 1969 على: (يحل السجن المؤبد محل الإعدام في الجرائم السياسية) ونصت المادة (79) من القانون المذكور على منع الحكم بالإعدام على من كان عمره وقت ارتكاب (الجريمة) أقل من عشرين سنة سواء أكانت سياسية أم غير سياسية.
لكن الذي حصل هو انتهاك سافر للقانون فجميع ضحايا المقابر الجماعية والإعدام التعسفي كانت لأسباب سياسية والأحداث كانوا يشكلون نسبة كبيرة منهم وتمادى النظام المباد في انتهاك القانون أبعد من هذا حيث نصت المادة (291) من قانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 على: (لأقارب المحكوم عليه بالإعدام أن يزوروه في اليوم السابق على اليوم المعين لتنفيذ عقوبة الإعدام وعلى إدارة السجن إخبارهم بذلك) وتم إعدام مئات الآلاف من دون علم ذويهم بل ظل إعدامهم مجهولاً لذويهم حتى سقوط النظام حيث تمت معرفة إعدامهم من خلال وثائق أمن النظام المباد.. وأيضاً نصت المادة (292) من قانون أصول المحاكم الجزائية على: (إذا كانت ديانة المحكوم عليه بالإعدام تفرض عليه الاعتراف أو غيره من الفروض الدينية قبل الموت وجب إجراء التسهيلات اللازمة لتمكين أحد رجال الدين من مقابلته) بينما راينا إعدام العديد من المسيحيين والديانات الأخرى بتهمة الانتماء لأحزاب سياسية من دون التقيد بهذه المادة القانونية، وأكدت المادة (293) من القانون المذكور على: (تسليم جثة المحكوم عليه بالإعدام إلى أقاربه إذا طلبوا ذلك وإلا قامت إدارة السجن بدفنه على نفقة الحكومة) وهنا تم العمل بالشطر الثاني فقط، أي الدفن على نفقة الحكومة من دون علم ذوي المعدوم. وإذا انتقلنا إلى تنفيذ عقوبة الإعدام بموجب القانون فهي أما شنقاً حتى الموت، حسب قانون العقوبات العراقي، أو رمياً بالرصاص حتى الموت، حسب قانون العقوبات العسكري العراقي، لكن الذي حدث في تنفيذ هذه العقوبات لم يشهد له التاريخ مثيلاً ولم تصل إليه أبشع الأنظمة الهمجية، حيث نفذت هذه العقوبات بلغم المحكوم عليه بالإعدام بالمتفجرات وتفجيره أو إذابته في أحواض (التيزاب) أو تقطيعه بـ(الثرامة) أو رميه إلى الحيوانات المفترسة أو رميه من الطائرة على ارتفاع شاهق أو دفنه وهو حي، وكذلك عمليات القتل الجماعي بالأسلحة الكيمياوية في مجزرة حلبجة ومناطق الأهوار في الجنوب أو بالصواريخ الثقيلة والطائرات ذات الأجنحة المتحركة (السمتيات) كما حدث في انتفاضة الشعب في عام 1991 ونضيف إلى هذه الخروقات خرقاً آخر مهماً يتعلق بأسس القانون حيث أكد فقهاء القانون على وظيفة سامية للعقوبات وهي إصلاحية للجاني ورادعة للآخرين وهنا نتساءل عن هذه العقوبات القاسية أصلحت من؟ وماذا أصلحت؟ ومم ردعت الآخرين؟ وتجدر الإشارة هنا إلى مجازر الانفال التي ارتكبها النظام المباد بحق الأكراد في عام (1988) لتسفر عن تهجير مئات الآلاف وقتل الآلاف وتدمير آلاف القرى والمنازل وكذلك عمليات تجفيف الأهوار في الجنوب عن طريق إغلاق روافد دجلة والفرات التي كانت تغذيها وأسفرت هذه العمليات عن تهجير قسري وقتل جماعي للآلاف من سكانها وتدمير منازلهم، بل حتى الحيوانات لم تسلم من عمليات الإبادة، ولا ننسى أيضاً بأن قرارات الحكم الصادرة بالإعدام أو السجن كانت تنص على مصادرة الأموال المنقولة وغير المنقولة للمحكوم عليهم بل تم تصعيد هذا الأمر في انتفاضة عام 1999 إلى تهديم منازل المحكوم عليهم بطريقة وحشية. أما التعذيب الذي كان يسبق إصدار قرارات الحكم فكان يمثل انتهاكاً بشعاً للقوانين النافذة والمواثيق الدولية الملزمة للعراق حيث تنص المادة (22) من الدستور العراقي المؤقت لسنة 1970 على تحريم ممارسة (أي نوع من أنواع التعذيب الجسدي أو النفسي) كما منعت (القبض على أحد أو توقيفه أو حبسه أو تفتيشه إلا على وفق القانون) وأكدت (حرمة المنازل وعدم جواز دخولها أو تفتيشها إلا وفق القانون) لكن الذي حدث هو خرق هذه النصوص الدستورية حيث كان التعذيب الجسدي والنفسي وسيلة التحقيق الوحيدة التي تستخدم مع المتهم لأسباب سياسية أو طائفية أو عرقية، لا لغرض الوصول إلى الحقيقة بل لحمل المتهم على الاعتراف بالتهمة الموجهة إليه. ولم يكن التعذيب يقتصر على المتهم نفسه بل يتعداه إلى أفراد أسرته مثل زوجته أو أبنائه أو والديه لحمل المتهم على الاعتراف بالتهمة الموجهة إليه وإن كانت منافية للحقيقة. أما إلقاء القبض والحبس والتفتيش إذا كان يحدث على الشبهة في ظل أنظمة جائرة حدثنا التاريخ عنها فإنه حدث في ظل النظام المباد من دون أي مسوغ قانوني بل حدث لأجل إشاعة الخوف والرعب بين الناس بل مما زاد الأمر سوءاً أنه حدث لإشباع رغبات مزاجية. أما حرمة المنازل التي تحدثت عن قدسيتها الأديان السماوية وقواعد الأخلاق والأعراف الاجتماعية وجاءت القوانين لتجعل احترامها وصيانتها ملزمين فكانت السلطة تكسر أبوابها في ساعات متأخرة من الليل، لاعتقال الأشخاص وبطريقة مهينة بشعة أمام أفراد أسرهم. بل إن منازل الجيران لم تسلم، حيث يتم تطويقها وتسلق جدرانها وسطوحها. وخرقت أيضاً المادة (127) من القانون أصول المحاكمات الجزائية رقم 23 لسنة 1971 حيث نصت على: (لا يجوز استعمال وسيلة غير مشروعة للتأثير على المتهم للحصول على إقراره ويعد من الوسائل غير المشروعة إساءة المعاملة والتهديد بالإيذاء والإغراء والوعد والوعيد والتأثير النفسي واستعمال المخدرات والمسكرات والعقاقير) أما قانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 النافذ فإنه يحرم استخدام التعذيب من جانب أي موظف رسمي، أي بمعنى آخر. جميع الموظفين الرسميين الذين قاموا بالتعذيب أو اصدروا أوامر بالتعذيب أو كان من صلاحيتهم منع التعذيب أو كان من صلاحيتهم تقديم القائمين بالتعذيب إلى المحاكمة بوصفهم مجرمين ولم يقوموا بذلك، هم مجرمون وفق القانون. ولا يمكن إعفاؤهم وفق تنظيرات اتباع البعث المقبور على قاعدة (عدم مسؤولية التابع عن أعمال متبوعة) وذلك وفقاً لقاعدة الخاص يقيد العام، ولصراحة النص على ممارسة التعذيب تعد جريمة حيث نصت المادة (333) من قانون العقوبات على: (يعاقب بالسجن أو الحبس كل موظف أو مكلف بخدمة عامة عذب أو أمر بتعذيب متهم أو شاهد أو خبير لحمله على الاعتراف بجريمة أو للإدلاء بأقوال أو معلومات بشأنها ويكون بحكم التعذيب استعمال القوة أو التهديد) ولم نر أية محاسبة قانونية للقائمين بالتعذيب من قبل النظام المباد بل جميع أشخاص النظام المباد هم مشتركون بهذه الجريمة القذرة.
التهجير القسري وإسقاط الجنسية:
ولقد شكل صدور القرار سيئ الصيت (666 في 7/5/1980) خرقاً بشعاً لحقوق الإنسان في المواطنة والجنسية حيث نص القرار المذكور على:
1- إسقاط الجنسية العراقية عن كل عراقي من اصل أجنبي إذا تبين عدم ولائه للوطن والشعب والأهداف القومية والاجتماعية العليا للثورة.
2- على وزير الداخلية أن يأمر بإبعاد كل من أسقطت عنه الجنسية العراقية بموجب الفقرة (1) ما لم يقتنع بناءً على أسباب كافية بأن بقاءه في العراق أمر تستدعيه ضرورة قضائية أو قانونية أو حفظ حقوق الغير الموثقة رسمياً. ويبدو واضحاً من هذا النص خرق القانون الدولي الإنساني، المتمثل بالإعلان العالمي لحقوق الإنسان وعهود ومواثيق حقوق الإنسان في المواطنة والجنسية حيث نصت اتفاقية وضع الأشخاص عديمي الجنسية لعام 1960 على: (لا يجوز أن يكون الشخص عديم الجنسية أو تقوم الدولة بسحب الجنسية وعدم اعده مواطناً) أما الاستثناءات الواردة على هذه الاتفاقية وبالتالي يمكن أن يكون الشخص من دون جنسية فهي:
أ- المجرم الدولي ممن ارتكب جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب وجرائم ضد السلم.
ب- المجرم العادي قبل منحه حق الحماية الدولية.
ج- المجرمون المتهمون بجرائم ضد مقاصد الأمم المتحدة.
والعراق ملتزم بهذه الاتفاقية لأنه من الدول المصدقة عليها لكن الذي حدث هو تهجير مئات الآلاف من العراقيين من الكورد الفيليين والعرب الشيعة بعد إسقاط جنسيتهم بحجة التبعية الإيرانية، على وفق القرار المذكور في أعلاه، وحجز أبنائهم الشباب وقتلهم فيما بعد ومصادرة أموالهم المنقولة وغير المنقولة ولم يشفع لهم تاريخهم الطويل في بناء العراق بكل إخلاص وتقديم التضحيات والخدمة في صفوف الجيش العراقي ولم يرتكبوا أية جريمة تعطي الحق بإسقاط جنسيتهم على وفق استثناءات الاتفاقية المذكورة آنفاً بل لم يتم التقيد بالقرار المشؤوم نفسه، حيث نص على: (إذا تبين عدم ولائه للواطن) وضحايا القرار اعدوا من البدء عديمي الولاء للوطن بل نحن نستذكر جيداً بدء عمليات التهجير القسري قبل صدور القرار نفسه وعدم إعطاء أي دور للقضاء في إسقاط الجنسية أو الاستثناء أو الطعن وهذا خرق خطير للنظام القانوني.
قرارات جائرة
واستمر نظام صدام في نهجه الاستبدادي ضد الشعب العراقي وذلك بإصدار قرارات جائرة مهينة للإنسان وتحط من كرامته تمثلت في قرار مجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (115 في 25/8/1994) الذي نص على:
أولاً: يعاقب بقطع صيوان الأذن كل من ارتكب جريمة:
1- التخلف عن أداء الخدمة العسكرية.
2- الهروب من الخدمة العسكرية.
3- إيواء المتخلف أو الهارب من الخدمة العسكرية والتستر عليه.
ثانياً: يعاقب بقطع صيوان الأذن الأخرى كل من عاد إلى ارتكاب إحدى الجرائم المنصوص عليها في البند (أولاً) من هذا القرار.
ثالثاً- توشم جبهة كل من قطع صيوان إذنه بخط أفقي مستقيم بطول لا يقل عن ثلاثة سنتمترات ولا يزيد على خمسة، وبعرض ملمتر واحد.
وهذا القرار يمثل خرقاً واضحاً للدستور المؤقت لسنة 1970 حيث نصت المادة (22) الفقرة (أ) على (إن كرامة الإنسان مصونة ولا يجوز أن يلحق به أي ضرر جسدي أو نفسي) وللعهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية حيث نصت المادة (7) على أنه (لا يجوز إخضاع أحد للتعذيب ولا للمعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية أو الحاطة بالكرامة) والعراق من الدول المصدقة على هذا العهد، أي ملزم به، وأعربت اللجنة المعنية بحقوق الإنسان في هيئة الأمم المتحدة في تشرين الثاني 1997 عن قلقها العميق لأن العراق (لجأ إلى فرض عقوبات قاسية ولا إنسانية ومهينة مثل بتر الأطراف والوشم، وهي عقوبات لا تتفق مع المادة (7) من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وشددت على المطالبة بالإقلاع عن هذه العقوبات على الفور).
وتصور النظام الصدامي، نتيجة القمع البشع الذي مارسه على أبناء الشعب العراقي، إنه يستطيع أن يلغي التنوع القومي في العراق وذلك بإصدار قرار ما يسمى بمجلس قيادة الثورة المنحل المرقم (199) في 6/9/2001 الذي أجاز لكل عراقي أتم الثامنة عشرة من العمر الحق في طلب تغيير قوميته إلى القومية العربية وشكل هذا القرار خرقاً للدستور النافذ حيث نصت المادة الخامسة الفقرة (ب) منه على (يتكون الشعب العراقي من قوميتين هما القومية العربية. والقومية الكردية ويقر هذا الدستور حقوق الشعب الكردي القومية والحقوق المشروعة للأقليات كافة ضمن الوحدة العراقية) وأيضاً مثل القرار خرقاً للاتفاقية الدولية الخاصة بالقضاء على جميع اشكال التمييز العنصري التي انضم إليها العراق في عام (1970) حيث نصت المادة (2/1/أ) منها على: (تتعهد كل دولة طرف بعدم إتيان أي عمل أو ممارسة من أعمال أو ممارسات التمييز العنصري ضد الأشخاص أو جماعات الأشخاص أو المؤسسات، وبضمان تصرف جميع السلطات العامة والمؤسسات العامة، القومية والمحلية، طبقاً لهذا الالتزام) وتدخل ضمن هذه الخروقات عمليات التهجير القسري من وإلى محافظة كركوك على أساس قومي.
انتهاك حقوق الإنسان الأساسية
وارتكب النظام المباد جرائم انتهك فيها حقوق الإنسان الأساسية ومنها حق الملكية حيث شرع القوانين من أجل انتزاعها جبراً ومن دون إعطاء أي حق للطعن أمام القضاء في مدى توفر المنفعة العامة من نزع من الملكية وكما نصت المادة (9) من قانون الاستملاك رقم (12) لسنة 1981على: (لدوائر الدولة وللقطاع الاشتراكي والمختلط التي يحق لها استملاك العقار قانوناً أن تطلب استملاك أي عقار أو جزء منه أو الحقوق العينية الأصلية المتعلقة به، وفقاً لأحكام هذا القانون لتنفيذ مشاريعها وتحقيق أغراضها). وبرغم تأكيد فقهاء القانون على أن نزع الملكية بسبب المنفعة العامة هو استثناء يجب عدم التوسع فيه وإيجاد ضمانات مهمة لتأمين نزع الملكية بشكل عادل ومنها وجود حقيقة المنفعة العامة المترتبة على نزع الملكية الخاص ودفع تعويض عادل، عيني أو نقدي، مع أعطاء حق الطعن أمام القضاء لصاحب الملكية الخاصة، وفي الاتجاهين، وجود المنفعة العامة أو عدالة التعويض، لكن النظام المباد مارس عملية نزع الملكية الخاصة بشكل جبري لأسباب معظمها واهية ودخلت فيها المصالح الشخصية وليست المصالح العامة منتهكاً بذلك دستوره النافذ حيث نصت المادة (16) الفقرة (ب) منه على: (كفل الملكية الخاصة والحرية الاقتصادية الفردية) ونصت الفقرة (ج) من المادة نفسها على أن يضمن (تعويضاً عادلاً للملكية الخاصة عند نزعها لمقتضيات المصلحة العامة فقط). وهناك أيضاً خرق لمادة دستورية نصت على حق الإنسان في كتمان أموره الخاصة في المراسلات حيث نصت المادة (23) من الدستور المؤقت لسنة 1970 على (سرية المراسلات البريدية والبرقية والهاتفية) وقد حدث إلقاء القبض على أشخاص لا لكونهم تكلموا بحديث عبر الهاتف أو كتبوا رسائل وبرقيات فيها شيء ضد النظام بل لمجرد أنها كانت موجهة إلى شخص آخر مطلوب من قبل النظام المباد. وهكذا تتوالى خروقات الدستور النافذ من قبل النظام المباد حيث نصت المادة (24) من الدستور المذكور على (حرية المواطن في التنقل داخل البلاد والسفر خارج البلاد والعودة إلى الوطن) وكانت إجراءات السفر والحصول على جواز سفر لا تتم من دون موافقة أمنية ودفع ضريبة مالية عجز الكثير من أبناء الشعب عن دفعها. ونصت الفقرة (25) من الدستور المؤقت لسنة 1970 على (حرية الأديان والمعتقدات وممارسة الشعائر الدينية) وكثير من أبناء العراق أمضوا مدة طويلة في السجن وآخرون منهم كانوا من ضحايا المقابر الجماعية بسبب إقامة مجلس عزاء الحسين (عليه السلام) أو الذهاب إلى كربلاء المقدسة مشياً على الأقدام. ناهيك عن تشريع عقوبات قاسية وصلت إلى درجة الحكم بالإعدام على من أساء لرئيس الدولة والحزب حتى في حالة عدم كون الاساءة صريحة بل نتيجة التفسير الكيدي والتأويل المزاجي وتم قطع رؤوس المئات من النساء من دون محاكمة وأدلة أصولية وبطريقة وحشية أمام أنظار الناس. أما الاستحواذ على خزينة الدولة ومواردها وعدها ملكاً خاصاً للطاغية يتصرف بها كيف يشاء فكان واضحاً للعيان وانتهاكاً صريحاً لقانون العقوبات العراقي رقم (111) لسنة 1969 المادة (341) فضلاً عن الإهمال المتعمد لكثير من مناطق العراق بسبب التمييز العرقي والطائفي حيث حرمت من أبسط مقومات الحياة المدنية والخدمات والرعاية الصحية كذلك إفساد النظام الإداري وتبعيث المؤسسات الحكومية حيث لا يمكن لشخص العمل في مؤسسة حكومية من دون الانتماء إلى حزب البعث المقبور، ويضاف إلى ذلك إخضاع الناس لنظام رقابة صارم عن طريق بطاقة السكن ومختار المحلة وعناصر البعث المقبور ووكلاء الأمن والبطاقة التموينية والتلويح بقطعها عن كل من يعارض النظام. وكل أعمال الرقابة هذه من أجل إدخال الرعب في نفوس الناس وإجبارهم على الولاء للسلطة. وحتى البيئة لم تسلم من انتهاكات النظام المباد حيث الإهمال المتعمد لشبكات صرف المياه الصحي وحرق آبار النفط أثناء الحروب التي شنها وما نجم عن تجفيف الأهوار وعدم اتباع القواعد السليمة بشأن مخلفات الأسلحة الكيمياوية والبايولوجية التي كان ينتجها. ولم تقف عند هذا الحد جرائم النظام المباد بل تعداها إلى ارتكاب جرائم حرب دولية عن طريق دفع العراق إلى ثلاث حروب مدمرة أسفرت عن قتل الآلاف من أبناء العراق وتبديد ثرواته الوطنية إضافة إلى خسائر الدول الأخرى البشرية والمادية واستخدامه العراقيين والأجانب دروعاً بشرية في مواجهة النيران.
محاكمة المجرمين
وهنا لابد من التأكيد على أن جميع هذه الجرائم التي ذكرت وما نتج عنها من أضرار جسيمة موثقة بملفات رسمية دونها النظام المباد من خلال دوائر أمنه القمعية، وتوجد كذلك أفلام توثق بعض الجرائم إضافة إلى شهادة الملايين من أبناء العراق الذين كانوا من ضحايا هذه الجرائم. وهذه الأدلة تؤدي إلى تحقق الجرائم المرتكبة من حيث وصفها القانوني لوجود الركن المادي والمعنوي والدافع الباعث على الجريمة وبالتالي تشكل إدانة قاطعة لجميع أشخاص النظام المباد وخاصة المسؤولين والبعثيين ومنتسبي الدوائر القمعية (أمن، مخابرات، استخبارات، فدائيي الطاغية) ولا يمكن وفقاً للقانون والمسؤولية الجنائية التضامنية والاشتراك الجنائي استثناء أحدهم إلا في حالة إثبات العكس، يعني عدم الاشتراك في الجريمة، بشكل قانوني. ويفترض من هيئات المحكمة الجنائية المختصة أن تحاكم هؤلاء المجرمين، الذين تمت إدانتهم للخروقات المذكورة آنفاً، حسب نصوص قانون تأسيسها والعقوبات المقررة لها، نصرة للحق وتطبيقاً للعدالة.
وتجدر الإشارة هنا إلى اتجاهات التأكيد على محاسبة المجرمين وهي:
1- في منظور الشريعة الإسلامية الغراء تعد المحاسبة حياة للانسان من حيث إزالة أثار الجريمة وإعادة التوازن للمجتمع بعد حدوث الجريمة وكما جاء في القرآن الكريم (ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب).
2- الهدف من وجود القانون هو تنظيم قواعد السلوك الاجتماعي من خلال أوامر ونواهٍ يترتب على مخالفتها إنزال العقوبات الملائمة ومن ثم فإن عدم محاسبة المجرمين هو تعطيل لدور القانون في المجتمع بل تشجيع على مخالفته ومن ثم تشجيع على ارتكاب الجريمة مرة أخرى.
3- وظيفة العقوبة هي إصلاحية للجاني ورادعة للآخرين من الإتيان بالعمل الجرمي نفسه وعدم إنزالها بحق الجناة يعني عدم إصلاحهم وعدم ردع الآخرين من الإتيان بالعمل نفسه الجرمي خاصة نحن نعيش الأوضاع غير المستقرة التي لا يمكن التكهن عما ستؤول إليه وبالتالي نكون قد مهدنا لانتهاكات جديدة.
4- الاتجاه السائد في القانون الدولي هو منع سياسة الإفلات من العقوبة على الجرائم المرتكبة بحق الإنسانية كما مبين:
أ- المادة (1) من اتفاقية جنيف عام (1948) نصت على: (المعاقبة على الإبادة الجماعية سواء ارتكبت في أيام السلم أو أثناء الحرب).
ب- المادة (4) من الاتفاقية المذكورة نصت على: (يعاقب مرتكبو الإبادة الجماعية سواءً كانوا حكاماً دستوريين أو موظفين عامين أو افراداً).
ج- المادة (5) من مبادئ التعاون الدولي تنص على: (تعقب واعتقال وتسليم ومعاقبة الأشخاص المذنبين بارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية).
د- المادة (7) من اتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من أنواع المعاملة أو العقوبة القاسية أو اللا إنسانية نصت على (أن تقوم الدول بتسليم الأشخاص الذين يدعى ارتكابهم جرائم التعذيب أو بعرض القضية على سلطاتها المختصة بقصد تقديم الشخص للمحاكمة).
هـ- تنص المادة (14) من إعلان حماية الأشخاص من الاختفاء القسري على (إحالة أي أشخاص تدعى مسؤوليتهم عن وقوع اختفاء قسري إلى السلطات المختصة لإقامة الدعوى والحكم عليهم).
و- عزز مجلس الأمن الجهود الدولية المبذولة لضمان عدم السماح بالإفلات من العقاب على الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان عن طريق إنشاء المحكمة الدولية لمحاكمة المسؤولين عن ارتكاب الجرائم بحق الإنسانية في إقليم يوغسلافيا السابق منذ (1991) والمحكمة الجنائية الدولية لمحاكمة الأشخاص المسؤولين عن أعمال الإبادة الجماعية في إقليم رواندا.
ز- نصت المادة (5) من النظام الأساس للمحكمة الجنائية الدولية على أن لها ولاية قضائية على الجرائم الآتية في حال ارتكابها (1) الإبادة الجماعية (2) الجرائم المرتكبة في حق الإنسانية (3) جرائم الحرب (4) العدوان.
ونؤكد هنا أيضاً على أن المتهمين بارتكاب الجرائم في حق الإنسان العراقي تم إلقاء القبض على قسم قليل جداً منهم وإن آخرين منهم ما زالوا أحراراً بسبب تخفيهم داخل العراق أو كونهم أحيلوا الى التقاعد منذ سنوات جعلتهم يعيشون بشكل عادي وكأنهم لم يرتكبوا تلك الجرائم الوحشية وإن آخرين سافروا خارج العراق، وهنا يجب التحرك الجاد والمسؤول وبجميع الوسائل لإرجاعهم وتقديم الجميع للمحاكمة.
ولا بأس من تداول مفهوم المصالحة الوطنية في المدة الأخيرة، ويجب التأكيد هنا على أن هذا المفهوم يعقب الحروب الأهلية ولم تكن في العراق حرب أهلية بل كان يوجد نظام قمعي مؤلف من جميع القوميات والأديان والمذاهب وكان ضحيته جميع شرائح المجتمع، صحيح كانت النسب مختلفة سواء داخل منتسبي النظام القمعي أو ممن كانوا ضحية القمع، وعلى هذا الأساس يمكن عقد مؤتمرات يشترك فيها جميع ممثلي مكونات الشعب العراقي لإبراز هذه الحقيقة، حقيقة عدم وجود صراع قومي أو طائفي بل صراع بين طغاة ومحكومين، والتوجيه على نبذ الفرقة ووضع آليات عمل مشتركة تهدف إلى وضوح الرؤيا وإبعاد شبح ما كان يؤسس له النظام المباد من تفرقة عنصرية ومذهبية وأيضاً يمكن في هذا السياق وضع خطة مقبولة لمسألة العفو تنسجم مع أرض الواقع، وخلاف ذلك سيؤدي إلى مزيد من عمليات الانتقام الثأري التي تمثل انتهاكاً جديداً للقانون وحقوق الإنسان ويمكن تلخيص هذه الخطة بالآتي:
1- إعطاء الحق للمتضرر بأن يعفو عن الجاني مقابل تعويض أو من دون مقابل مع إبقاء الحق العام وفقاً للقانون.
2- إعطاء الفرصة لشيوخ العشائر للقيام بفض النزاعات بين الجاني والضحية عن طريق الدية أو كما تسمى (الفصل) بعد موافقة المتضرر وضمان الحق العام.
3- يمكن وضع آلية عفو للمتورطين مع النظام من الذين لم يرتكبوا أي جريمة بحق الإنسان وذلك كالآتي:
أ- أن يقوم المتورط بتسليم نفسه إلى الجهة المختصة.
ب- أن يقوم بكشف الحقيقة.
ج- أن يعتذر للمجتمع العراقي عن كل تورطه مع النظام المباد.
د- أن يتعهد بعدم تكرار جريمة التورط مستقبلاً.
هـ- في حالة ثبوت ارتكابه أي جريمة فيحال إلى المحكمة الجنائية المختصة.
ولا ننسى أبداً ونحن نتحدث عن المحاسبة بأن تكون وفقاً للقانون وبصورة علنية ومنصفة يتوفر فيها احترام حقوق الجاني بوصفه إنساناً ومتهماً.
تعويض المتضررين
إذا كان ما يجب تقديمه للمتضررين الذين عانوا من اضطهاد النظام المباد يتمثل في اتجاهين، الأول محاسبة المجرمين. والثاني التعويض عن الضرر المادي والأدبي الذي لحق بهم، فأي من الاتجاهين لم يتحقق، وإذا كان صدور قانون تشكيل المحكمة الجنائية المختصة في (10/12/2003) لمحاسبة أشخاص النظام المباد وكذلك التصريح بين وقت آخر عن بدء موعد المحاكمة فإن الاتجاه الثاني لم يتحقق أي شيء منه، على الرغم من بشاعة الجرائم، وضحاياها العديدين وهم في الغالب في حالة معيشية صعبة، فهناك من فقد أبناءه ومن فقدت معيلها، والأيتام الذين أعدم صدام آباءهم. ونحن لا نختلف على إن دماء الشهداء هي التي عزلت صدام وأدت إلى سقوطه وإذا كانت صحيحة المبررات التي طرحت في بعض المؤتمرات مثل عجز الميزانية وغيرها فهناك حلول بحد أدنى يمكن تلبيتها وفاءً لدماء الشهداء وإكراماً لذويهم الذين عانوا من العوز والظلم والحرمان ويمكن تناول هذه الحلول (وهي تمثل الحد الأدنى) التي هي بمثابة حلول آنية كالآتي:
1- تفعيل عمل هيئة حل المنازعات العقارية وإرجاع العقارات المصادرة إلى اصحابها.
2- إعادة جميع الأموال المصادرة إلى أصحابها، حين تمت مصادرتها رجعت إلى خزينة الدولة، وإذا كانت المبالغ ضخمة فيمكن تقسيطها.
3- حث دائرة الرعاية الاجتماعية على إنجاز معاملات مستحقي الرواتب من الأرامل والأيتام من ذوي الشهداء وحسب قانون الرعاية الاجتماعية النافذ من دون عراقيل وتعال. واقترح تشكيل لجنة لهذا الغرض لما رأيته من اضطهاد جديد تمثل بسوء المعاملة وعدم تجاوز الروتين ووضع العراقيل.
4- صرف راتب تقاعدي لكل شهيد ترك ورثة يستحقون الراتب التقاعدي بموجب القانون، ولا يستطيعون الحصول عليه بموجب قانون الرعاية الاجتماعية.
5- تهيئة فرص عمل مناسبة للسجناء الذين أمضوا سنوات طوال من أعمارهم في سجون الطاغية، كذلك لذوي الشهداء الذين حرموا من الوظائف العامة.
6- السجناء غير القادرين على العمل بسبب ظروف السجن يشملون بقانون الرعاية الاجتماعية الخاص (بالعجزة).
7- توحيد المساعدات التي تأتي لعوائل الشهداء والأيتام في صندوق مركزي يتم التوزيع منه ضمن إجراءات صحيحة وعادلة وعلى خلاف ما حدث من ابتزاز وتزوير وسرقة للأسف.
8- تكريم معنوي بإقامة حفلات التأبين لشهداء العراق الأحرار سواء كان ذلك على شكل رسمي كأن يقر يوم لذلك أو تشجيع الجمعيات والمنظمات والمجالس الإدارية والمدارس وغيرها على إقامة مجالس التأبين وإقامة نصب تذكاري للشهداء في كل منطقة تعرضت للاضطهاد وإنشاء متحف وطني لضحايا النظام المباد ووضع سجل فيه اسماء جميع شهداء العراق الأحرار لكي تعرف الأجيال القادمة مدى الجريمة التي ارتكبت بحق الإنسان العراقي وتجنب تكرارها مستقبلاً.
وهذه التعويضات مبنية على أسس قانونية سليمة هي المسؤولية التقصيرية، لا ضرر ولا ضرار، وما بني على باطل فهو باطل.