نوفمبر 22, 2024

كلاهما (التخلف والوهم) في علاقة ترابط متينة يتعايشان معاً واحدهما ينتج الثاني فالتخلف على كافة مستوياته: الاقتصادية والسياسية والثقافية، ينتج الوهم بمستويات العلاقات الاجتماعية وبمستويات طرح الاسئلة الكبيرة المتعلقة بتطور تلك المجتمعات ومتطلبات حياتها المعاصرة كذلك بمستوى طرح الحلول والاجابة عليها. وبالمثل يقوم الوهم كواحد من العوامل المهمة التي تنتج التخلف وتعيد انتاجه، لذا تظل المجتمعات العالقة بين هذه الثنائية (ثنائية التخلف والوهم) في حالة تأزم دائميه لا تستطيع ان تسير مثلما تسير بقية الامم والشعوب في اتجاهات تاريخية الى الامام، وكل ما تستطيع ان تفعله هو ان تنكفئ على نفسها وتنحو بسيرها الى الخلف وتستقر في تلك الازمان الغابرة، البدائية، الداكنة وتعيد اجترار موروثاتها وصفحات تاريخها المندرس كل يوم على انه جديد ومعاصر. فلولا مظاهر التخلف القاسية التي تحيق بالمجتمعات الاسلامية (مظاهر: الفقر /الامية/ البطالة/ الاقتصاد الرث والتنمية المشوهة/القمع وانعدام الحريات/ الغاء دور النساء….) لما تصاعدت وتائر انتاج الاعجاز العلمي (في القرآن والسنة) بهذه السرعة المقلقة، خاصة في العقود الاربعة الاخيرة وبالتالي تصبح ثقافة الاعجاز في مجتمع الاميين والاميات ظاهرة مخيفة تسيطر على الذهنية العامة وتتحكم بها، تزرع في نفوسهم ازدراء العلم والتنكيل باهله، تزرع الاتكالية والكسل واللامبالاة بذريعة الدفاع عن بيضة الاسلام والجهاد من اجل اعلاء شأنه والكد ليل نهار في زج الدين بمجالات العلم المتقلبة، مثلما تفعل ثقافة العنف بعقل الناس ( خاصة الشبيبة) حين تزرع في نفوس اليائسين والعاطلين والمتذمرين الضغينة والحقد والبغضاء وتدفعهم الى قتل عشوائي حافل بالبشاعات، تدفعهم الى هاويات الانتحار وتفجير انفسهم في الاوساط المدنية معتمدة على نفس تلك الذرائع وعاكفة على زج الدين في السياسة. فاذا كانت ثقافة الاعجاز تصنع الوهم فثقافة العنف تصنع الموت وكلاهما يشكلان كابحاً قوياً في طريق نماء المجتمعات الاسلامية وتطورها ورقيها، وفي نفس الوقت يزدهران وينتعشان في بيئات التخلف والالتباسات الذهنية.

يكرس الكاتبون والمهتمون بشأن الاعجاز العلمي في القرآن جُلَّ اهتمامهم وآرائهم وكتاباتهم لدعم وتأكيد مسألة اساسية ومحورية مفادها: ان الكتاب التأسيسي للدين الاسلامي (اي القرآن) يضم بين صفحاته كل ما حققته الانسانية عبر تاريخها الصعب الطويل (وما ستحققه مستقبلاً ) من كشوفات وانجازات ونظريات علمية وعلى كل الصعد وفي كافة المجالات، الانسان/ الكون/ الفلك/ الفيزياء/ الكيمياء/ الهندسة/ الطب/ الذرة….الخ. ويزعم الاعجازيون ان اسلوب القرآن يختلف عن كل الاساليب فهو حينما يشير الى مسألة علمية كما يقول مصطفى محمود: “يقدمها بالإشارة والرمز والمجاز والاستعارة واللمحة الخاطفة والعبارة التي تومض كبرق خاطف” (محاولة لفهم عصري للقرآن/بيروت1970 ) وعن طريق فك هذه الاشارات والرموز والمجازات نتمكن من العثور على الاعجازات العلمية مثل نظرية دارون وكيفية خلق الانسان وتطوره من الاميبا الى الاسفنج الى الحيوانات الرخوية…، والمنهج الاستقرائي الذي جاء به “باكون” من الآية التي تقول :”وقل سيروا في الارض”. والأسفهُ من ذلك يشوه اصحاب الكفاءات الاعجازية القانون الالهي الشفاف الذي يصلح لكل مكان ولكل زمان وقد وردَّ باختصار مُتقن وببلاغة فريدة. القانون القائل: ” من يعمل مثقال ذرة خيرًا يره ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره ” فيذهبون الى استنتاج “علم الذرة” من الآية تلك والطائرات النفاثة من الآية: ” والمرسلات عرفًا *فالعاصفات عصفاً*والناشرات نشراً” (المصدر المذكور/مصطفى محمود) كذلك علم صناعة السفن والكهرباء والطاقة ويكتشف الاعجازيون كروية الارض في الآية التي تقول: “خلق السماوات والارض بالحق يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى ألا هو العزيز الغفار” [الزمر:5 ] حيث يستنتج الجهبذ الشيخ زغلول من خلال مقال طويل ما مفاده: ” لما كان القرآن الكريم يثبت ان الله يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل وهما فترتان زمنيتان تعتريان الارض فلابد للأرض من ان تكون مكورة، ولابد لها من الدوران حول محورها امام الشمس” ( انظر كتابات الهيئة العالمية للإعجاز العلمي في القرآن والسنة على موقع الشيخ زغلول) لا ندري ما علاقة كروية الارض ودوران الشمس بهذه الظاهرة الكونية التي يتحدث عنها القرآن الكريم ببيان واضح ليدلل على قدرة الباري جل وعلا في خلق السماوات والارض بالحق!!

ومن الطريف ان نستعرض اعجازأً آخر في نفس الموقع حول سورة ” الطارق” حيث دأب رب العزة ان يُقسم بالسماء والارض والظواهر الطبيعية في كثير من سور القرآن، فنجده هنا يقول: ” والسماءِ ذات الرجعِ*والارض ذات الصَدعِ* انهُ لقولٌ فصلٌ*وما هُو بالهزل*انهم يكيدون كيداً*وأكيد كيداً*فمهل الكافرين أمهلهم رويداً”. هذه الآية الكريمة ذات معنى واضح لا لبس فيه ولا غموض، يقسم الله بالسماء ذات الرجع (اي السماء ذات المطر لرجوعه الى الارض ثانية) وبالأرض ذات الصدع ( اي النبات الذي تنشق عنه) بأنه (اي سبحانه وتعالى) سوف يمهل الكافرين ولا يستعجل بالانتقام منهم ثم يأتيهم العذاب قريباً او بعد قليل. يجتزأ الشيخ زغلول مقطعاً من هذه السورة الكريمة : “والسماء ذات الرجع” ويفصله بتعسف عن سياق النص ويقوم ببناء اطروحته الاعجازية الطويلة، ناتفاً من هنا ومن هناك وصلات علمية تبهر المغفلين، سرقها من الكتب المتخصصة وقام بحشرها في سياق شرحه لمعنى هذه الآية ويستعرض صوراً مضحكة من صور رجع السماء: الرجع الاهتزازي للهواء/ الرجع المائي/الرجع الحراري الى الارض وعنها الى الفضاء بواسطة السحب/ رجع الغازات والابخرة والغبار المرتفع من سطح الارض/ الرجع الخارجي للأشعة فوق البنفسجية بواسطة طبقة الاوزون/ رجع الموجات الراديوية بواسطة النطاق المتأين / رجع الاشعة الكونية بواسطة كل من احزمة الاشعاع والنطاق المغناطيسي للأرض…ويستنتج بسذاجة مفرطة هذا الشيخ الجهبذ: “ان وصف السماء بانها (ذات رجع) في القرآن الكريم من قبل الف واربعمائة من السنين يجمع كل هذه الصور التي نعرفها اليوم وربما العديد من الصور التي لم نعرفها بعد في كلمة واحدة وهي الرجع” ساعدك الله يا امة الاسلام على هكذا “علماء” يجيدون الشعوذة والتلاعب بالألفاظ ولهم مهارات فائقة في السرقات الاعجازية وفي حشو الكلام!! سبحانه القائل: “قُل يا أهل الكتاب لاتغلوا في دينكم غير الحق” [المائدة:77 ].

ان استفهاماً واحداً نطرحه على هؤلاء الاعجازيين المتعلمنين، هذا الاستفهام لا يخطر على بالهم ولا يريدون التعرض له لان من الصعب الاجابة عليه. يقول الاستفهام: اذا صح ذلك ووجدت مثل تلك “الاشارات” العلمية في القرآن، فلِم لا يتم اكتشافها واستنباطها من قبلكم وانتم قراء القرآن واهله ومفسروه وتعرفون كل شاردة وواردة فيه قبل ان يكتشفها الغير من اتباع الديانات الاخرى واللادينيين وهم الذين لا يعرفون لغة القرآن ولم يقرأوه، اكتشفوها بعد عناء طويل بواسطة مراصدهم ومختبراتهم وتحليلاتهم وصراعاتهم النظرية؟!! ولكنه اعجاز في السرقات العلمية، سرقة جهود الغير وتبخيس الناس اشياءهم، من جهة ثانية ، ماذا قدم الاعجازيون للبشرية في كل تاريخهم الطويل غير هذه السماجات التي لا تنتهي، فاذا استثنينا النفط والكافيار (بيض السمك) والسجاد الايراني والافيون الافغاني فان الدول الاعضاء ( 56 دولة) في منظمة المؤتمر الاسلامي لا تقدم شيئاً للسوق العالمية وان من بين منتجات الدرجة الاولى المميزة الخمسة آلاف في العالم لا تنتج واحدة في بلد اسلامي، وبصدد التعليم فقد نالت جامعة واحدة فقط في بلدان العالم الاسلامي موقعاً على قائمة تتألف من 3000 جامعة مرموقة على امتداد العالم وقد جاء ترتيبها في آخر القائمة!! فأهل الاعجاز هم أنفسهم عالة على منجزات وصناعات الآخرين ابتداء من اصغر الاشياء كقدح الشاي والملعقة وفرشاة الاسنان والملابس الداخلية والخارجية الى الاشياء الكبيرة كالسيارات والطائرات والحاسوبات والجرارت ومكيفات التبريد…!!.

ان القرآن الكريم قبل كل شيء آخر هو كتاب دين، كتاب تبشير وارشاد ونصيحة وحكمة: “هذا بيانٌ للناس وهُدى وموعظةٌ للمتقين” وكل ما جاء به من نصوص متعلقة بمفهوم البناء الكوني انما جاء في معرض التدليل على القدرة الالهية لرب الدين الجديد، بمعنى ان القرآن لم يُخلق لارساخ قواعد علم اللغة او النفس او الفلسفة او الفيزياء او الكيمياء او الهندسة او الطب، بل لتذكير المخلوق بالخالق وجعل الطبيعة ( النجوم، القمر، النور، الارض، الحيوانات، النباتات، الامطار، الصواعق…) دليلاً رمزياً على ابداع الله وقدرته. ما انفك الخطاب الالهي على طول صفحات القرآن وعرضها ومن اولها الى آخرها، يورد الآيات المستلهمة من الطبيعة والحياة والظواهر الكونية تلو الآيات لتذكير الناس بعظمة الخالق ووحدانيته: [خلق السماوات والارض بالحق/الله الذي رفع السماوات بغير عمد ترونها/ وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمى/ وسخر لكم الليل والنهار/ وعلامات وبالنجوم يهتدون/ وهو الذي مدَّ الارض وجعل فيها رواسي وانهار ومن كل الثمرات/خلق الانسان من نطفة/ والانعام خلقها/ هو الذي انزل من السماء ماءً ينبت لكم به الزرع والزيتون/ وهو الذي سخر البحر/…] وبعد كل هذه الآيات والشواهد المكررة، يتساءل: “أفمن يخلقُ كمن لا يخلقُ أفلا تذكرونَ” [النحل:17 ]. إلا ان اهل الاعجاز العلمي يحرفون تلك الآيات عن معانيها وسياقاتها النصية والتاريخية ويسرحون في خيال علمي هش وبذا يفترون على كلام الله الكذب : “إن الذين يفترون على الله الكذبَ لا يفلحونَ” [النحل:116 ] ويختلف العلم مع القرآن من ناحية المنهج اختلافاً حاداً وجذرياً، من حيث ان الاول (اي العلم) ذات منهج استقرائي وتجريبي واختباري يتعرض بين فترة واخرى للأخطاء والتصويبات والتراجعات ويخضع للفحوصات والتساؤلات من اجل ان يتقدم ويتطور، بيد ان الثاني (اي القرآن) له منهج ايماني تقريري ثابت لا يقبل المناقشة والتساؤل ويعتمد على التمامية والقطعية والجزم. فعلى سبيل المثال فان المؤمن بالدين الاسلامي لا يمكنه تناول لحم الخنزير حتى لو اكدت كتب الارض العلمية كلها على صلاحية لحمه وفوائده لأنه حُرم بالنص القرآني، كذلك على المؤمن ان يصدق بقصص اوردها القرآن حتى لو خرجت عن نطاق الواقعي والتاريخي ولا يمكن اثبات صحتها او عدم صحتها مثل قصة اهل الكهف واهل مأجوج ويأجوج. انها مسائل تتعلق بالأيمان وليس بالعلم ووسائله المعرفية. ومفهوم “العلم” الذي ورد في القرآن الكريم هو واشتقاقاته نحو 880 مرة، المراد به العلم الشرعي الذي يفيد معرفة ما يجب على المكلف من أمر عباداته ومعاملاته ، والعلم بالله وصفاته ، وما يجب له من القيام بأمره ، وتنزيهه عن النقائض ، ومدار ذلك علم التفسير والحديث والفقه، وحتى “الغيب” الذي نص عليه القرآن هو علم بالمفهوم الديني. ويذكر الدكتور صبحي الصالح في كتابه المهم: “مباحث في علوم القرآن” ط6/ بيروت1969 بأن العلوم القرآنية هي: علم التفسير/ علم اسباب النزول/ علم المكي والمدني/ علم الناسخ والمنسوخ/علم غريب القرآن، وقد نشأت علوم جديدة مثل: بدائع القرآن/حجج القرآن/ اقسام القرآن. وقد توجب اختصار تلك العلوم في علم جديد موحد اسمه “علوم القرآن”. ان الضجيج الذي ينطلق من اذهان اهل الاعجاز العلمي يعطيهم – وهذا امر شديد الاهمية- الوهم بانهم يستطيعون ان يفهموا العالم وهم يفهموه فعلاً!! لذا نؤكد بان الاعجاز العلمي ليس علماً خاطئاً لأنه قبل كل شيء ليس علماً انما هو صناعة خائبة لا تنتج سوى الوهم، ولا تزدهر ولاتنتعش مثل هذه الصناعة الفتاكة الا بين المجتمعات التي تعزف عن القراءة والكتابة حيث تنتشر الامية بين اكثر من نصف السكان البالغين في البلدان الاسلامية بل قد تصل الى 70 % بين النساء وتشير الاحصائيات بان معدل قراءة الفرد في العالم الاسلامي على مستوى العالم هو ربع صفحة بينما معدل قراءة الامريكي 11 كتاب والبريطاني 7 كتاب. وتقدر الاحصائيات ان متوسط قراءة الفرد في هذا العالم، مقارنة بالقارئ العالمي لا تتجاوز النصف ساعة سنوياً واكثر الكتب رواجاً بين اوساط الناس هي كتب قراءة الفنجان والابراج والبحث عن الطالع!! لذا ليس من الغريب ان تجد برامج وكتب صناعة الوهم هي الاخرى رواجها بين ناس اتعبهم البحث عن اللقمة وسلبت اراداتهم وعقولهم سلطة الحكم وسلطة الوهم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *