نوفمبر 5, 2024

كثيرًا ما تُمارس على الصّعيد المجتمعي فنون الخداع والوهم باسم الدين، لينهل التابعون من رحيق الخدَر اللذيذ لعقول ألغت وجودها، مغيبين في نعيم الوهم الأبدي. لقد قامت المنظومةُ الفقهيةُ الأصوليةُ بصناعة وترسيخ ثقافةِ الوهم وترسيخه بكثافة في تجاويف الوجدان والخيال والعاطفة، من خلال الأدبيات المفعمة بثقافة الغيبيات والقدريات واليقينيات الماورائية المطلقة، وبالتالي بدأت عملية صناعة الوهم في العقل الجمعي وشغله بأمور مفرطة في السطحية ومغرقة في الجهل والتغييب، ليصبح الدينُ مجردَ كلمات تذكر عند دخول المرحاض وسماع أصوات الديكة والحمير، بشكل هيمن بغرابة على النسق القيمي والسلوكيات الخاصة.

وكالعادة، فهناك دومًا من الأحاديث ما يدعم ذلك ويؤكده، لتتحول سنن المرسلين من الدعوة لمكارم الأخلاق والسلام الإنساني والاجتماعي إلى أمور دنيوية سلوكية شديدة الخصوصية، فيروى مثلا عن أبي أيوب الأنصاري أنه قال: قال رسول الله: “الحنّاء والتعطّر والسّواك والنّكاح من سنن المرسلين” رواه الترمذي وحسنه والإمام أحمد.

وعن الحسن قال: قال النبي: “ما أحببت من عيش الدّنيا إلا الطّيب والنَساء”، وفي الطبقات الكبرى لابن سعد ذكر: “ما حبّب إلى رسول الله أكثر من النساء والطيب” .

ويخصّصُ بعضُ الفقهاء أبوابًا للخضاب وفوائده، تاركين أسس العقيدة والعدالة الاجتماعية، مثل ذلك الحديث الوارد في الكافي باب الخضاب: قال النبي: “نفقة درهم في الخضاب أفضل من نفقة درهم في سبيل الله، إن فيه أربع عشرة خصلة: يطرد الريح من الأذنين، ويجلو الغشاء من البصر، ويلين الخياشيم، ويطيب النكهة، ويشد اللثة، ويذهب بالغشيان، ويقلّ وسوسة الشيطان، وتفرح به الملائكة، ويستبشر به المؤمن، ويغيض به الكافر، وهو زينة، وهو طيب، وبراءة في قبره، ويستحي منه منكر ونكير”.

وتختزلُ بعض الروايات دور الوحي في التأكيد دومًا على أهمية السواك كأمر إلهي مقدّس، وكان الأولى أن يأتي به نص صريح في الكتاب لو صدقت رواية أبي إمامة: “ما جاءني جبريل قطّ إلاّ أمرني بالسّواك حتى لقد خشيت أن أحفيَ مقدِّمَ فمي” (أي تسقطَ أسناني). ويخرج عن الدين والجماعة من لم يقص شاربه، حيث روى الترمذي من حديث زيد بن أرقم قال: قال رسول الله: “من لم يأخذ من شاربه فليس منا”.

وبعد، فقد أُفردت أبواب للخضاب والاكتحال وغير ذلك من أمور شغلت العقل الجمعي للمسلمين، يدعمهم في ذلك رايات كثيرة، فكيف ينشغل وحي السماء بالسواك في كل مرة، ويبدو النبي كرجل لا يشغله غير خضاب ومكحلة!

وهكذا سارت محاولات التغييب على قدم وساق، وجاء العصر الأموي ليرسخ هذا التأطير من الناحية الاجتماعية وجاء الفقهاء حسب وعيهم الإدراكي والمعرفي، ليرسّخوا هذا التأطير من الناحية الفقهية، ثم استحكم تأطيرها من الناحية العقائدية والفلسفية.

ولم تكتف السلطة الاستبدادية بأن هيأت الظروف الموضوعية لانتشار التفكير الميثولوجي، بل إنها في بعض الأحيان كانت تقوم بالترويج لهذا التفكير، حيث كانت تدرك تلك القواسم المشتركة بينها وبين الخرافة، وهو رفض التفكير السببي والمنطقي، وبالتالي تدعم الميثولوجيا وجود واستمرار السلطة المستبدة، ولعل ذلك يفسر اضطهاد الطغاة للمفكرين على مر التاريخ وجنوحهم عن العلم وتحكيم سلطة العقل، وميلهم إلى انتشار الجهل والتخلف الذي يذهب بالعقول بعيدًا عن نقد السلطة والمطالبة بالعدالة والمساواة، وتتفنن الأيديولوجيات الدينية في ممارسة الخداع عبر صناعة الوهم في الخيال الجمعي لأفرادها وتغذيته بإنتاج المشهديات التخيلية المعاكسة للواقع والمنطق.

لقد بذلت السلطة قصارى جهدها في صناعة الوهم، من خلال توظيف المؤسسة الفقهية، ونسجت من أحلام البسطاء وأمنياتهم مشاريع التجهيل والتغييب، وجندت حماستهم وتطلعاتهم نحو إنتاج المزيد من الخيال والوهم المحال، لتغدو الأمة غارقة في حالة من الانتظار الدائم للخلاص على يد المجهول، ومفرطة في أوهام النوستالوجيا المترقبة دوما لقدوم البطل المخلص.

والميثولوجيا بوصفها نتاجا معرفيا جماعيا تعد انعكاسا للمكونات الفكرية والثقافية للمجتمع، لما تحتويه من بنية مركبة تتداخل فيها شتى المؤثرات من فكر وفن وتاريخ، مما يجعلها مرآة تنعكس فيها المكونات الحضارية لشعب من الشعوب، مما يفسر وجودها بشكل دائم لا ينقطع في جميع الحضارات الإنسانية؛ أي أنها تجسّد وضعاً معرفياً أنثروبولوجياً جعلها مرجعية ثقافية ومكوناً رئيساً من مكونات الفكر الإنساني له القدرة على الامتداد ماضيًا وحاضرًا ومستقبلًا، والأسطورة تمنح الإنسان القدرة على مواجهة ما يعجز عقله عن استيعابه، كما أنها توفر له خط دفاع أساسي يمنحه التوافق النفسي في مواجهة الطبيعة وقسوتها وتقلباتها. ونظرًا للامتداد والشمولية اللتين تأخذهما الأسطورة في الأيديولوجيات المختلفة – خاصة الدينية منها – اختلطت الحقائق مع تقادم الأزمان، لتصبح الأسطورة مرادفًا للواقع.

والإنسان بطبعه يميل صوب الأساطير، مثلما يميل إلى الصور التي يعتمد عليها عقله الباطن الذي يرفض دومًا التخلي عن الماضي الذي سرعان ما يلاحقه بكل صوره ورؤاه، حيث تتضافر عدة قيم نفسيّة وروحيّة في تأجيج الذاكرة دومًا صوب الماضي، وهو ما حدث مع الشعوب التي فتحها المسلمون، والتي كانت تمتلك زخمًا حضاريا تتناثر في ثناياه الحكايا الميثولوجية لتفسير الكون والحياة، فصبغت تراثها الميثولوجي بصبغة دينية تلقفتها الأيديولوجيا لتحقيق المزيد من التغييب للوعي الجمعي للرعية، لتظهر أساطير خرافية تحاكى الحكايا الهوميرية والإغريقية، في محاولة لتقديم وجبات جاهزة لعقول استراحت إلى الخرافة.

وتجسد أسطورة المسيح الدجال ذلك الصراع الأبدي بين الخير والشر، والذي تناولته جميع الثقافات القديمة: الفرعونية والبابلية والإغريقية، ورمز الشر هنا كائن خرافي أسطوري أعور العين، وإن اختلف الإمامان البخاري ومسلم حول موضع العين العوراء، فيقول البخاري في ذلك: عن ابن عمر أن النبي ذكر الدجال بين ظهراني الناس فقال: “إِنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِأَعْوَرَ، أَلا إِنَّ الْمَسِيحَ الدَّجَّالَ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ…”.

أما مسلم فيقول في روايته: “عن حذيفة قال: قال رسول الله: “الدَّجَّالُ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُسْرَى، جُفَالُ الشَّعَرِ – كَثِيرُهُ – مَعَهُ جَنَّةٌ وَنَارٌ فَنَارُهُ جَنَّةٌ وَجَنَّتُهُ نَارٌ”. وهكذا اختلط الأمر بين الصحيحين، هل هو أعور العين اليسرى أم اليمنى؟

ثم تذهب الروايات إلى وصف البنية الخارقة لذلك الكائن الأسطوري المرعب: فيروي أبو داود عن عبادة بن الصامت: أن رسول الله قال: “إِنِّي قَدْ حَدَّثْتُكُمْ عَنْ الدَّجَّالِ حَتَّى خَشِيتُ أَنْ لا تَعْقِلُوا، إِنَّ مَسِيحَ الدَّجَّال رَجُلٌ قَصِيرٌ أَفْحَجُ جَعْدٌ أَعْوَرُ مَطْمُوسُ الْعَيْنِ لَيْسَ بِنَاتِئَةٍ وَلا حَجْرَاءَ، فَإِنْ أُلْبِسَ عَلَيْكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ رَبَّكُمْ لَيْسَ بِأَعْوَرَ”. والدجال هنا يتصف بصفات إلهية خارقة حتى يغدو الفارق بينه وبين الله هو العين العوراء، فهو كما أخرج أحمد عن سمرة بن جندب أن رسول الله قال: “إن الدجَّال خارج، وهو أعور عين الشمال، عليها ظفرة غليظة، وإنه يُبرئ الأكمه والأبرص ويحيي الموتى”. وله حمار يركبه، عَرْض ما بين أذنيه أربعون ذراعًا!! كما أن معه جنة ونارًا، جنته ناره وناره جنته، وأن معه أنهار الماء وجبال الخبز، ويأمر السماء أن تمطر فتمطر، والأرض أن تنبت فتنبت، وتتبعه كنوز الأرض، ويقطع الأرض بسرعة عظيمة كسرعة الغيث. وروى الإمام مسلم عن حذيفة قال: “لأنَا أَعْلَمُ بِمَا مَعَ الدَّجَّالِ مِنْهُ: مَعَهُ نَهْرَانِ يَجْرِيَانِ أَحَدُهُمَا رَأْيَ الْعَيْنِ مَاءٌ أَبْيَضُ وَالآخَرُ رَأْيَ الْعَيْنِ نَارٌ تَأَجَّجُ، فَإِمَّا أَدْرَكَنَّ أَحَدٌ فَلْيَأْتِ النَّهْرَ الَّذِي يَرَاهُ نَارًا وَلْيُغَمِّضْ ثُمَّ لْيُطَأْطِئْ رَأْسَهُ فَيَشْرَبَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مَاءٌ بَارِدٌ”. ويستفيض البخاري في وصف الدجال وفقا لرواية أخرى فيقول: عن عبد الله بن عمر قال: قال رسول الله: “بَيْنَا أَنَا نَائِمٌ رَأَيْتُنِي أَطُوفُ بِالْكَعْبَةِ فَإِذَا رَجُلٌ آدَمُ سَبْطُ الشَّعَرِ بَيْنَ رَجُلَيْنِ يَنْطُفُ رَأْسُهُ مَاءً فَقُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا ابْنُ مَرْيَمَ. فَذَهَبْتُ أَلْتَفِتُ فَإِذَا رَجُلٌ أَحْمَرُ جَسِيمٌ جَعْدُ الرَّأْسِ أَعْوَرُ الْعَيْنِ الْيُمْنَى كَأَنَّ عَيْنَهُ عِنَبَةٌ طَافِيَةٌ قُلْتُ مَنْ هَذَا قَالُوا هَذَا الدَّجَّالُ، أَقْرَبُ النَّاسِ بِهِ شَبَهًا ابْنُ قَطَنٍ”!!

وليس هناك مانعا من مواصلة المشهد الدرامي المثير، حيث يلتقيه النبي مع نفر من صحابته، فيروي أحمد عن جابر بن عبد الله أنه قال‏:‏ “إن امرأة من اليهود بالمدينة ولدت غلامًا ممسوحة عينه طالعة ناتئة فأشفق رسول الله أن يكون الدجال، فوجده تحت قطيفة همهم فآذنته أمه فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء فاخرج إليه‏.‏ فخرج من القطيفة فقال رسول الله‏:‏ ‏”‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏”‏‏. ‏ثم قال‏:‏ ‏”‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏”‏‏.‏ قال‏:‏ أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء فلبس عليه فقال‏:‏ ‏”‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏”‏‏ ‏فقال هو‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏”‏آمنت بالله ورسله‏”‏‏.‏ ثم خرج وتركه‏.‏ ثم أتاه مرة أخرى فوجده في نخل له يهمهم فآذنته أمه، فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله‏:‏ ‏”‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏”‏‏.‏ فكان رسول الله يحب أن يسمع من كلامه شيئًا فيعلم أهو هو أم لا، قال‏:‏ ‏”‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏”‏‏.‏ قال هو‏:‏ أتشهد أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله: ‏”‏آمنت بالله ورسله‏”‏‏.‏ فلبس عليه فخرج وتركه‏.‏ ثم جاء في الثالثة أو الرابعة ومعه أبو بكر وعمر في نفر من المهاجرين والأنصار وأنا معه، قال‏:‏ فبادر رسول الله بين أيدينا ورجا أن يسمع من كلامه شيئًا فسبقته أمه، فقالت‏:‏ يا عبد الله هذا أبو القاسم قد جاء، فقال رسول الله‏:‏ ‏”‏ما لها قاتلها الله‏؟‏ لو تركته لبين‏”‏‏.‏ فقال‏:‏ ‏”‏يا ابن صياد ما ترى‏؟‏‏”‏‏.‏ فقال‏:‏ أرى حقًا وأرى باطلًا وأرى عرشًا على الماء، قال‏: ‏‏”‏أتشهد أني رسول الله‏؟‏‏” قال هو‏:‏ أتشهد أنت أني رسول الله‏؟‏ فقال رسول الله: ‏”‏آمنت بالله ورسله‏”‏‏.‏ فلبس عليه، فقال رسول الله: ‏”‏يا ابن صياد إني قد خبأت لك خبيئًا” فقال‏: هو الدخ‏. ‏فقال رسول الله: ‏”‏اخسأ‏”‏‏.‏ فقال عمر بن الخطاب‏:‏ ائذن لي يا رسول الله‏.‏ فقال رسول الله‏:‏ ‏”‏إن يكن هو فلست صاحبه، إنما صاحبه عيسى بن مريم، وإلا يكن هو فليس لك أن تقتل رجلًا من أهل العهد‏”‏‏. ‏قال‏:‏ فلم يزل رسول الله مستيقنًا أنه الدجال‏”!!

وهكذا ترك النبي شئون الدولة الجديدة وصراعه المرير مع أعدائه وسعيه المستمر لدعم جبهته الداخلية، ولم يصبح له هم سوى البحث عن الدجال، وللأسف فقد جعلت الأيديولوجيا من الأسطورة عقائد مترسخة عند عامة المسلمين تمهيدا لظهور المخلص الذي سيأتي لتحقيق العدل والمساواة بعد أن يقتل رمز الشر “الدجال” وعلى الرعية أن تصبر وتنتظر المخلص، والذي انتظرته البشرية طوال تاريخها، وتحدثت عنه كافة الأساطير، ولا فرق هنا بين حورس عند الفراعنة، وماردوخ عند السومريين، والمهدي المنتظر الذي سيصلح في أيام معدودات ما أفسده الدهر في قرون طوال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *