اسم الكاتب : علي ثويني
كنت قد سمعت أول مرة عن (الديمقراطية التوافقية) من صديقي الأثير الدكتور خليل عثمان الإعلامي والباحث اللبناني “المستعرق”، والذي عمل ردحا في مكاتب الأمم المتحدة في كركوك وبغداد، وكان يظن ذلك الحل سحري لكل المجتمعات التي تأن من الشقاق والتناحر.لكن الحقائق تشير إلى أن ذلك الأكسير أمسى مثل رداء ألبسه الأمريكان للعراق عنوة وإملاء، في مشروعهم”الديمقراطي “،و الذي أثبت بعد 11 عام فشله الذريع. فإن العراق منذئذ، وبسبب غياب الدولة وتواجد سلطة مهلهلة وفاسدة، ومجتمع متخلف وجيران جشعين متربصين شراً، دخل في نفق مظلم سياسيا واجتماعيا وامنيا وثقافيا واقتصاديا وعلميا وتربويا، الذي كرس وأدام وصاعد التركة الثقيلة التي خلفتها السلطة البعثية.
حري بنا قبل الولوج إلى دور القوى السياسية في إفشال تلك “الوصفة السحرية” أن أعرج على فحوى وتطبيقات “الديمقراطية التوافقية (Consensus democracy) ” والتي كنوها دلالا (التكاملية)، والتي شرع بالتبشير بفحواها منظر علم الإجتماع السياسي الهولندي المولد، الأمريكي الفكر و الإقامة والنشاط ، آرنت ليبهارت(م:1937) ، وذلك منذ العام 1974. وقد دبج ليبهارت وجهة نظره في كتاب عنوانه(الديمقراطية التوافقية في مجتمع متعدد)،وتبعها بعدة طروحات ،مثل كتابه المهم “تقاسم السلطة في جنوب إفريقيا”، الذي ألفه سنة 1985. وكذلك “نماذج الديموقراطية: أشكال الحكومات وأداؤها في 36 دولة”، وفرغ من تأليفه عام 1999. ولليبهارت باع نظري محض في الدراسات المختصة بالعلوم السياسية، والسياسات المقارنة، والانتخابات، وأنظمة التصويت، والمعاهد الديموقراطية، والإثنيات. وهو في حقيقته يعكس هموم المجتمعات الأوربية التي نخرها الفكر القومي والتعصب في الصميم، بعد غياب العامل الطائفي، حينما أنتفت أهمية الأديان للعب دور محوري في جل تلك المجتمعات. وكان حصاد التعصب القومي في أوربا قد تجسد في أربع حروب مدمرة هي حروب بسمارك والحربين العالميتين الأولى والثانية ثم الحرب الباردة، التي أكتوى بها الغرب ، فتوصل إلى حل مثالي من خلال تحريك البيادق وحرق شعوب بأكملها خارج إطاره الجغرافي ، فكنا في العراق مثاله النموذجي إبان ما دعي الحرب الباردة، بعد أن رسم لنا مجالين للإنتماء الفكري فاما قومي عنصري او شيوعي اممي طوباوي ، وجعل الطرفين يتناحران لنصف قرن، وقد دفعنا الثمن أغلى من أصحاب الخلاف الأصليين.
واليوم أقحم الشقاق الطائفي “المقدس”، من أجل فناءنا سنة وشيعة،وقوميا ،عرب واكراد وتركمان، وهو صلب سياقات المشروع الأمريكي ، الذي “أضطره” الى إقحام (الديمقراطية التوافقية)!.وأراد بعد أن “انكسر خاطره علينا” (منح المكون الصغير حق إيقاف قرارات الكتل الكبيرة وإعطاء الجميع مايشبه الفيتو)، وروج من خلال ماكنته الإعلاميه، بان هذا الحل نجح تطبيقه في مجتمعات غير متجانسة “قوميا” مثل (النمسا، بلجيكا، هولندا، سويسرا، كندا). وأشار (ليبهارت) بان الديمقراطية التوافقية تعبر عن إستراتيجية في ادارة النزاعات من خلال التعاون والوفاق بين مختلف النخب بدلاً من التنافس واتخاذ القرارات بالأكثرية، و أنها تقوم على أربعة مرتكزات أساسية:
-1 حكومة ائتلافية أو تحالف واسع يشمل حزب الأغلبية وسواه.
-2 الاعتماد على مبدأ التمثيل النسبي في الوزارات والمؤسسات والادارات والانتخابات.
-3 حق الفيتو المتبادل للاكثريات والأقليات على حد سواء من أجل منع احتكار السلطة.
4-الادارة الذاتية للشؤون الخاصة بكل جماعة.
ويفسر هذا “الحل” بأنه لايعني أن يصبح اقتساماً للغنيمة أو يكون على حساب المصلحة العامة ومصلحة الغالبية من أبناء الشعب مثلما هو حاصل بالتمام في العراق ،وإنما هو عملية تهدف إلى تفادي الصراع المدمر، وتطمين المسئ في السابق بأن يمكن شراكته في مرحلة تصحيح الأوضاع في الطريق السليم، لبناء مؤسسات الدولة التي يتم الاحتكام فيها إلى رأي الأغلبية من خلال انتخابات حرة ونزيهة ومتكافئة، لا استقواء فيها بسلطات الدولة وإمكانياتها، وهي تطابق في الخطاب الديني لدينا مبدأ” التعاون على البر والتقوى لا على الإثم والعدوان”، لكن ورغم وجود أحزاب دينية تمثل صلب السلطة اليوم، فأن الأمر يسير على عكس مايراد من ذلك تماما، ولايمكن أن يكون مجتمع العراق و النمسا سيان.
وكان (ليبهارت) قد ضرب المثل في العالم الإسلامي والشرقي من خلال ثلاث نماذج هي : لبنان وقبرص وماليزيا، حيث نجد النتائج في الأول تداعت إلى فشل ذريع ،والثاني إحتقان يحتاج شرارة لتفجيره، والثالث ينتظر قرار الأمريكان أصحاب الإستثمار النفطي والصناعي فيه . فلبنان تمزق بعد إستقلاله عام 1946،”قبل مبدأ ليبهارت”بموجب ما فرضه عليه الفرنسيون في دستور 1943، مثلما فرض الأمريكان علينا دستورنا . ففي لبنان اليوم وبعد ستة عقود من تلك(الديمقراطية)، نجد حتى مواقف السيارات والعيادات الطبية تقسم بحسب الطوائف والفئات والأحزاب..الخ.
أما ماليزيا ورغم الروح السلمية التي تتصف بها مكوناتها السكانية الثلاث(الملاوية والهندية والصينية)، لكنها مرشحة لأن تنفجر عند الضرورة، لكن الأمريكان والإنكليز يحكمون قبظتهم على فتيلها ، مثلما هو الحال في أماكن تواجدهم في الخليج.فعمان تحوي سبع ملل ونحل، ولا تطبق بها ديمقراطية توافقية، ولا حتى برلمان أو فيدرالية،لكنها وديعة. أما الإمارات فهي مقسمة بالأساس، ومازالت الضغائن مغشاة برفاه العيش. والسعودية أقاليم كبيرة جمعت في دولة كبيرة، و الكويت تتكون من تجمعات عراقية وفارسية ونجدية وبدون، يمكنها أن تتناحر في اي لحظة، وقطر لايمكن تفريق ماتحتويه لقلة ساكنيها،وكل تلك الدول مسكوت عنها ولا تطبق(ديمقراطية توافقية). وحتى إيران المترعة بالملل والنحل والأعراق أكثر من العراق،وقابلة للإنفجار ، لكنها تسير بخطى “ديمقراطية واقعية”،و لم تتقمصها نزعة”توافقية” .
لقد ألصقت سمة (الديمقراطية) بصفة (التوافقية) بعدما تولدت مثل النظريات القومية، بعد التجربة وليس قبلها،أي جاءت علاج لنتيجة وليس تأسيس لسبب. وقد تبناها البعض كرؤية ستراتيجية لحسم النزاعات الداخلية ،و تطورت في دول ذات تقاليد ديمقراطية عريقة ووعي إجتماعي متطور، وكان ذلك من أجل الحفاظ على تماسك الدولة وتمثيل جميع الفئات الاجتماعية في العملية الديمقراطية وصنع القرار السياسي. ولعل مشكلة ايجاد حالة التوازن والتكافل في القرارات السياسية قد يكون أمر في غاية الصعوبة، خصوصاً ما اذا كانت القرارات تتعلق بفئة معينة، حيث ان خطورة المواقف تتعلق بالقرارات المتخذة بشأنها كما الأكراد لدينا ،وهذا يأخذ بنظر الاعتبار محاولة دراسة وتحليل مثل هذا النوع من النظم.اذ قد تكون ادارة الحكم تجد صعوبة في مجال التفاوض خصوصاً اذا ما تعلق الأمر بالمصالح وهذا ما يشكل في أدبيات الاستراتيجية أحد المعطيات المهمة في نشوء الأزمة والذي قد يؤدي الى مشكلات وخيمة لا يمكن معالجتها في ضوء التهديدات المتبادلة(مثل المزامط الذي يحدث بين برزاني ومالكي أو بين مالكي وعلاوي أو حكيم أو الصدر)،وما يزيد الأمر تعقيداً دخول أطراف خارجية أقليمية ودولية تعمل على تأجيج الأزمة الداخلية مؤدية بذلك الى حرب أهلية تحرق البلد وما به .وهذا الأمر مرشح في العراق الأمريكي، فالحرب الطائفية قائمة ولا نجد غرابة بأن تردفها حرب “قومية” ،وهي أمنية الأطراف المتصارعة من أجل تثبيت مواقعها الهشة في السلطة ولاسيما برزاني(مثلما شجع صدام وخميني على حرب الثمان سنوات).
نلمس اليوم عدم توفر توافق أو حس حضاري لدى الطبقة السياسية في العراق، والتي عيّنها المحتل الأمريكي، وهو على دراية بما ستؤول إليه الأمور.ويبقى مصطلح الديموقراطية الذي يروج له دعاة المشروع الأمريكي في العراق مهلهل، حيث أنه لاتفسير واحد له كونه “حمال أوجه”، و ليس ثابت بل فضفاض ونسبي، ولا نموذج واحد للديموقراطية، بل يعتمد الأمر على عامل الزمن وطبيعة البلد ومستوى التطور الاقتصادي ومقدار الانشطارات الفئوية في المجتمع. فالديموقراطية عملية تفاعلية، وليست وصفة جاهزة كما أرادها الأمريكان في العراق لدولة أسقطوها عنوة واسسوا فيها سلطة كرتونية . فالديمقراطية مشروع قديم وجد عند اور-نمو بقوانينه، ثم تطور عند بابل(من خلال وجود مجالس منتخبة)،و أمسى المثل المحتذى لدى اليونان و طورته أثينا وليس خصيمتها سبارطة ، وكرسه الرومان من خلال وجود المجلسين(النواب والشيوخ) .و في الحداثة فأن فكرة الديموقراطية تقوم على المبادئ التي حدّدها جون لوك ومونتسكيو، أي الحكم بالرضى عبر الانتخابات، وحكم الأكثرية أو الأغلبية الفائز بأكبر عدد من الأصوات، والتقسيم والفصل بين السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائية. وثمة ملاحق لهذا النظام منها حقوق الإنسان والحقوق المدنية للفرد والجماعة وإحترام القانون الدولي..الخ. وقد اصطلح على ذلك مفهوم حكم الأغلبية. ونشأت هذه النظرية الكلاسيكية من تلخيص تجربة الديموقراطيات التي نشأت في انكلترا وفرنسا وأميركا،والمعتمدة على مبدأ الأكثرية، خلال تجربة القرنين الثامن والتاسع عشر، وولدت منسجمة قومياً و متجانسة دون أقليات وأكثريات دينية أو أنثية(إثنية) أو ثقافية. لكن مبدأ الأغلبية والأقلية السياسي سيتحول في المجتمعات المنقسمة عرقيا أو طائفياً، وبنسب متفاوتة، الى أغلبية وأقلية قومية أو طائفية مما يخلق استبداد الأكثرية. ومن البديهيات أن التجانس الاجتماعي والإجماع السياسي يُعدان شرطين مسبقين للديموقراطية المستقرة، أو عاملين يؤديان بقوة إليها. وبالعكس، فإن الانقسامات الاجتماعية العميقة والاختلافات السياسية داخل المجتمعات التعددية تتحمل تبعة عدم الاستقرار والانهيار في الديموقراطيات.
ولهذا حاول الممارسون السياسيون إيجاد حل لهذه المعضلة في اتجاهين: الأول استخدام مناطق الحكم الذاتي أو (الفيدرالية) لضمان حقوق الأقليات، وهو استلهام للتجربة الفيدرالية الأميركية ـ الألمانية، التي برزت بدافع الحد من غلواء سلطة المركز، وذلك بتقسيم السلطات على أساس جغرافي، بين مركز وأطراف تحكمهما الإدارة والإقتصاد والثقافة، وهو لاينطبق على فدرالية الأكراد التي هي (كونفدرالية) أو دولتين ريعيتين قائمتين متربصة الواحدة للأخرى من اجل السرقة والإبتزاز وتمرير الضرار والأعداء وتأجيج الوضع (مثل القط الذي يتمنى لأهله العمى ليأكل أكثر).
وهذه المعطيات لاتنطبق على التجربة التوافقية التي نشأت عملياً بعد الحرب العالمية الثانية، لتصحيح القصور الحاصل في النظام الديموقراطي الأكثري المألوف، البريطاني على سبيل المثال. وعليه ذلك الحل انطلق من قاعدة ديموقراطية راسخة وليس ناشئة ومهلهلة وتكتنفها روح الإغتنام التي سجيت عليها البداوة التي تنخر جسد الأمة العراقية.وهنا جدير أن نشير إلى خطأ المرحوم علي اوردي حينما ألصق صفة وعقلية البداوة بالعرب، وتناسى أن الأكراد بدو والتركمان والفرس كذلك ، ولا يغرنك التبرق بوسائل ومظاهر التحديث، بل الأمر يتعلق بسبر العقلية التي تنتج مشايخ يحكمون تحت قبة البرلمان.
لم نجد في الدنيا مثلا أن شخص إقطاعي مثل مصطفى برزاني يحمل صفة ” ديمقراطي” مزكى ومبارك “ستالينياً” وهو يحمل لقب مولى (ملا) الديني، ولم يمانع حتى أمين الحزب الشيوعي الكردستاني الحالي في حمل هذا اللقب ، والغرض من ذلك سد كل المنافذ على اي مطالب,فحينما تقرع أجراس الحقيقة و تأتي ساعة المطالبات بالديمقراطية، فأن هؤلاء يلبسون بسرعة “القناع” الديني ويحكمون بالمقدس.وهذا هو الحبل المشيمي الذي يربط رجال الدين في الوسط والجنوب(سنة وشيعة وصوفية) مع الإقطاع الكردي، حينما نشأ (إتفاق جنتلمان) بينهما، يذود أحدهما للدفاع عن مصالح الآخر، كي يبقى دورهم تضامني إتكائي وفعال دائما، وقد حدث وتكرر الأمر مرات وهو اليوم يقوم على قدم وساق.وهنا نقع على سر تهافت الحكيم والصدر على مقارعة المالكي ومناصبته العداء، كونه يريد أن يخرجهم من لعبة (الدين-السلطة) المتضامنة مع الإقطاع ورؤساء العشائر ومنهم البرزانيين، وهم يقفون اليوم معهم ضد المالكي، مثلما أحرج طلباني بالأمس مصطفى برزاني،وكذلك أوجلان أحرج مسعود اليوم، كونه يخرجهم من سياقات (الدين-المال- السياسة) التي عفى عليها الزمن .
مشكلتنا مع الديمقراطية التوافقية التي وضعها الأمريكان حلا هشا لعراق يحتاج إلى تشخيص وعلاج ذاتوي كفوء، هي انها لم تأخذ بالحسبان ان قطبي رجل الدين (الملا) والإقطاعي (شيخ العشيرة)، أن ليس لديهما مصلحة بإقامة دولة مؤسساتيه،كونه ببساطة سوف يجعل المواطن متوجه لها وتركه يندب حظه ، ويسحب البساط من تحت أقدامه، فلا جاه خيلائي ولا مال قاروني. وهكذا سلم الأمريكان السلطة في العراق(رغم ما يبرقعوه من طقوس القسطاس الإنتخابي)إلى تلك الطبقتين غير المؤمنتين أصلاً بإرساء اسس دولة ، وهذا خلاف كل الأنظمة التي طبقت الديمقراطية، و كان لها مصلحة بها. والأمريكان يعرفون جيدا أن هؤلاء إنتهازية ولاعقون وأكلي سحت(حبربش)، يتشدقون بالمقدس الديني والمنزه العرقي،دون ضرورة لتطبيقه على الأرض.
وبالنتيجة توافقت وتطابقت أهداف الأمريكان مع أهداف تلك الطبقتين، فهما أصحاب مصلحة بأن لاتؤسس دولة ولاتقوم للبلد قائمة ، ويترك الحال سائب والمال المسروق مباح، وفضائح تطال الجميع بالسرقات والإغتنام ، لكي يصبح مبرر للأمريكان سرقة النفط(دون عداد)، ناهيك عن أن الأموال المسروقة لابد أنها تمر بفلتر(سيتي بنك) في نيويورك على مبدأ(درب الكلب على القصاب)، الذي يبتزهم ويشترط ويملي شروطه عليهم ،ويأخذ حصته من غسيل أموالهم. وقد قرأنا أن هيئة النزاهة، كشفت قبل أيام ، أن الأموال المهربة والمتواجدة في الدول المراد استرجاعها بلغت ترليوناً و14 مليون دولار، فيما أشارت إلى وجود بعض المعوقات في موضوع تسلم المتهمين واسترداد الأموال لاختلاف النظم الداخلية. ولا أفهم كيف يرشح علاوي او جعفري او مالكي انفسهم مرة أخرى اليوم ، ووزرائهم السابقين هم من سرق المال وهرب. فأين الضمير ومن المحاسب وراء سرقات وزير الكهرباء الأسبق أيهم السامرائي ووزير التجارة السابق عبد الفلاح السوداني ووزير الدفاع الأسبق حازم الشعلان وزير الاتصالات السابق محمد توفيق، والقائمة ستطول بعد تغيير كل وزارة وكشف المستور عنها.
إن خطأ الأمريكان هو اليوم خطيئة ،ولانعرف من سيحاسبهم عليها بالنتيجة، فإقحامهم العراق في تلك الدوامة أمر لا أخلاقي، واجزم أنهم يعون أن فهم وتحليل الديموقراطية التوافقية كانت تحتاج إلى إدراك الآليات المتداخلة والمتشابكة والأنظمة الإجتماعية لذلك التوافق الهش. فمثلما أصر الشيوعيون بالأمس على المراهنة على (الصراع الطبقي) ضمن قراءتهم للماركسية فأن الأمريكان مثلهم في قراءتهم للذات العراقية، حينما تناسوا أن لدينا صراعات أخرى هي مناطقية وفئوية وعشائرية وطائفية وعرقية ويحمل جلنا (عقلية الكيتو) التي تحلل الإستحواذ لكل فئة . وليس لدينا توافق حزبي وتقاسيم بين يمين ويسار ووسط، بغض النظر عن التجمعات المشتته، وهذا لم نلمسه في مجتمع آخر، فشيوعيوا الشمال الكردي قوميون بينما البقية تائهون ومتذبذبون بين اليسار واللبرالية. أما فصل السلطات والتنمية السياسية، فمتداخلة بحيث لايعرف من هو صاحب القرار هل الأمريكي او المشرع او مالكي أو برزاني،ولايوجد الحد الأدنى من فلسفة الحكم والقانون المتفق عليها ،والتي تشل صلب شطط التوجهات .
وهنا لابد أن نفسر الاستقرار السياسي في الديموقراطيات التوافقية في الغرب المتحضر اعتماداً على علاقتها بعامل إضافي هو تعاون زعماء الجماعات المختلفة الذي يتخطى الانقسامات القطاعية أو الثقافية الفرعية على مستوى العموم، بدلاً من حشر علاقتها بمتغير تفسيري آخر هو الثقافة السياسية.وهنا أتذكر أن لدينا صديقة يزيدية أتصلت بي من ألمانيا يوما “تنخاني” لأقف معها ضد “الإنتهاك” الذي حصل على طائفتها، بعد سقوط حكومة علاوي، بعدما عين إبانها وزيرا يزيديا للعدل لمدة ستة أشهر ، وأخبرتني بأنهم ضنوها ملكهم حلالهم ، ولايمكن التنازل عنها، وتشحذ مني “التضامن” مع “محنتهم” في إرجاع هذا المنصب لطائفتهم. ومن الطريف ان هذا الأمر قد حدث ويحدث حينما يأتي وزير، فأنه يجلب جماعته ورفاقه وأقاربه لتمتلئ بها الكواليس، ثم ياتي غيره ليطردهم وياتي بـ(ربعه) مع إبليسية لذر الرماد بالعيون من خلال تعيين كم شخص خامل وغير ذي شأن من “حمولة أو طائفة” اخرى، كي يقول : شوفوا لم اعين من جماعتي.
وهكذا فإن الديمقراطية التوافقية تحتاج أولا وقبل كل شئ إلى حياء وأخلاق وقطرة خجل على الجبين، وهي غير متوفرة للاسف عند طبقتنا السياسية وكثير من مجتمعنا العراقي، وذلك بعد السقوط الاخلاقي المبرم ، الذي تركته سلطة البعث ، إستنادا إلى ماقاله تولستوي في الحرب والسلام: “بإن ما تبنيه الاخلاق خلال مئة عام تهدمها الحرب بعام واحد”، فما بالكم بالحروب (القومية) العبثية، ثم بـ(كونات) صدام المتراكبة والمتواترة ضد الخميني وأمراء الكويت. فأي رصيد من الأخلاق يمكن أن يبقى بعد الذي حصل، وما يحصل اليوم من حمى”الشطارة” في شجون الحياة العراقية.
لابد من الإقرار بأن القوميين الأكراد بقيادتهم الإقطاعية، هم الأكثر إستفادة من تلك الفوضى الضاربة أطنابها، ووهن سلطة المركز ،فهي تحاكي غياب قوات الحدود لدى (المهربين-القجقجيه)، الأمر الذي جعل برزاني يزبد ويرعد ويهدد كل مرة، وقد سمعناه قبل سنوات يهدد بإحتلال دياربكر(مثل عنتريات صدام)، و اليوم يهدد بالإنفصال،وهو سياق بعيد عن التوافقية التي أرادها الأمريكان. ونجزم هنا أن إنفصاله سوف يجعل من محميته مثل حال (لوسوتو) ذات الحدود المدورة داخل أراضي جنوب افريقيا، والتي أن تغيب العمال منها يوم واحد ولم يدخلوا للعمل في مناجم جنوب أفريقيا ، فإن إقتصادها ينهار، فهي بالتمام دولة مشايخ و(أغوات) أفريقية!. وهذا ما شهدناه حينما قطعت رواتب موظفي (لوسوتو الكردستانية)، فهب الجميع يشكوا الفاقة و(قطع الأرزاق)، فكيف لهم لو أعلنوها دولة.
ورغم كل ما يحصل فأن ثمة من يشير إلى ان عناصر مخلصة في السلطة العراقية، ، تريد ان تفتك الإقتصاد العراقي من براثن الهيمنة الإسرائيلية المتواجدة والراصدة والمتحفزة في أربيل ، وهذا هو سرالخلاف اليوم بين سلطة بغداد والأكراد،والذي ظاهره تهريب نفط ورواتب ، لكن باطنه محاولة لتحرير الإقتصاد العراقي المرهون لمشيئة إسرائيلية مسيرة بعناية. فقد إشتكى الدكتور موفق الربيعي ذات مرة حينما زرناه في بيته، بان القيادة العراقية تعلم اليقين بان شمال العراق موقع إسرائيلي متقدم، وأن الإقتصاد العراقي مبتز من تلك الخاصرة الهشة في الوحدة العراقية، وأن برزاني وطالباني ماهم إلا (كومبارس) يلعبون بمشيئة وإملاء.
ورغم المآسي والخسائر الفادحة التي يمر بها العراق في هذه المرحلة المفصلية من تأريخه، فحري بالإقرار بان فائدتها تكمن في كشفت المستور والمسكوت عنه، ونزع الأقنعة ودحض الإفتراءات التي سيقت على ذقون سذج الناس ، بليس اقل من قرن، تخلل تاسيس الدولة العراقية التي فشل بها مشروعان نهضويان كبيران هما مشروع فيصل الأول ومشروع عبدالكريم قاسم، الذي أجهز عليهما بسرعة،ولم يريا النور، اما خلافهما ، فهي محض هزال وذيلية وعبثية خارج سياقات المصلحة العراقية.
لقد رفع القوميون الأكراد السلاح بوجه سلطة الملوك ثم جمهورية الزعيم عبدالكريم ثم العارفيين ثم البعثيين، بالرغم من “التوافق القومي” الذي طبع كل تلك الحقبة بإستثناء أربعة أعوام يتيمة من توجه وطني عراقي إبان حقبة الزعيم عبدالكريم،لكننا نجدهم اليوم صاغرين مسالمين تحت الإحتلال الأمريكي رغم أن حزبيهم الكبيرين مصنفين في قائمة(الإرهاب) العالمي، بحسب المعيارية الأمريكية. كل ذلك يدلل دون عميق تفلسف، أنهم يلعبون خارج الزمان والمكان العراقي،أو أنهم مسخرون من أعداء العراق ومبتزيه لهذا الدور ، وإن وجودهم في الوطن العراقي كان عبثي على طول الخط، ولابد من تغيير آليات التعامل معهم بشكل أما القبول بالمواطنة العراقية الشاملة والجامعة وإلا إتخاذ القرار بفصلهم بجبالهم وعزلهم وترك منافذهم عن طريق تركيا وإيران فقط، وبذلك سيجد العراق نفسه قد تحرر من التبعية الإقتصادية لأسرائيل، وتخلص من سرقة المال العام والنفط، وأحتقن الدم العراقي المراق منذ قرن ، بمهاترات لاطائل من ورائها.وإذا كان إذكاء الذاكرة بالانفال وحلبجة قائم في إعلامهم، فلنذكرهم أن نصف شط العرب ذهب سداً نتيجة لمؤامرة برزاني الأب مع شاه إيران وإرغام العراق على توقيع معاهدة الجزائر، ولنحاسبهم على كل الضحايا من الجنود العراقيين الذي غدر بهم خلال سنين طوال ومهم في مهام وظيفية، وحينئذ سنجد أنهم مدانون ولابد أن يدفعوا دية ضياع مشروع دولة أسمها العراق.
نعلم اليوم من سلطات مطار بغداد أن ثمة حوالي عشرة آلاف عراقي يهاجرون إلى أمريكا سنويا وتحت جنح الظلام، والتهافت عليه قائم ، وذلك للخلاص من وضع متأزم ومستمر .كل ذلك يؤكد بإن سياقات المشروع الأمريكي المتلكأة اليوم تشير إلى كونه حصاد أو نتيجة “مابعد” المشروع القومي في العراق الذي نخر المجتمع العراقي وشتت وأضاع قواه.وهذا يعني ان المحتل الأمريكي كان مثل المنشار، نصب البعثيين والقوميين 1963، فحصد “نشارة” النتائج بقتل شرفاء العراقيين وتوقيف تام للمشروع الذاتوي الشعبي الأربعيني الصاعد. ثم عاد ثانية وأزال البعثيين عام 2003، فحصد النتائج من جديد، فكان العراقيون وأهله نشارة منثوره في عاصف الزمان المتناقض بين بلد ينز عسلا وحليبا وشعب يأن الفاقه ونخب فاعله مشردة في الأفاق… ولله المشتكى.