ديسمبر 3, 2024

اسم الكاتب : عامر صالح

أن حق تقرير مصير الشعوب بصورة عامة هو حق لا جدال فيه انطلاقا من المواثيق الدولية والفلسفات الانسانية الداعية الى احترام حق الشعوب في تقرير مصيرها وحتى إقامة كياناتها المستقلة استنادا الى خصوصيتها العرقية والاثنية وحتى الدينية, وخاصة عندما تتعرض الى الانتهاك او الابادة الجماعية او الاحتلال, وعدم السماح بانفراد مكون وتسلطه على مكون آخر, وعلى خلفية ذلك قدمت الكثير من الاحزاب التقدمية والوطنية العراقية الكثير من التضحيات الجسام, سواء في الارواح أو تحمل شتى صنوف القهر والتعذيب والمضايقات والهجرة والتهجير وفقدان المستقبل, راح ضحية هذا النضال خيرة من سياسي ومثقفي وعامة من المناضلين والذين آمنوا حقا على سبيل المثال بحق الشعب الكردي بتقرير مصيره وادارة نفسه بنفسه, كان هذا في ظل عراق قبل 2003 والذي ساد فيه القمع والارهاب السياسي والتمترس الشوفيني وعدم الانصياع لحكمة العقل في أن العراق ليست مكون واحد ولا يمثله حزب واحد ولا دين أو مذهب واحد.

بعد سقوط النظام كفل الدستور العراقي لعام 2005حق تشكيل الأقاليم ليست فقط لأقليم كردستان القائم اصلا منذ عام 1991 بعد انسحاب النظام السابق من مناطقه رغم عدم الأعتراف الرسمي به طبعا, فالحق في تشكيل الأقاليم اعتمادًا على المادة (119): يحق لكل محافظة، أو أكثر تكوين إقليم بناء على طلب بالاستفتاء عليه، يقدم بإحدى طريقتين:
أولًا: طلب من ثلث الأعضاء في كل مجلس من مجالس المحافظات التي تروم تكوين الإقليم.
ثانيًا: طلب من عُشر الناخبين في كل محافظة من المحافظات التي تروم تكوين الإقليم
بعد تشكيل الأقاليم في العراق من حق كل إقليم أن يضع له دستورًا خاصًا به حسب المادة (120)”يقوم الإقليم بوضع دستور له يحدد هيكل سلطات الإقليم، وصلاحياته، وآليات ممارسة تلك الصلاحيات على أن لا يتعارض مع هذا الدستور”.

من حق الأقاليم ممارسة سلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، حسب المادة (121) أولًا: “لسلطات الأقاليم الحق في ممارسة السلطات التشريعية، والتنفيذية، والقضائية وفقًا لأحكام هذا الدستور باستثناء ما ورد فيه من اختصاصات حصرية للسلطات الاتحادية”.

من حق سلطة الأقاليم أيضًا تعديل تطبيق القوانين الاتحادية وفقًا للمادة (121) ثانيًا: “يحق لسلطة الإقليم تعديل تطبيق القانون الاتحادي في الإقليم، في حالة وجود تناقض، أو تعارض بين القانون الاتحادي، وقانون الإقليم بخصوص مسألةٍ لا تدخل في الاختصاصات الحصرية للسلطات الاتحادية”. طبعا الى جانب قضايا تفصيلية اخرى بخصوص توزيع الموارد وتشكيل قوى الأمن الداخلي وحرس الأقليم وأمور اخرى تفصيلية تمنح السيادة شبه الكاملة للأقاليم.

فالمشكلة ليست بالناس التي تطالب بتشكيل الأقاليم على نسق اقليم كردستان, بل انها تطالب ضمنا بحق دستوري تمت الأشارة أليه بوضوح, بأختلاف نوايا من يطالب الآن ولماذا لم يطالب أمس, فالعلة بالدستور, والأمر اكبر من كونه المطالبة بتطبيق مادة دستورية أو كما يقال المثل ” كلمة حق اريد بها باطل “. ويمكن القول أن الدستور العراقي بوضوح هو الذي أسس للأقلمة وهي خطوات عند الضرورة والأختلاف الشديد الغير قابل للحل بين الأقليم والحكومة الأتحادية يمكن ان يؤدي الى الأنفصال, وتتصاعد الدعوات مجددا لتشكيل اقاليم اخرى في العراق فلا غرابة في ذلك فالدستور أباح تقسيم العراق أصلا على المدى البعيد, وبأمكان الدعوى لتشكيل اقاليم ان تلعب دور القنبلة الموقوتة التي تنفجر في أي لحظة على خلفية ازمات النظام السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستعصية واشتداد النزعة الطائفية وخطاب الكراهية وفرض الأرادات.

حق المجتمعات المحلية في العراق في البحث عن ما يطمئنها من حلول سواء بأستقلاليتها النسبية هو حق مشروع لأهلها في الأرتقاء بمستويات العيش واستثمار مواردها بما يؤمن لها بمستقبل افضل شريطة ان يتم ذلك في ظل ظروف استقرار واضح للدولة والبلد الحاضن لها. في العراق اليوم يشهد موجة مطالبات لتحول المحافظات الى اقاليم والأقضية الى محافظات والنواحي الى أقضية في ظل نظام محصصاتي اثني يكتنفه المزيد من عدم الوضوح في مفهوم دولة المواطنة وتمزقه الصراعات الأثنوطائفية والعشائريه ويغرق في بحر الفساد الأداري والمالي والأخلاقي تبدو هذه المطالبات هي آلية دفاعية واستجابة انفعاليه للتشرذم والترهل الأداري والغوص عميقا في مستنقع الفساد. فالأزمة هنا هي ازمة نظام عجز عن الحفاظ على وحدة العراق عبر عجزه لأيجاد حلول لمعاناة الناس اليومية. نعم مع حق المجتعات المحلية وحق شعوبها في الأستقلال الأداري والمالي في ظل عراق معاف من ازماته الخانقة.

الأشكالية ليست في الخوف من دعوات تشكيل أقاليم جديدة في ظروف سياسية صحية, بل الخوف من نظام المحاصصة الطائفي والأثني الذي يستهدف الوطن ومكوناته على المدى القريب والبعيد وكما نلاحظ ذلك من انعدام الأمن والأمان وسيطرة السلاح المنفلت, وكل هذا يجرى على خلفية فشل الأداء الحكومي خلال عقدين من الزمن، في حقبة استشرى فيها الفساد الاداري والمالي الذي اتخذ من الفساد السياسي غطاء يحتمي به، وقد انعدمت خدمات الحد الادنى من مقومات العيش الكريم، من صحة وتعليم وكهرباء وماء، وانتشار للبطالة في اوساط الخريجين وغيرهم، وتعاظم نسب الفقر وما تحت خط الفقر والذي بلغت نسبته ما يقارب 30%، منزامنا مع كوارث بيئية وطبيعية، ابرزها شحة المياه ومخاطر الجفاف الشامل، وكذلك التلوث البيئي وتلوث مياه الأنهر وعدم صلاحيتها للأستخدام اليومي او لعيش الكائنات الحية، وكان هذا في مجمله يعكس ضعف الادارة السياسية لأدارة هذه الملفات الخطيرة جسدتها حالة الاحتراب والارتهان لأجندة اثنوظائفية سياسية داخلية واجندة اقليمية عرقلت وضع العراق على طريق السكة الصحيحة.

المشكلة تكمن في أزمة الديمقراطية في العراق, فبعد سقوط النظام السابق على يد المحتل الامريكي للعراق قام الاحتلال عبر طريقة الحكم بتكريس حالة الانكفاء المذهبي والديني والاثني من خلال نظام المحاصصة الطائفي والاثني مستخدما الولاءات للجماعات الفرعية, باعتبارها ردود افعال لسياسات النظام السابق, وتحويلها الى نهج شامل بنيت عليه سياسة الدولة والمجتمع, مما اضعف من الديناميات الايجابية لعملية الصراع السياسي والاجتماعي في فرز القوى الحقيقية ذات المصلحة في التغير, وادخل المجتمع العراقي في طاحونة وتنازع كامل بين مكوناته وهوياته الفرعية وعزز من خطاب الكراهية بفعل غياب الخطاب الوطني الجامع والعابر للمكونات, وهذا بحد ذاته يرفع من سقف استخدام الدستور كشماعة للأقلمة او للأنفصال لاحقا.

ومما زاد الأمر تعقيدا ان معظم القوى السياسية التي أتت واستلمت الحكم بعد السقوط لم تحمل في غالبيتها مشروعا وطنيا عابرا للهويات الفرعية وخاصة الطائفية منها والاثنية, ان لم نقل انها لا تؤمن بالديمقراطية ولا بالتداول السلمي للسلطة عبرالانتخابات الحرة والنزيهة, وما صناديق الاقتراع بالنسبة لها الا وسيلة فرضها الاحتلال فرضا, وخاصة القوى الاسلاموية التي رأت في ذلك فرصتها الوحيدة والسانحة لاستغلال ظروف اليأس والاضطهاد السابق واضفاء الصبغة الدينية والمذهبية على الصراع الاجتماعي ولعرقلة الحراك الطبقي في المجتمع العراقي. وحتى القوى والاحزاب الكردية, وخاصة الرئيسية منها فلم يكن هاجسها الرئيسي بناء الديمقراطية ونظام التعددية الحزبية ودولة المواطنة, بقدر ما تعلق الامر في انتزاع الحقوق القومية الخالصة بطريقتها الخاصة, بعيدا عن الصراع الاجتماعي السياسي العام الذي يؤطر المجتمع العراقي كله.

ان الديمقراطية عقد اجتماعي بين المواطنين تقوم على الحرية والعدالة والمساواة في اطار الدولة الحديثة التي تقوم على الدستور وسيادة القانون ويكون الشعب هو مصدر السلطات وشرعيتها، مثلما تقوم على منظومات المجتمع المدني التي تعمل على التحكم بقدرة المجتمع الذاتية وتوجيهها، وكذلك امكانية افراد المجتمع وقدرتهم على ممارستها وفق قواعدها ومعاييرها وشروطها. فالديمقراطية تتطلب قبل كل شيء قناعات مسبقة بحق المواطنة وثقة متبادلة بين المواطنين واعتراف بآليات تطبيقها ومشاركة جميع الاثنيات والطوائف والاقليات الاخرى فيها, فلا يمكن في النظم الديمقراطية المتعافية أن يقوم الخاسر في الأنتخابات بالتحايل على نتائج الأنتخابات والخروج منها بمظهر الفائز واقصاء الكتلة الفائزة كي ينفرد بتشكيل الحكومة عبر تحالفات مصلحية مريضة تشكل مصدرا لعدم الأستقرار وزعزعة للأمن المجتمعي.

وعلى مدار عقدين من الزمن فأن نظام المحاصصة عرقل جهود أي تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة تقوم على منجزات العلوم الاقتصادية والاجتماعية ومنجزات التقدم التقني والتكنولوجي، وذلك من خلال إسناد المواقع الحساسة والمفصلية في الاقتصاد والدولة إلى رموز تنتمي طائفيا أو عرقيا ولا تنتمي إلى الكفاءات الوطنية أو التكنوقراط ولا تستند إلى انتقاء المواهب والقابليات الخاصة لإدارة الاقتصاد،بل حصرها بأفراد الطائفة أو إلى توافق من هذا النوع بين هذه الطائفة أو تلك ،أن هذه السياسة لا تؤسس إلى تنمية شاملة ،بل تؤسس إلى ” إفساد للتنمية “،وقد عززت هذه السياسات من استفحال الفساد بمختلف مظاهره من سرقات وهدر للمال العام ومحسوبية ومنسوبيه وحتى الفساد الأخلاقي بواجهات دينية مزيفة لا صلة لها بالدين الحنيف، والأسوأ من ذلك حصر الامتيازات في دعاة كبار رجال الطائفة أو الحزب أو العرق وترك السواد الأعظم في فقر مدقع، أن أدعاء الطائفية والعرقية لتحقيق العدالة الاجتماعية هو ادعاء باطل ،وان الفقر وعدم الاستقرار والقلق على المستقبل يلف الجميع باختلاف دينه ومذهبه وطائفته وعرقية, فلا نستغرب من سرقة اكثر من 500 مليار دولار واهدار ما مجمله 1500 مليار دولار منذ عام 2003.

ومقابل ذلك فهناك احياء لبنية اجتماعية واقتصادية متخلفة فهناك استحضار خاص لدور العشيرة والقبيلة وتدخلها في الشأن العام وفي شأن النظام السياسي وتقرير وجهة تحالفاته, الى جانب استعانة النظام نفسه بالعشيرة للبقاء وتمرير اجندة مختلفة بالضد من التقاليد الديمقراطية, فهناك تحالف خفي بين مختلف المنظومات والبنى الفكرية المتخلفة لبقاء الأوضاع كما هي, وقد اعادت هذه التحالفات انتاج بنية القمع ومحاربة الرأي الآخر وانتشار سلاح العشيرة الذي يهدد السلم المجتمعي وكذلك عموم السلاح المنفلت والذي يوظف ضد الحريات الفردية ومحاربة التنوع الفكري والثقافي.

وفي ظل هذا التدهور العام يجب ان لا يفهم من دعوات تشكيل الأقاليم هي دعوات تعبر عن حالة نضج لضرورات الأدارة اللا مركزية والطموح لتطوير واقع المحافظات المطالبة بالأقليم عبر تشبعها بصلاحيات النظام الأتحادي, بل انها حالات من النكوص والتراجع الخطير وعدم المواجهة في اصلاح عيوب النظام المحصصاتي برمته بما فيه وثيقة الدستور ذو الأشكالية الكبرى في التأسيس لذلك النظام.

لقد ساهمت القوى السياسية الرئيسية الشيعية والكردية ثم السنية في تأسيس النظام المحصصاتي القائم وصاغت اركانه الاساسية وفي مقدمتها الدستور وكرسوا كل امكانيات التعبئة الحشدية للتصويت عليه واقراره ” وخاصة القوى الشيعية والكردية “, ثم استمرت رحلة توزيع المناصب السيادية والوزارية ومختلف المناصب العليا في الدولة على أسس من المحصصات الطائفية والاثنية. وعلى هذا الاساس فأن اطراف المحاصصة الشيعية والكردية والسنية تتشبث ببقاء نهج السلطة وتقسيم غنائمها, وان كل ما يصدر من قرارات وقوانين وتشريعات عامة لا تخلو من نكهة الصفقات الطائفية السياسية والاثنية, وبالتالي فأن دعوات انشاء اقاليم جديدة لا تخرج عن ذات السياق.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *