اسم الكاتب : رياض الفرطوسي
عندما تقلك رحلة بعد منتصف الليل إلى البلاد،
تلك البلاد التي أسعدتنا عندما كنا أطفالًا،
حيث الطبيعة النقية، والحب، وأجواء اللطافة والمروءة.
انتقلنا من التاريخ المفتوح والثقافة الحرة،
ومن التحية والبراءة والضمير والصبر وحكايات آخر الليل المفعمة بالتشويق والمواقف،
إلى تاريخ آخر مغلق بالكوابيس، ومفارز الأمن، والذل، والسجون، والمشانق،
إلى أن فقدت البلاد شاعريتها، وتحولت إلى عمارات ومجمعات سكنية إسمنتية.
ولكي لا تبقى ترقص في دوامة ومتاهة الماضي والذكريات،
وتنسى الحرية، والثروة، والعدالة، والمصير،
تسلح بالحنين وجذوته المشتعلة في كلمات الصباح:
“نسم علينا الهوى من مفرق الوادي
يا هوى، دخل الهوى خذني على بلادي”.
لكن قبل أن تستنشق هواء البلاد،
جهز نفسك لأن تكون شخصًا آخر.
لست بحاجة إلى أن تتحدث بصوت هادئ،
أو أن تدفع بنفسك نحو الصمت.
فكر أن تكون غير ما أنت عليه،
ولا ترهق نفسك بالأسئلة،
لأنك ستجلس وحيدًا،
محاطًا بكل الفضوليين،
هناك من يدس أنفه،
أو يدس أذنه أو عينه،
ويتجسس على حضورك وغيابك.
ستجد نفسك في كل لحظة أمام مسرح
من المتربصين والمدعين،
والمقنعين والغادرين والأفاقين والوشاة.
مع كل لحظة تمر،
ستصبح ضحكتك أكثر ذبولًا،
حيث تخرج كل صباح
بلا وجه ثقيل،
لأنك تتركه على وسادة أحلامك الضائعة.
أربعون عامًا تبعثرت في شوارع البلاد النائية،
تسحل خلفك سنواتك الثقيلة مثل معطف قديم،
في غرفتك المحاطة بالحرس،
وهم يخطفون منك الكلمات،
ويسألونك عن قهوتك المُرَّة،
وعن لون حذائك أو ربطة عنقك،
أو عن بياض جبهتك،
أو عن أحلامك التي لا تنام.
في صحراء أحلامك الواسعة،
تنبت ألف نافذة،
كل منها تطل على عين،
بحجم الخراب والخسارات، والماضي، والأمل،
وزحمة الطرقات، ورائحة الماء الآسن،
ورعشة القلب بلا أحد ينتظرك في آخر النهار.
وأنت تعود إلى البلاد،
لا زهرة تنبت بين مشابك أصابعك الخضر،
ولا صداقة تولد،
ولا وردة تغني في جداول الصباح!
وأنت تعود إلى البلاد،
تذكر أنك بحاجة لأن تتعلم أشياء كثيرة:
البكاء، الصبر، الانتظار، الوجع.
سيتكرر هذا الأمر كثيرًا،
وسيلتفت أحدهم قائلاً:
إنها المصادفات أو الأقدار، فلِمَ التشاؤم؟
مع اختلاف النظر،
ماذا عليك أن تفعل
لكي لا تقع في فخ المتسولين على الطرقات،
أو أن تصطدم بوجوه معفرة بالتراب والخيبات
من عمال محبطين في زوايا مسطر ساحة الطيران وسواها،
أو باعة البسطات الذين يفترشون الأمل على أرصفة التيه؟
من ينقذنا من كل هذا؟
من ينقذنا من أنفسنا،
في واقع يعيش على مفاهيم غابرة ومستهلكة؟
كل ما تبقى حفنة من قيم تقاوم في محيط الابتذال والتفاهة،
كما لو أننا نعيش الزمن نفسه،
ونستنسخ تجاربنا.
يقينًا سيتغير كل ذلك،
حينما نتغير نحن.
كل محاولاتنا قائمة من أجل أن نغير صورة الوطن،
الذي نحبه.
عملنا وحلمنا أن نعيش فيه ليكون حضنًا آمنًا، وعادلاً،
وصديقًا كريمًا ووفياً.