ديسمبر 3, 2024
دلهي

الكاتب : ميهر بوز* – (إندبندنت عربية)

للحياة في بريطانيا ميزاتها. ولكن عندما نسمع كلاماً موجهاً للهنود من أمثالي يطالبنا بإظهار الامتنان على استعمارنا يصبح الأمر أشبه بالإذلال. لا شك في أن عملية إعادة تجديد بريطانيا وتحويلها إلى مجتمع متعدد الأعراق حقاً لن تكتمل من دون اعتراف الإنجليز بالخطايا السابقة التي ارتكبوها في الحقبة الاستعمارية.

“أولئك الذين ينسون الماضي”، كما حذر جورج سانتايانا، “محكوم عليهم بتكراره”. ولا ينبغي أن تحتاج بريطانيا إلى دروس في كيفية التصالح مع تاريخها، وما على المرء سوى المرور أمام مبنى البرلمان ليدرك ذلك. هناك يقف تمثال أوليفر كرومويل، الرجل الذي قطع رأس الملك وأسس الجمهورية. وفي كل عام، تجتمع “جمعية كرومويل” عند التمثال للاحتفال بعيد ميلاده، مع أن جثمانه ليس موجوداً هناك.

بعد عودة الملكية، استخرجت جثة كرومويل من قبره في دير وستمنستر، وعلق رأسه فوق قاعة وستمنستر. وبعد أن شنق على قوس ماربل آرش، ألقيت جثته في حفرة في مكان ما تحت هايد بارك كورنر. وترقد عظامه تحت الطريق هناك إلى يومنا هذا. ولكن الآن، كلما ألقى الملك خطاباً أمام البرلمان، يمر بجانب هذا التمثال خالي البال، مما يدل على أن بلداً لا يتطلع إلى عودة الجمهورية ما يزال بإمكانه تكريم مؤسس الجمهورية.

في تناقض صارخ، تعاني البلاد للتصالح مع تاريخها الإمبراطوري. وما يزيد من فداحة هذا الفشل هو أنه خلال ما يقرب من 60 عاماً عشتها في بريطانيا، رأيتها تعيد كل هذا الوقت تشكيل نفسها لتصبح بلداً أكثر ترحيباً.

لم أكن لأتخيل ذلك عندما وصلت من الهند في كانون الثاني (يناير) 1969، بعد تسعة أشهر من خطاب السياسي البريطاني المثير للجدل، إينوك باول “أنهار الدم” الذي دعا فيه إلى تطبيق سياسة إعادة المهاجرين “الملونين” إلى أوطانهم. كان ذلك في وقت لم يكن الناس يخفون فيه عنصريتهم. وأخبرتني صاحبة منزل في هامستد أنها لا تستطيع تأجير غرفة لي لأن زوجها لا يحب وجود هندي في المنزل. وأنهت امرأة بيضاء علاقتنا، لأنني لن أتمكن من إنجاب أطفال بيض لها.

خلال الصيف الأول من عطلتي الجامعية، عملت في مصنع في ليستر، حيث قدمني رئيس العمال باسم “ميك”، مما دفع أحد زملائه إلى القول: “اللعنة، لقد أصبح لدينا الآن إيرلندي ملون، أليس كذلك”؟ وانفجر طابق المصنع بأكمله في ضحك صاخب. وفي العام 1980، أثناء سفري على خط بيكاديللي، لكمني أحد حليقي الرؤوس في وجهي وأطار نظارتي. وبينما كنت أنحني لالتقاطها، كان بقية الركاب ينظرون إلي كما لو كانوا في صالة عرض يشاهدون فيلماً سينمائياً.

ولكن، في الوقت نفسه الذي كان يجري فيه تذكيري بأن لون بشرتي جعلني غريباً غير مرحب به -وهو إدراك كان صادماً وصعباً في الوقت نفسه- كان هناك آخرون طمأنوني بأن الصورة الجميلة لإنجلترا التي كونتها أثناء نشأتي في الهند، أرض شكسبير وشيلي والكريكت على حدائق القرية، لم تكن خيالاً كاملاً. بعد ستة أسابيع من وصولي إلى لوبورو للدراسة، انتخبت رئيساً لاتحاد الطلاب في الجامعة التي كانت تضم آنذاك طلاباً بيضاً بالكامل تقريباً. وأخبرتني إحدى الطالبات أنها انتخبتني لأن وجهي كان جديراً بالثقة ولن أهرب بأموال الاتحاد.

لم أكن أتخيل حينها أن الطعام الهندي سيصبح يوماً ما هو الطبق الوطني. أتذكر أن صاحبات العقارات (المؤجرات) كن يسعين إلى أن أطمئنهن إلى أنهن إذا أجرن غرفاً لي، فلن أطبخ الوجبات الهندية، لأنهن لا يستطعن تحمل الرائحة. كما أنني لم أكن أتوقع أنه بعد خمس سنوات من رفض طلبي للالتحاق بدورة الصحافة في جامعة كارديف، سأحقق حلمي بأن أصبح صحفياً. ستفتح لي أبواب الإعلام في المملكة المتحدة بطرق لم تكن لتفتح لي في أرض مولدي. نعم، كان هناك تمييز، فمعظم المحررين الرياضيين في شارع فليت (مركز الصحافة والنشر في لندن) الذين كانوا على استعداد لتصديق أن خلفيتي الهندية تعني أنني أعرف الكريكيت، لم يكونوا قادرين على قبول أنني يمكن أن أعرف أي شيء عن كرة القدم.

كان الاستثناء هو جون لوفيسي؛ المحرر الرياضي في صحيفة “صنداي تايمز”، الذي كانت أول مهمة أوكلها لي هي تغطية مباراة تشيلسي وتوتنهام -الفريق الذي كنت أشجعه منذ سن الـ14. وفي العام 1981، عندما تعرضت حياتي للتهديد من المشجعين العنصريين، خصص لوفيسي صفحة كاملة عن تجربتي، بما في ذلك الوقت الذي طاردني فيه أحد مشجعي أرسنال في القطار وهو يصرخ “زنجي، زنجي، اضربوا الزنجي بمضرب بيسبول”، مقتبساً أغنية مشهورة لكرة القدم آنذاك.

وجدت أن منزل عائلة إنجليزية، بعيداً عن كونه قلعة لا يرحب فيها بالغرباء، يمكن أن يكون مكاناً يدعى إليه بحرارة صحفي لم يسبق للعائلة أن قابلته من قبل ولا يستطيع أحداً فيها نطق اسمه. وشمل ذلك كُتاباً كباراً مثل مالكولم موغريدج وشخصيات اجتماعية مثل الليدي ديانا كوبر، التي وافقت على إجراء مقابلة معي في منزلها المطل على حي “فينيسيا الصغيرة” الراقي في لندن. وعندما غادرتُ سلمتني نسخة موقعة من سيرتها الذاتية التي ما أزال أحتفظ بها حتى يومنا هذا. في الهند، كان من الممكن أن تكون سيدة بهذه المكانة محاطة بـ”الشماسة”، (الحاشية)، الذين كانوا سيمنعونني من الدخول ما لم أكن قد جئت بتوصية عالية، وما كانت السيدة لتقدم لي هدية.

عندما واجهت العنصرية في السنوات الأولى في المملكة المتحدة، اتفقت مع الفيلسوف الفرنسي الأفرو-كاريبي، فرانز فانون، في أن الاستعمار أجبر “الشعوب التي هيمن عليها على طرح السؤال باستمرار: ’من نحن في واقع الأمر؟”. واليوم، وبعكس كثيرين مثلي من الأشخاص الملونين، لا أعتبر السؤال: “ولكن من أين أنت حقاً؟” عنصرياً. لقد ساعدتني بريطانيا في اكتشاف جذور أسلافي والافتخار بها وعدم الشعور بالخجل من قول أنني من أصل بنغالي وهندوسي، وهو أمر كنت سأنكره في العام 1969، من باب الحرص على أن يتقبلني السكان الأصليون.

في الواقع، أشعر الآن بالأسف تجاه عدد من البريطانيين الذين ولدوا هنا، الذين يشعرون بالغربة عن جذورهم ويخشون حتى معرفة ماضيهم. سألني أحد معارف زوجتي عندما أخبرته عن مذكراتي: “هل تقول أشياء سيئة عن بريطانيا؟ إذن لا أريد أن أعرف”.

مثل هؤلاء الناس يرون أن أي شيء يشير إلى أن الحكم الإمبريالي البريطاني لم يكن نعمة أخلاقية إنما يشكك في أسس الحضارة الغربية ذاتها، وهم يفضلون المنشورات الجدلية الأكثر ملاءمة للتعبير الحر التي تمجد الحكم الإمبراطوري بدلاً من التواريخ المدروسة جيداً التي تظهر بوضوح أنه لم يكن هناك ما يدعو فيه إلى الفخر. حتى أن روبرت جينريك، الذي أمل أن يكون زعيم المحافظين، ذهب شوطًا أبعد وادعى أن المستعمرات السابقة يجب أن تكون ممتنة لإرث الإمبراطورية.

لكم كان جورج أورويل ليضحك من مثل هذا الكلام! وصف أعظم كاتب سياسي في القرن العشرين الإمبراطورية بأنها “ليست في جوهرها سوى آليات لاستغلال العمالة الرخيصة الملونة”. وتوصل أورويل إلى هذا الاستنتاج في تموز (يوليو) 1939، أي قبل شهرين من بدء الحرب العالمية الثانية، بعد أن رأى الإمبراطورية عن كثب.

من الواضح أن رجلاً مثل جينريك، الذي يأمل في قيادة البلاد، لم يقرأ هذه المقالة المؤثرة، وهو أمر مخجل. وأنا أقرأ ادعاءات جينريك، أتساءل كيف يقترح، بصفتي سليل المهزومين، أن أعبر عن امتناني له. هل يجب علي، كما فعل بعض أسلافي عندما حكمت بريطانيا الهند، أن ألمس أقدام جينريك؟ ربما يمكنه أن يجمعنا، نحن أبناء المغلوبين، في قاعة وستمنستر ويجعلنا نفعل ذلك، سيكون ذلك عملاً تلفزيونياً رائعاً.

الحقيقة هي أن الإمبراطورية كانت تهدف إلى تحقيق الأرباح للغزاة، وقد فعلت. وفي حين كانت هناك منافع جانبية، على سبيل المثال، السكك الحديدية في الهند التي أنشئت لتسهيل نقل القوات البريطانية اللازمة للحفاظ على السيطرة بصورة أفضل، لم يكن المقصود منها أبداً أن تكون نوعاً من المنظمات غير الحكومية الفيكتورية.

كانت قصة “نجاح” الإمبراطورية البريطانية، كما قال رئيس وزراء جامايكا الأول والوحيد في جامايكا، نورمان مانلي، تكمن في تغذية “شعور بالدونية لدى المحكومين”. وعبر جواهر لال نهرو؛ أول رئيس وزراء للهند، عن ذلك بصورة جيدة عندما كتب أن “معظمنا تقبل على أنه طبيعي وحتمي” القول إن الهنود كانوا من الدرجة الثانية، “كان هذا الانتصار النفسي للبريطانيين في الهند أعظم من أي انتصار للسلاح أو الدبلوماسية”.

المشكلة بالنسبة لجينريك وأمثاله هي أنه، على العكس من مانلي ونهرو، لم يعد أبناء جيل اليوم يقبلون بأنهم أدنى من البيض. إنهم يريدون استعادة تاريخهم وتقديمه كما يرونه هم، وليس كما قُدم لهم. وفي هذه العملية، يكتشفون بعض الحقائق المقلقة للغاية التي يجب الاعتراف بها وليس إنكارها. إنني أوافق على أنه لا يمكن مطالبة أحفاد الغزاة بالاعتذار عن أسلافهم أو دفع تعويضات. لكنهم في حاجة إلى فهم ما فعله أسلافهم وعدم تقديم أعذار لأفعالهم القاتمة، أو تقديم نسخة منقحة بعيدة كل البعد من الحقيقة الكاملة.

ما لم يفعلوا ذلك، فإن عملية إعادة تجديد هذا البلد ليصبح مجتمعا متعدد الأعراق حقاً لن تكتمل. وإلى أن نعترف بالجزء الصعب من تاريخنا الجماعي، سيكون هناك دائماً خطر العودة إلى الوراء والتراجع عن كل التقدم الذي أحرز منذ وصولي في العام 1969.

……………………………………………

*ميهر بوز: صحفي ومؤلف بريطاني من أصل هندي. مؤلف كتاب “شكراً لك سيد كرومبي: دروس في الشعور بالذنب والامتنان للبريطانيين” (دار هيرست).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *