الكاتب : فاضل حسن شريف
عن دار المستقبل العربي مفهوم الأمة فى القرآن الكريم للدكتور عصمت سيف الدولة: 1ـ وردت كلمة ” أمة ” فى أربع وستين آية من آيات القرآن الكريم. وكانت كلها ذات دلالة واحدة إلا فى أربع آيات. أولى هذه الآيات جاءت في سورة النحل. قال الله تعالى:” إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِين” (النحل 120). فدلت الامة على أن إبراهيم كان قدوة يؤتم به. وجاءت كلمة الامة بمعنى الأجل فى قوله تعالى:” وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَىٰ أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ” (هود 8). وجاءت فى آيتين بمعنى العقيدة أو الطريق. قال تعالى: “إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ” (الزخرف 22). وقال:” إنَّا وجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وإنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ” ( الزخرف 23) فيما عدا ذلك جاءت كلمة أمة فى الآيات الباقيات للدلالة على مطلق الجماعة إذا تميزت عن غيرها أيا كان مضمون المميز. دل على أن الامة جماعة انها فى كل موضع جاءت فى موقع الفاعل الغائب أشير اليها فى الفعل بواو الجماعة. مثل في قوله تعالى: “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ” (آل عمران 104). وقوله: “وَمِن قَوْمِ مُوسَىٰ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ” (الاعراف 159). وقوله:” وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ ” ( الاعراف 181). وقوله:” وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا” (يونس 19).. ودل على أن الامة مطلق الجماعة أنها قد جاءت فى القرآن دالة على الجماعة من الناس والجماعة من الجن والجماعة من الحيوان والجماعة من الطير. قال تعالى: “قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ” ( الاعراف 38). وقال: “وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ” (الانعام 38). وبعد أن أخبرنا عن أمر نوح عليه السلام وما اصطحبه فى الفلك من أنواع المخلوقات فى قوله تعالى: “حَتَّىٰ إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ” ( هود 40)، قص علينا ما أمر به نوحا: ” قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِّنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَىٰ أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ” (هود 48). يعنى الجماعات المتميزة نوعيا من المخلوقات التى اصطحبها نوح معه.
عن تفسير الميزان للسيد الطباطبائي: أول نداء قرع سمع النوع الإنساني ودعي به هذا النوع إلى الاعتناء بأمر الاجتماع بجعله موضوعا مستقلا خارجا عن زاوية الإهمال وحكم التبعية هو الذي نادى به صادع الإسلام عليه أفضل الصلاة والسلام، فدعا الناس بما نزل عليه من آيات ربه إلى سعادة الحياة وطيب العيش مجتمعي، قال تعالى “وَأَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ” (الانعام 153)، وقال”وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا” (ال عمران 103)، إلى أن قال”وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ” (ال عمران 104) ( يشير إلى حفظ المجتمع عن التفرق والانشعاب ) “وَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ” (ال عمران 105)، وقال”إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ” (الانعام 159)، إلى غير ذلك من الآيات المطلقة الداعية إلى أصل الاجتماع والاتحاد. وقال تعالى “إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ” (الحجرات 10)، وقال”وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ” (الانفال 46)، وقال”وَتَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوى” (المائدة 2)، وقال”وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ” (ال عمران 104) إلى غير ذلك من الآيات الآمرة ببناء المجتمع الإسلامي على الاتفاق والاتحاد في حيازة منافعها ومزاياها المعنوية والمادية والدفاع عنه على ما سنوضحه بعض الإيضاح.
جاء في الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل للشيخ ناصر مكارم الشيرازي: قوله جل جلاله “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” ﴿آل عمران 104﴾ سؤال: وهنا يطرح سؤال وهو: أن الظاهر من جملة (منكم أمة) هو جماعة من المسلمين لا كافة المسلمين، وبهذا لا يكون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجباً عامّاً، بل وظيفة دينية تختص بفريق من المسلمين، وإن كان إنتخاب هذا الفريق الخاصّ من مسؤولية المسلمين جميعاً. وبعبارة أُخرى أن جملة (منكم أمة) ظاهرة في أن هذين الأمرين، واجبان كفائيان لا عينيان. في حين أن آيات اُخرى تفيد بأنهما عامان غير خاصين بجماعة دون اُخرى، كما في آية لاحقة وهي قوله سبحانه “كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ”. أو ما جاء في سورة (العصر): “إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ” فإن الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والتواصي بالحقّ، والتواصي بالصبر في هذه الآيات وما شابهها عامة غير خاصّة. والجواب: إن الإمعان في مجموعة هذه الآيات يوضح لنا الجواب، فإنه يستفاد منها أن (الأمر بالمعروف) و (النهي عن المنكر) مرحلتين: (المرحلة الفردية) التي يجب على كلّ واحد القيام بها بمفرده، إذ يجب عليه أن يراقب تصرفات الآخرين، و(المرحلة الجماعية) وهي التي تعتبر من مسؤولية الأُمة بما هي أُمة، حيث يجب عليها أن تقوم بمعالجة كلّ الإعوجاجات والإنحرافات الإجتماعية، وتضع حدّاً لها، بالتعاون بين أفرادها وأعضائها كافة. ويعتبر القسم الأول من وظيفة الأفراد، فرداً فرداً، وحيث إن إمكانات الفرد وقدراته محدودة، ولذلك فإن إطار هذا القسم يتحدد بمقدار هذه الإمكانات.وأمّا القسم الثاني فإنه يعتبر واجباً كفائياً، وحيث إنه من واجب الأُمة بما هي أُمة فإن حدوده يتسع ولهذا يكون من واجبات الحكومة الإسلامية، وشؤونها بطبيعة الحال. إن وجود هذين النوعين من مكافحة الفساد، والدعوة إلى الحقّ يعتبران ـ بحقّ ـ من أهم التعاليم التي تتوج القوانين الإسلامية، كما ويكشف عن سياسة تقسيم الواجبات والوظائف وتوزيع الأدوار في الدولة الإسلامية، وعن لزوم تأسيس (فريق المراقبة) للنظارة على الأوضاع الإجتماعية والمؤسسات المختلفة في النظام الإسلامي. وقد جرت العادة فيما سبق بوجود أجهزة خاصّة تقوم بمهمة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في المستوى الإجتماعي في البلاد الإسلامية، وقد كانت تسمى هذه الأجهزة تارة باسم (دائرة الحسبة) ويسمى موظفوها بالمحتسبين، وتارة باسم الآمرين بالمعروف،. وقد كانت هذه الأجهزة بسبب موظفيها تقوم بمكافحة كلّ فساد في المجتمع، أو كل فساد وظلم في أجهزة الدولة، إلى جانب ما تقوم به من تشجيع الناس على الخير والحثّ على المعروف. ومع وجود مثل هذه الجماعة بما لها من القوة الواسعة لا يوجد أي تناف بين شمول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عليها وعلى الفرد بما له من القدرة المحدودة. إذ يكون الأمر والنهي الواسعان من واجب الدولة الإسلامية لا الفرد. وحيث إن هذا البحث يعتبر من أهم الأبحاث القرآنية وقد أشارت إليه آيات كثيرة في الكتاب العزيز.
وعن التفسير المبين للشيخ محمد جواد مغنية: قوله جل جلاله “وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ ۚ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ” ﴿آل عمران 104﴾ الأمر بالمعروف: المراد بالخير هنا الإسلام، وبالمعروف طاعة اللَّه، وبالمنكر معصيته، ومحصل المعنى انه لا بد من وجود جماعة تدعو غير المسلمين إلى الإسلام، وتدعو المسلمين إلى ما يرضي اللَّه، ويثيب عليه، وترك ما يغضبه، ويعاقب عليه. ولفظ (منكم) في الآية قرينة على أن وجوب الأمر بالمعروف على سبيل الكفاية، دون العين، إذا قام به البعض سقط عن الكل. وليس من الضروري أن يكون القائم بهذه المهمة عادلا، بحيث لا يجوز للفاسق أن يأمر بالمعروف، وينهى عن المنكر.. كلا، لأمرين: الأول أن شرط الحكم تماما كالحكم لا يثبت إلا بدليل، ولا دليل على شرط العدالة هنا لا من الكتاب، ولا من السنة، ولا من العقل. الثاني أن حكم الآمر بالمعروف لا يناط بطاعة أو معصية غيره من الأحكام. وكثير من الفقهاء اشترطوا لوجوب الأمر بالمعروف أن يكون الآمر آمنا على نفسه، بحيث لا يصيبه أي ضرر إذا أمر بالمعروف، ونهى عن المنكر. ولكن هذا الشرط لا يطرد في جميع الموارد، فإن قتال من يحاربنا من أجل ديننا وبلادنا واجب، مع العلم بأن القتال يستدعي الضرر بطبعه: “إِنَّ اللَّهً اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وأَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ ويُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ والإِنْجِيلِ والْقُرْآنِ” (التوبة – 111).. ويجوز لكل انسان أن يضحي بحياته إذا تيقن ان في هذه التضحية مصلحة عامة، وفائدة للعباد والبلاد أهم وأعظم من حياته، بل هو مشكور عند اللَّه والناس، وفي الحديث: (أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر). وخلاصة القول ان الضرر يجب دفعه إذا لم تترتب عليه فائدة، والا جاز تحمله، كما يجوز للإنسان أن يقدم على قطع عضو سقيم من أعضائه، حرصا على حياته، وخوفا على نفسه من الهلاك. هذا، إلى أن للأسلوب أثره البالغ، فبعض الأساليب تنفّر من الحق، و تجر على صاحبها المتاعب والويلات، وبعضها تفرض الفكرة على سامعها فرضا من حيث لا يشعر.. والعاقل الحكيم يعطي لكل مقام ما يناسبه من القسوة واللين، وقد كان فرعون في أوج سلطانه وطغيانه، ولم يكن لموسى وهارون ناصر ولا معين، ومع ذلك أمرهما أن يدعواه إلى الحق، ولكن بأسلوب هين لين.. حتى خالق الكون جلت كلمته يخاطب عباده تارة بأسلوب التهديد والوعيد، ويقول لهم: “إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ – 65 المؤمنون”. وتارة يقول لهم برفق: “أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ واللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ” (النور – 22). وبالجملة إن إعلان الدعوة الإسلامية على الملأ، وتآمر المسلمين فيما بينهم بالمعروف، وتناهيهم عن المنكر، أن هذا ركيزة من ركائز الإسلام، ومن ثم يحتم وجود فئة معينة تقوم بهذه المهمة، تماما كما يحتم وجود سلطة تحافظ على الأمن والنظام، وفئة تختص بالصناعة، وأخرى بالزراعة، وما إلى ذاك مما لا تتم الحياة إلا به.