نوفمبر 21, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

يطرح البعض اشكالية معينة وهى ان الاحتفال بعيد الغدير في العراق فيه سلوك طائفي او اشارات ذات مغزى طائفي , وهو خطأ بالمصطلحات والمفاهيم يقع به – كالعادة – الكثير من العراقيين – وخاصة المثقفين منهم – ان الاحتفال بعيد الغدير – وكذا باقي الممارسات والطقوس الحسينية – التي يمارسها الشيعة كل عام , لاتدخل ضمن خانة السلوكيات الطائفية ابدا , وانما تدخل ضمن دائرة الممارسات المذهبية . فهناك فرق كبير بين المذهبية والطائفية .
فالمذهبية : هى الممارسات الدينية والشعائر والطقوس التي يمارسها جماعة معينة في موسم معين , او مواسم متعددة في كل عام .
والطائفية : هى ممارسات مختلفة ومن نوع اخر , وتعني التكفير والقتل والارهاب والتهجير والتخوين والسخرية والاقصاء عن الادارة والحكم . اي انها تعطي مدلول سلبي واقصائي واجرامي خطير قد يصل لمرحلة الابادة الجماعية .
والشيعة بصورة عامة مذهبيون وليسوا طائفيون, لان ممارساتهم المذهبية فيها تصاعد كبير من حيث النوع والكم . فمن حيث (النوع) فهناك روزنامة شهرية متنوعة ومتعددة من الاحتفالات السنوية للولادات والوفيات للائمة المعصومين عندهم , وممارسات طقوسية من المسير والمواكب والمجالس وغيرها . واما من حيث (الكم) فهناك تماهي وانغماس اجتماعي كبير جدا , قد يصل الى جميع فئات الجماعة الشيعية , وباعداد تصل الى الملايين كل عام .
وهذا الانغماس بالمذهبية والطقوس الحسينية عند شيعة العراق خاصة , هو ليس ممارسات دينية وشعائر حسينية فقط , بل هو سلوك يتداخل فيه الاجتماعي والنفسي والسياسي والثقافي , الا ان السبب الاساس عندي – كما ذكرته في مقالي في موقع الحوار المتمدن (الطقوس الحسينية والهوية الشيعية في العراق) – هو الرغبة اللاشعورية بالحفاظ على الهوية التي تتعرض الى تحديات خطيرة من قبيل الاستبداد والمكافحة الثقافية ابان الحكم البعثي والطائفي سابقا , والارهاب والتكفير والتخوين بعد السقوط عام 2003 . وعدم وجود تضامن اجتماعي بين الجماعة الشيعية في العراق , وبما ان (الطبيعة تكره الفراغ) – كما يقال – فمن الطبيعي ان تخلق الهوية لذاتها ممارسات وسلوكيات من اجل ان تحفظ نفسها من التلاشي والذوبان في المحيط العشائري والعلماني والسني , فلم تجد بالتالي افضل من الدين , واذا كان ميشيل فوكو يقول (الدين عقل … لمجتمع بلاعقل) فاننا بالعراق نقول (الدين هوية … لمجتمع بلا هوية) .
ان السلوكيات المذهبية هى الوحيدة التي تربط شيعة العراق بالتشيع , لان هناك عوامل جذب اخرى اقوى تاثيرا نحو التسنن او اللاهوية والعلمانية , اهمها انهم يشكلون الاغلبية الاجتماعية في البلاد , والاغلبية لاتصنع هوية ابدا , لان الاخر على الدوام سيكون من داخلها وضمن صفوفها , وبما ان الاخر شرط الهوية – كما يقول سارتر – فاننا بالعراق سنواجه صعوبة – ان لم تكن استحالة – صناعة هوية شيعية , ومن اجل ذلك قال الشيخ اللبناني محسن بيضون في النجف (اعدمه نظام صدام عام 1986) (انتم شيعة العراق لستم شيعة , بل انتم سنة تحبون اهل البيت) , للدلالة على عدم وجود رابطة شيعية سياسية واحدة وهوية ثقافية صلدة . واعتقد ان الصحيح هو انهم يخافون اهل البيت اكثر مما انهم يحبون اهل البيت , فالخوف محرك اصلي واساسي في توجه العراقيين وتحديد ارائهم , الخوف من المجهول والخوف من السلطة والخوف من مصائب الحياة . لذا كانت الخشية من اهل البيت والتقصير في زيارتهم والبكاء عليهم ومواساتهم والخوف من التقصير بحقهم , هى من الاسباب الاساسية في التماهي معهم والالتفاف حولهم . كما ان اهل البيت من جانب اخر يشكلون الوسيلة العاطفية الاكثر انتشارا في تبديد حالة الخوف من المجهول , وزرع الطمانينة في نفوسهم القلقلة .
واما هناك من يرفض تلك المفاهيم ويعتبرها (كله تمر عمارة) , وان هذه السلوكيات هى طائفية , فاود ان اسأله : هل يمكنك ان تضع سلوك جماعة في اقصى جنوب العراق يقيمون مجلسا حسينيا عاديا في خانة الطائفية ؟ او تقارنه مع سلوك عتاة الطائفيين كالابادة الجماعية التي قامت بها تظيمات داعش الارهابية , والقمع والتخوين الذي قام به نظام صدام حسين البعثي , او التكفير الذي قام به الارهابي الاردني الزرقاوي في العراق مثلا ؟؟ بالطبع ان هذا غير معقول عقلا وواقعا .
وترجع جذور اعتبار الممارسات المذهبية هى (طائفية) الى الحقبة الطائفية البعثية الحاكمة في العراق , بل وربما ابعد من ذلك الى العهد الملكي . واذا كانت الحقبة البعثية قد تعمدت اعتبار تلك الطقوس والشعائر الشيعية هى سلوكيات طائفية يعاقب عليها الانسان , وذلك من اجل قمعها والحد منها وتهميشها , وعزل الفرد الشيعي عن ثقافته المذهبية وتجفيف منابع هويته الذاتية وتضامنه الاجتماعي , ومن ثم تمرير الاجندات السياسية والسلطوية وثقافة الحكومات الطائفية ومشروعها القومي , على اعتبار ان من ليس عنده هوية سيكون هوية الاخرين , ومن ليس عنده مشروع سيكون مشروع الاخرين , ومن ليس عنده هدف سيكون هدف الاخرين .
واما النخب الملكية ذات التوجه العلماني فان سلوكها هو اقرب للجهل منه للتعمد في التدليس والتضليل في الفرق بين المذهبية والطائفية . فقد روي الشاعر السيد مصطفى جمال الدين : ان السياسي العراقي المعروف كامل الجادرجي دعاه الى لقاء عام 1965 , وشكا له الجادرجي مما وصفه بطائفية الشيعة , ولما استفسر منه السيد جمال الدين عن تفاصيل الموضوع وادلته , فاشار الجادرجي الى الطقوس الحسينية وزيارات المراقد المقدسة وغيرها , فيما اعتبر من جانب اخر ان السنة غير طائفيين , وضرب مثلا عن ذلك ان ولده رفعت (المعماري المعروف فيما بعد) ساله اثناء مروره امام ضريح الامام الاعظم ابو حنيفة في الاعظمية من هو هذا ؟ فاجابه (امام من الائمة) وكفى , ولم يسال ابنه بعد اكثر من ذلك , بينما ينغمس الشيعة بتاريخ ائمتهم وتفاصيل حياتهم .
في الواقع ان الجادرجي كان جاهلا في الفرق بين المذهبية والطائفية . فالشيعة الذين يتماهون مع الطقوس الحسينية والزيارات الدينية لمراقد الائمة , انما هى ممارسات مذهبية وليس طائفية , فهى تعبر عن بواعث وجدانية واجتماعية وليس دينية فقط , فهى تتعلق بالحاجة الى الدين كمعطى روحي عند الانسان الشيعي المقهور والمستلب سابقا , فهو فيتامين الضعفاء واكسير المضطهدين . كما انه من جانب اخر يعبر عن التحدي الذي تتعرض الهوية الشيعية في مواجهة حالة الاقصاء والتهميش الذي تقوم به الحكومات الطائفية والعلمانية , والمكافحة الثقافية التي تعرضوا لها طوال قرون طويلة , او حالة الارهاب والابادة الجماعية التي واجهوها بعد سقوط النظام البعثي عام 2003 . كما ان الجادرجي قارن نفسه مع سلوك الشيعة العوام انذاك , ولم يقارن نفسه مع توجهات العلمانيين الشيعة في العقود التي اعقبت الحرب العالمية الثانية , وانتشار المظاهر العلمانية بقوة عند العراقيين الذين تساموا عن تلك الممارسات المذهبية والدينية بصورة كبيرة جدا . فيما ان المفروض ان يقارن بين تصرفات العامة الشيعة مع سلوكيات اقرانهم السنة الذين كانت لهم ايضا ممارسات مذهبية (وان كانت اقل من الشيعة) كالدروشة واقامة التكايا الصوفية وزيارات المراقد السنية مثل الامام الاعظم والكيلاني والرفاعي ومعروف الكرخي وغيرها .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *