ديسمبر 3, 2024
download (1)

الكاتب : عبد المنعم الاعسم

قانون تجريم البعث، الذي حكم العراق بقيادة صدام حسين اكثر من ثلاثة عقود، قيد المناقشة في مجلس النواب، من حيث المبدأ، وقبل الخوض في تفاصيله، امر سليم وصحيح وضروري ومبرر، ليس فقط بالمقارنة مع تجارب دول حكمتها فاشيات ودكتاتوريات وانظمة عنصرية (المانيا الهتلرية. ايطاليا. اليونان. جنوب افريقيا..) وقضت بتجريم احزاب نظمها الفاشية غداة سقوطها، بل وايضا، لأن حفنة من البعثيين (جلادين سابقين. قتلة. ضباط اجهزة القمع. مقربين من صدام..) لا يزالون ينشطون لأعادة نظام القهر الفاشي بالسلاح والتفجيرات والتجييش واثارة الكراهيات الطائفية والقومية والاجتماعية والتحالف مع اكثر جماعات الارهاب توحشا وهمجية واجراما.
فمثلما كان القتل والترويع والتمييز القومي والطائفي واستئصال الآخر واثارة الحروب منهجا في اساس نظام الفاشية الصدامية، ومكونا عضويا في سياساته وتطبيقاتها على الارض، فان التشكيلات البعثية، من ايتام صدام حسين، تواصل هذا المنهج، والترويج له، والتشبث به، وهي خارج الحكم، وطوال عشر سنوات من عمر السقوط ارتكبت هذه التشكيلات من جرائم العنف والاغتيالات واللصوصية ما يفرض على الدولة، والمجتمع، والجماعات السياسية والاعلام التصدي لها وتجفيف مواردها البشرية والمعنوية والعمل على تفكيكها، ويعد التشريع الخاص بتجريم البعث الفاشي واحدا من فروض الوقاية إزاء الخطر الذي يمثله.
وبموازاة هذه الضرورات، تبرز ضرورة، لاتقل خطورة واهمية عن تشريع قانون تجريم البعث ، وتتصل بالمعايير والمنظورات، ثم الاجراءات، التي تعالج فكرة التجريم والمشمولين بها، سيما ان السنوات العشر الماضية سجلت وقائع وفيرة عن التخبط واللاعدالة والكيفية والكيدية “وحتى الطائفية” في التعامل مع افراد حزب البعث وكوادره وفي سبل وخلفيات اعادة ضباط ومسؤولي الحكم السابق من اعضائه الى مواقع الحكم الجديد، الامر الذي جعل هذا الملف فاصلة ساخنة في الصراع السياسي بين الفئات المتنفذة، والحق ضررا كبيرا بالمعادلة الامنية، بعد تسلل بعثيين مرتبطين بالمشروع الارهابي الاجرامي الى اكثر شبكات المنظومة الامنية والعسكرية حساسية، وبالمقابل، جرى التنكيل والعزل لبعثيين سابقين، لاعتبارات طائفية او كيدية، فيما لم تجر مراعاة لاحوال بعثيين مدنيين وعسكريين انقلبوا على الدكتاتورية والبعض منهم حاربها، بل ان الكثير من هؤلاء أبعدوا عن مجالات الخدمة وجرى التفريط بخبراتهم في وقت البلاد احوج ما تكون لها.
ولعل اكثر صور النفاق السياسي في التعامل مع حزب البعث وفلوله وانصاره برزت في لجوء كتل سياسية الى لغة التعاطف الزائف مع البعثيين، ومع الجمهور المحسوب على النظام السابق لغرض ضمان التصويت لها في الانتخابات، وبلغ بهذه الكتل ان تعارض حتى تجريم صدام حسين، وبعض زعاماتها صار يتمثل شخصية الدكتاتور وخطاباته خلال الحملة الدعائية الانتخابية، وهذا هو الوجه الآخر من النفاق السياسي لكتل وزعامات سياسية اخرى راحت تقرّب البعثيين، بمن فيهم الجلادين السابقين، وتزكيهم، وتدفع بهم الى مواقع حساسة لاعتبارات طائفية او عشائرية او مناطقية.. وثمة حالات رشوة وفساد وسمسرة مرت من هنا.
غير ان ملف التجريم القانوني يفتح نفسه على ملف آخر اكثر اهمية وخطورة وتتصل بمستقبل ومصير حزب البعث في العراق.. فقد توفرت له فرصة تاريخية للانتقال من صيرورته حزبا فاشيا تحت قيادة صدام حسين الى اصوله كتنظيم سياسي مدني قومي حركي، وذلك حين سقط الدكتاتور واخذ معه الى المزبلة دولة فاشية، بكل بُناها الايديولوجية والاقتصادية والادارية، وكانت الظروف الجديدة مهيأة لهذا الخيار، فيما كان الحديث يجري عن تغييرات في منهج واسم وقيادات الحزب وحصر مسؤولية جرائم النظام السابق بحفنة من جلاديه، لكن فلول الحزب وما تبقى من انصاره(من تشكيلات اجهزة القمع والسطوة والمنافع) تخندقوا في الالهام الصدامي الكاذب، ومضوا على طريق التجييش والرطانة الثورية والتآمر..
وهل الفاشية غير سلسلة من عمليات تآمر ونداءات مثيرة للعواطف بغرض الوثوب الى السلطة، كما يعرضها موسوليني في كتابه عن “الفاشية والثورة الاجتماعية”؟.
وأليس الفاشية غير وصفة، كما يقول تولياتي “لحزب يدق طبول الحرب بلا كلل ودولة تحارب على الدوام”؟ وتلك هي المصاهرة الابدية بين حزبي هتلر وصدام لتجد تعبيرها في اساليب قهر المواطن ووأد وعيد وتعصيب عينيه، ثم العمل على اخصاء الحياة السلمية والتعددية والليبرالية في المجتمع، واستئصال القوميات والخصوصيات والعقائد ووضع الشعب كله قيد ارادة القائد الفرد الذي لا يُناقش ولا يكشف عن خططه لاقرب المقربين .
ففي هذا العام 2013 يمرّ ثمانون عاما على صعود هتلر الى السلطة في المانيا (1933) وخمسون عاما على صعود البعث العراقي،لأول مرة، الى الحكم (1963) ولم تختلف اشكال هذا الصعود في الجوهر.. التآمر.. كما لم تختلف(إلا في التفاصيل) سبل بناء السلطة ودور الحزب الحاكم، وسطوة الفرد صاحب القرار الاول والاخير في مصائر البلاد، ومثلما ترك هتلر فلولا فاشية مؤتمنة على افكاره، ومسحورة بقوته و”وبطولته” لكنها صغيرة وهامشية ومنبوذة حيث حوصرت بطوق من التشريعات والثقافة والتعليم والاحتواء المنهجي، فقد ترك صدام حسين حفنة من اتباعه المهووسين باسمه و”امجاده” ممن شاءت ظروف التغيير بعد العام 2003 والسياسات العفوية واللامنهجية والطائفية والارتجالية التي سلكتها حكومات التغيير ان تكون لهم مكانة في المعادلات السياسية والامنية في مرحلة ما بعد سقوط النظام.
وإذ انفض ملايين من اعضاء حزب البعث عنه، بعد سقوط الدكتاتورية قبل عشر سنوات وظهرت بوادر مراجعة جدية بين قياداته المدنية وبعض مثقفيه لانتقاد وتجريم الحقبة الدكتاتورية القمعية ولجهة تأهيله للانخراط في العمل السلمي والمدني، غير ان تلك البوادر سرعان ما ارتدت الى الوراء، وانتهت الى “صمت” المنادين بالمراجعة وهزيمتهم امام صعود نداءات الانتقام والحرب والمقاومة الارهابية والمضي قدما بقيادة عزة الدوري الى اشكال من الطائفية الهمجية والشعوذة (جيش النقشبندية) واوهام اعادة عقارب الساعة الى الوراء.
في العام 1933 كان هتلر يقول.. ساجعل العالم ينتحر في هذه الصالة.. وفي العام 2003 كان صدام حسين يكرر ان الحملة عليه ستسقط لا محال.. فمن الذي انتحر؟ ومن الذي سقط؟.
والمعاينة الموضوعية تكشف ان فاشية حزب البعث الذي حكم العراق ليس في منظومته العقائدية المجردة التي تضم نصوصا ورؤى ولوازم تعالج الشان القومي وقضايا التجزئة والوحدة العربية والنظام الاقتصادي المقترح للدولة، بل في الممارسات والتطبيقات التي جرت في ميدان السياسة والحكم، وفي الوصفة الصدامية للبعث على وجه الخصوص، ولا حاجة للاستطراد كثيرا في الفاصلة الصحيحة التي تقول ان الطغيان السياسي كثيرا ما يستند الى نصوص عقائدية مثالية (أو اجزاء منتقاة منها) يجري ليّها ومطّها وتأويلها لكي تلائم مشروع الاستبداد.
تكفي الاشارة السريعة الى ان ابن لادن استند في بناء مشروعه الارهابي التكفيري الاجرامي على نصوص في القران والعقيدة الاسلامية، وقبله وظـّف ستالين وماو وبول بوت مقولات لماركس ولينين في بناء حكم الاستبداد والبطش، كما ان الرأسمالية من حيث هي نظرية للحرية ولنظام مجتمعي بديل للاقطاعية الهمجية تمخضت في اطوارها الصاعدة عن اقبح وابشع التطبيقات متمثلة بالاستعمار وسياسات إخضاع الامم وانظمة النازية والفاشية، والامثلة كثيرة على نماذج حكم وادارة وزعامة شرّعت للقهر بالاستناد الى مدونات نظرية للعدالة والمساواة والثورة.
لقد أنشأت الصدامية نموذجا فريدا وصارخا للدولة الفاشية.. دولة يحكمها فرد واحد مستبد، وتديرها اجهزة مخابرات فوق القانون، وينأى الحزب الحاكم فيها عن موارده العقائدية المثالية ليصبح اداة امنية عمياء لقهر الشارع واستئصال التنوع وتكميم الافواه وسوق الملايين الى ساحات الحرب التي ما إن تتوقف في جبهة حتى تندلع في جبهة ثانية، وكانت حرب القهر القومي للكرد ابشع تلك الحروب، فيما حرصت هذه الدولة على ضبط الولاء لها بقوة الحديد والنار، وعلى ارشاء مواطنيها (او شرائح منهم) بفتات رخاء مؤقته ومكرمات مُذلة، تقدمها بسخاء حين تشعر بخطر التمرد عليها ثم تصادرها حين يبتعد هذا الخطر. اما في مجال الثقافة فقد اغارت الدولة الصدامية الفاشية على مواطن التعددية في الثقافة الوطنية ووضعت غالبية المثقفين الذين لم يتسن لهم الافلات من قبضتها تحت المراقبة والتهديد او الصمت او في صناعة التوصيفات المغشوشة للقائد المستبد.
ومع حالة الاعداد للحرب، وهي حالة “طوارئ” غطت العقود الثلاثة من صعود الفاشية الصدامية (ولو بقي صدام لاستمرت الى الابد) فان اية معارضة او شبهة للاحتجاج حتى في ابسط اشكال لها تُعد خيانة وطنية تكلف اصحابها حياتهم، وبمرور الايام صارت الملايين العراقية، بالنسبة لصدام، قطيعا ووجودا نسبيا، او كوسط مريب ينبغي مراقبته وترويضه على الدوام، بل انه (وعلى خطى هتلر) عني بالاطفال والصبيان على نحو استثنائي لكي يشبوا صداميين ووقودا لحرائق المستقبل ومتشبعين بالولاء المطلق له عبر قطعهم عن عائلاتهم وابائهم وحياتهم الطفولية البريئة.
فاشية البعث، في تطبيقاتها الصدامية، ليست تجربة سقطت مع سقوط صاحبها.. انها تظهر الآن في اشكال كثيرة من النوازع والانحرافات، والممارسات التي التي تتكشف في ميادين السياسة والثقافة والمجتمع، وتسعى الى اعادتها عن طريق العنف والتآمر والارهاب فلول منفلتة.
اقول تسعى، وليس كل من يسعى يصل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *