الكاتب : رشيد الخيون
ركزت السياسة الخارجية غير الرّسميَّة الإيرانيَّة، إزاء العراق، على كردستان وشط العرب، الذي يُسمّيه الإيرانيون «أروندرود». بهذا الخصوص استخدم آراش رايزنجاد مؤلف «شيعة إيران والأكراد العراق وشيعة لبنان»، الأسماء الفارسية للمواقع، دون حقّ، فالشط اسمه «شط العرب»، قال ناصر خسرو (ت: 453هج): «وَهَذَا النَّهر هُوَ شط الْعَرَب، ويلتقي دجلة والفرات عِنْد حدود مَدِينَة البَصْرَة» (سفر نامة).
وفق معاهدة (1937) في عهدي الملك غازي (1933-1939) وشاه رضا (1925-1941)، ثبت شط العرب بشاطئيه عراقيّاً. ظلت المعاهدة عقدة تؤرق محمَّد رضا(1941-1979)، ولم يثرها خلال العهد الملكي العراقيّ، بعدها أخذ الشَّاه يبتز العراق عبر أكراده، كي يكون شط العرب مِن حقّ إيران، بما يعرف بـ «التالوك» أعمق نقطة فيه.
توافرت فرص لحل القضية الكُرديَّة، وأجودها حلّ رئيس الوزراء عبد الرّحمن البزاز (1966)، إلا أنَّ إيران أفشلتها، فالشّاه يردد «ما لهم لو تنازلوا عن أروند»، ويغري الأكراد بمواصلة القتال، كلما نضج الحلُّ، وكان الجيش الإيرانيّ يُقاتل العِراق مموهاً بالزَّي الكردي.
أشتد التّدخل بعد (1968)، وكادت الحرب الشَّاملة تندلع، صاحب ذلك حبك المؤامرات بين البلدين، حتّى معاهدة الجزائر (1975)، تنازل بها العراق عن «شط العرب»، حينها لم يكن التّنازل يرضي سواد شيعة العراق، يوم لم يكن للأحزاب الدِّينية وجود، فكانت مواكب حسينية بالنَّجف تشدوا: «شط العرب إنا(لنا) مية بالمية، يا حسين شوف (انظر) الخريطة» (شاهد عيان).
تخلص شاه إيران من معاهدة (1937)، لينقلها عقدةً إلى صدام حسين (أعدم: 2006) مقابل الكف عن دعم الأكراد ضد بغداد، وإذا كان شاه إيران ألغى معاهدة 1937 من طرف واحد، فأول فرصة كانت لصدام إلغاء معاهدة (1975)، ثم أعادها في حرب (1991)، وهكذا ظل شط العرب مقايضة، الكف عن دعم الأكراد مقابل التَّنازل عن الشَّط.
صحيح أنَّ جوهر النزاع، بين إيران والعراق، كان شط العرب، لكنَّ هناك مبررات أخرى لدى الشاه، يضغط بها على الأميركان والإسرائيليين، وهو النُّفوذ السُّوفييتي عبر العراق، بعد عقد معاهدة كبرى بين بغداد وموسكو، وقبلها كان يضغط بالتخويف مِن المد النَّاصريّ، لهذا دفع الأميركان والإسرائيليين إلى التعاون ضد بغداد، في دعم الأكراد بالسَّلاح والمال، وما أقنع الأميركان هو تأميم النفط العراقيّ (1972).
نعم اعترف الشَّاه مبكراً بإسرائيل (1955)، لكنه مع قيام دولة فلسطينية، إلا أنّ أيَّ قضيةٍ، كبرت أو صغرت، لا تتعدى أهمية شط العرب عنده، وفي لحظة تنازل العراق انتهت الحركة الكردية، بالانسحاب فرادى إلى إيران، فمهما كان دافع الشّاه في دعم الأكراد ضد بغداد، فلم يتوهم أنه سيكون في مأمن مِن ثورة كردية ببلاده، وهذا ما منعه مِن دعم الأكراد إلى مستوى قيام كيان مستقل بالعراق.
كانت المنطقة تضطرب، كم سُفكت دماء، وبذرت ثروات، لتبقى كردستان العراق ملغومةً، والتآمر بين العواصم مستمراً، والمطلوب شط العرب مقابل رأس الحركة الكُرديَّة، وقد حصل هذا، ولم يُغرَ الشّاه بعرض قادة الأكراد العراقيين، في أنْ تكون مناطقهم تحت تاجهِ، لأنْه سيفتح جبهة تزيد حدوده لهيباً.
ذهب آلاف الأكراد ضحايا السياسة غير الرسمية الإيرانية، فكانوا يعتقدون أنهم يقاتلون لتحقيق الحقوق القوميّة، في قتالهم مع بغداد، وبينهم البين أيضاً (برازانيون وطلبانيون)، لكنَّ كلَّ قطرة دمٍ سُفحت كانت لتحقيق حلم شاه إيران، في التخلص مِن عقدة «أرنودروود»، وبهذا خمدت الثورة الكردية قبل جفاف حبر توقيع معاهدة (1975). إنَّه أحد الدُّروس، التي يجب مراعاتها، في حساب الخسائر والأرباح.
أحسن البزاز بإخلاصه لحلِّ القضية الكردية حلاً عادلاً، كان شريكَ صاحب البيت في شعوره: «قلبي لكردستان يُهدى والفمُ ولقد يجودُ بأصغريه المُعدمُ» (الجواهريّ، كردستان يا موطن الأبطال). لكنَّ الأوهامَ بإخلاص الشَّاه، دفعت الأكراد حتّى خذلهم، وفي القصيدة ما يعبر: «أنا صورةُ الألمِ الذَّبيحِ أصوغه/كَلماً عن القلبِ الجريح يُتَرجمُ».
*كاتب عراقي