الكاتب : علي وجيه
هذه قراءة أخرى، لحَراكٍ فكريّ أكثر منه حراكاً سياسيّاً، والعيّنة التي أتحدثُ عنها هنا هي طبقة الشباب من المكوّن الشيعي العربيّ العراقيّ تحديداً، بعد مُتغيّريْن عاصفيْن: الأول محلّي وهو احتجاجات ٢٠١٩ (تشرين)، والثاني هو أحداث غرْة وما تتعرضُ له من اعتداء وحشيّ طيلة الأشهر الماضية.
تنقسمُ الطبقة الشبابية العراقية الشيعية بين أطياف الاتجاهات السياسية المختلفة، من أقصى الراديكاليّة الدينية إلى أعلى درجات التطرف العلماني، وما بينها من تدرّجات، وعبّرت هذه الطبقة بشكلٍ واضح عن نفسها عبر موجة احتجاجات في المناطق الشيعية: ٢٠١١، ٢٠١٥، ٢٠١٨، ٢٠١٩، وهي تملأ الفضاء العام أيضاً، بطريقةٍ ما، احتجاجاً ونقداً يبدأ بالطبقة السياسية ذات الأغلبية الشيعية، وأحزابها الإسلامية، مروراً بالمؤسسة الدينية، وهذا الموضوع يكون شاملاً ولا يُشبه الاحتجاجات السنّية (ذات المطالب السنية المحدودة أيام “ساحات العزّة والكرامة”)، ولا الاحتجاجات الكردية الكلاسيكية المحلّية شبه المغلقة.
كانت لحظة ٢٠١٩ عاصفةً، هدّدَ فيها هؤلاء الشبّان كلّ المتحف الشيعيّ، بكلّ عناصره، ولم يتم استثناء عنصر من هذا المتحف إلاّ العناصر التي وقفت مع الاحتجاجات، مثل المرجعية الدينية، واختلافهم كان عن الناشطين السنّة داخل الحركة أنهم لم يقدّموا أنفسهم بوصفهم “شيعة” أبداً، ولهذا حين انتهت احتجاجات تشرين، بقي “التشرينيون الشيعة”، بسوادهم الأعظم، في هذا الصفّ العلماني الصلب، بينما توزّع الناشطون السنّة بين الأحزاب السنّية الشابة من الجيل الثاني، وعلى رأسها “تقدم” و”عزم”.
مع انطفاء الاحتجاجات، والفشل الذي مُنيَت به الأحزاب المنبثقة التي لم تُحسن الاستفادة من الحجم النيابي الذي تضاعف من جهة بسبب قانون الانتخابات الجديد، ولا انسحاب التيار الصدري وفَيْض مقاعده على الحركات الأخرى ومن ضمنها الحركات المدنيّة المنبثقة من الاحتجاج، بدأت حركةٌ من إعادة ترتيب الأولويات لهذه الطبقة، خصوصاً وأن أغلبهم منحدرٌ من أسر محافظة، متديّنة، وتشترك بالأقل في النشاطات الدينية مُجتمعياً.
بعد انكسار الشراكة مع التيار الصدري، وعدم دعمه رغم النداءات التي وجّهها الزعيم مقتدى الصدر لأبناء الاحتجاج من تشرين وقتَ ما اصطلحَ عليه بـ”ثورة عاشوراء”، مرّت هذه الطبقة بمرحلة فراغ آيديولوجي، حيث لا شيء بالأفق من الممكن انتظار ثماره، خصوصاً مع مجيء حكومةٍ غير مُهدِّدة، مُسترخية، في ذهنها الخدمات أكثر من الاحتراب السياسيّ، وبرئيس وزراء من أبناء الداخل، ناغمَ تشرين في وقتها باستقالته من حزب الدعوة، أعني محمّد شياع السوداني.
من الضروريّ الإشارة أن المعسكر الاحتجاجيّ لا يُرمُّ ولا يكبر إلاّ بالشعور بالخصومة والتهديد من الحكومة، فإن غابَ هذا العنصر فإنَّ المعسكر هذا مُبدَّدٌ وإن كان حتى في منشورات السوشيال ميديا.
هذه الحكومة لا تُصنّف بوصفها “صديقة”، لكنها ليست “عدوّة” بطريقةٍ ما، وإن كانت منبثقة من العدوّ الكلاسيكي للاحتجاج: قوى الإطار التنسيقيّ.
إعادة القراءة هذه من قِبَلِ هذه الطبقة، لأولويات هويّتها، والعودة للجذر الشيعيّ، غير الراديكالي، جاء بسبب هذه العناصر، مع توقّف المُحرِّكات المؤلِّبة لها ضدّ “المتحف الشيعيّ”، وانسحاب الشريك “التشريني السنّي” باتجاه معسكره الهويّاتي الأول، أدركَت هذه الطبقة أن لا مستقبلَ من الممكن أن يُنجَز فيه شيءٌ سياسيّ إلا بالانطلاق ضمن الفضاء الشيعيّ السياسيّ المجتمعيّ نفسه، لكن مع ترطيب بالنبرة باتجاه “المدنيّة”.
أعادت هذه الطبقة قراءتها الفكرية، من النسخة العلمانية المتطرفة، بعد الصدمة الكبرى التي شاهدها العالم أيضاً ضمن أحداث غرْة، فبعد عقود من جلد الذات، والنظر لـ”الفردوس الغربيّ”، صاحب “حرية التعبير” و”حقوق الإنسان” وهو يصمتُ على الفرْم اليوميّ لأهالي غرْة على يد الكـيـ!ن وأصدقائه، وهذا الأمر يأتي أيضاً بعد حملة شعواء من المعسكر الغربيّ وهو يبشّر بـ”المثـ!ـية”، وسكبها في كل المحتويات المرئية، من السينما الى السوشيال ميديا، وكما أشرتُ إلى أنّ انحدار أغلب هذه الطبقة من أسر محافظة، يهزّ هذا الأمر شيئاً أساسياً من ثوابتهم، فضلاً عن كون “العدوّة الكلاسيكية إيران” وأصدقاؤها داعمين بشكلٍ واضح لأهالي غرْة، تسليحاً وإعلاماً وغير ذلك.
انكسار المثال العلماني الليبرالي المدنيّ الغربيّ، أدارَ وجوه هؤلاء الشبّان إلى الشرق، المُحافِظ، الذي يُشبه الشرق الأوسط إلى حدٍ كبير، مع منظومة أخلاقية محافِظة، تشبه هؤلاء الشبّان، الذين شاهدوا قوى الأمن الأمريكي وهي تقمعُ طلبة الجامعات مثلما قُمع هؤلاء أنفسُهم في تشرين، لِذا: لم يعد الغربُ أمثولةً من الممكن الاعتماد على استيراد نموذجها محلّياً.
من خلال متابعة خطاب هذه الطبقة، بدأت بشكلٍ واضح بالحديث عن هويّتها الشيعية المُجتمعيّة ابتداءً، وفق طريقة “أنا أزورُ كربلاء، لكنني ضد الإسلام السياسيّ الشيعيّ”، وهذا التمظهر وإعادة تعديل الخطاب يأتي بعد أن فشلت قوى الإسلام السياسيّ بصناعة جيل واضح يمتدُّ بعدهم، لأنه لم يخلق سوى طبقة زبائنيّة هدفُها التعيين أو تحقيق الذات عبر باج أو حمل سلاح أو ما شابه، وهذا ما لا ينطبق على الأغلبية الشابة من الشيعة “غير المسلّحين”، خصوصاً من غير المتدينين الكلاسيكيين، أو المتدينين المعتدلين، ضمن أجواء خطاب مرجعية الإمام السيستاني مثلاً، أو حتى غير المقلّدين، لكنهم شيعة بالهويّة الفرعية، وهذه الطبقة بُنيتْ بطريقةٍ مُتراكمة من التحوّلات السياسية والفكرية المدنيّة التي طبختْها الانتلجنسيا الشيعية المدنيّة، منذ عام ٢٠١١.
مثالٌ على ما تقدم، نشرَ القيادي السابق في حركة (وعي) حامد السيّد، مثالاً لا حصراً، منشوراً في صفحته، يجمعه مع عزيز الربيعي، وهما يُعلنان عن حركة جديدة بعنوان (الخط الوطني)، ورغم اشتراك السيّد والربيعيّ بشكل مكثّف بكل الحركات الاحتجاجية، وانتقاد الأحزاب الإسلامية الكلاسيكية بعنف منذ أعوام، إلاّ أن المنشور، يُمكن قراءته علاماتيّاً بعدّة عناصر:
– الصورة في النجف قرب مرقد الإمام علي (عليه السلام).
– اللافتة الموضوعة خلفهم “ركن الإيمان وتُرجمان القرآن”.
– الحديث عن (الخط الوطني) في المنشور بوصفه “منهجاً يتجنب التطرف”.
– اختتام المنشور بمقولة للإمام علي (ع).
يُذكر أنّ النشاط الأول كان لـ(الخط الوطني) هو اللقاء بعمامة دينية معتدلة، غير مسلّحة، وإن كانت ضمن (الإطار التنسيقي)، وهو زعيم تيار الحكمة السيّد عمار الحكيم.
لم يكن السيّد والربيعي النموذج الوحيد، ثمّة نماذجُ أخرى تنطلقُ من ذات المنطلقات، بعضها كان قبل (الخطّ الوطني) مثل (حركة وعي) و(نازل آخذ حقي)، فضلاً عن الناشطين غير المُندرجين ضمن أحزاب منبثقة، وأتوقعُ بشكلٍ مكثف أن يتحوّل الأمر الى ظاهرة سياسية: الانتقالة من فضاء العلمانية الصلبة إلى “مدنيّة شيعية” لها ثوابتُ التشيّع، والمجتمع المحافظ، مع الدفاع عن فكرة الدولة من جهة، والتعايش السلمي والحرّيات الشخصية، مع إمكانية الوقوف ضدّ التشيّع الراديكالي المسلّح خصوصاً بأيّة لحظة وبأيّ موقف، مثالٌ على ذلك: الوقوف ضد التظاهرات وإغلاق المطاعم والبراندات الأمريكية دعماً للقضية الفلسطـ..ينيّة.
في الأفق المقبل، لا يبدو أن ثمّةَ ردّةً علمانية بشكلها الكلاسيكيّ ما قبل تشرين، ولا حتى من الممكن أن تكون ثمّة حركة احتجاجية جديدة، ومع الخراب المستمر، سيُنظر الى مجسّرات الحكومة الحالية، وتوسيع الطبقة الزبائنية من المستفيدين من رواتب الرعاية، والتعيينات الحكومية، على أنها “حكومة جيدة”، بالمقارنة بما سبق من حكومات.
بكلّ الطرق، تتناغمُ هذه الطبقة أيضاً مع توجّهات شارع الرسول والحنّانة في وقتٍ واحد: الحديث عن هوية وطنية، شيعية، مع ثوابت، ورفض للأحزاب الموجودة حالياً، في تجديد دماء مستمرّ انطلاقاً من أهم عقلٍ جمعيّ ناقد في الجماعات المسلمة: العقل الحِجاجي النقديّ الشيعي.
بطريقةٍ ما، ستنتعشُ هذه القوى الشيعية المدنية الجديدة، العلمانية الصلبة سابقاً، مع عودة الصدر إلى المشهد، في مرحلة ما بعد السيستاني، أطال الله بعمره.