الكاتب : عبد المنعم الاعسم
لماذا نكتب؟ سؤال ، كما ترون مركّب، وإشكالي، وله ما يبرره، ومطروح على سطح اهتمامات العصر والكتاب والدراسات المختلفة، فقد اصبحت الكتابة مشكلة بحد ذاتها، لانها تحاول ان تجد مكانها في مجرى النشاط الانساني، المعولم، والبالغ التعقيد، حتى المفهوم التقليدي الذي يذهب الى ان الكتابة دخلت في متطلبات الحياة اصبح بحاجة الى مراجعة في ظل ظهور اشكال جديدة من التعبير تنافس الكتابة في التعامل مع تلك المتطلبات.
اما الكتابة في السياسة على وجه الخصوص فقد تجاوزت تلك المتطلبات الى كونها، من جهة، ضرورة لتزييت ماكنة المصالح حتى في ابشع تطبيقاتها، ومن جهة اخرى، اصبحت مسؤولية باهضة الكلفة بالنسبة للكاتب، فلم تعد هي الاداة الوحيدة المتاحة لتصويب اتجاهات الاحداث، او خلاصا له مما يحيطه من اسئلة، أو وقاية مما يداهمه من اخطار، او حلّا لاشكاليات التعامل مع الواقع في وقت يزداد هذا الواقع تعقيدا واحتقانا.
فعندما حُرمت فيرجينا وولف من الكتابة واجبرت على العودة إلى مصحة الأمراض العقلية بدعوى عدم انسجامها مع المجتمع الذي كان يلزم عقل المرأة بالمشغولية النمطية في مسائل الإنجاب وتدبير المنزل، لم تجد بدًا من الانتحار. فقد جربت دون جدوى تحدي الحرمان من الكتابة، ولم تعد قادرة على مجرد التفكير بالعودة إلى المكان الذي سيسلبها حريتها في ممارسة حرفتها الوحيدة.
في لندن، وقبل عقدين ونيف من الزمان، فاجأني رجل الامن البريطاني وهو يسجل طلبي للجوء بالسؤال: اذا كانت مشكلتك مع صدام حسين هي الكتابة، وهي مصدر قوتك، فلماذا لم تفكر في تغيير هذه الحرفة الى حرفة اقل خطرا وابعد عن يد الملاحقة؟ فلم اجد جوابا جاهزا للرد، واتذكر اني اجبته بما لم يكن مقنعا، ولهذا فانه وضع امام طلبي علامة استفهام كانت السبب في تعليق حالتي لفترة اطول من فروض الموافقة على طلب اللجوء، لكن المهم، هو انني وبعد اكثر من عقد من السنين، التقيت محاميا متخصصا ليخبرني ان سؤال رجل الامن كان يتعارض مع حقوق الانسان، لان الكتابة مسؤولية، ورجل الامن البريطاني كان يقلل من شأن هذه المسؤولية، بل يعطي للدكتاتورية مبررا في التنكيل بالكتاب الاحرار.
الكاتب البريطاني الشهير “سومرست موم” في كتابه (الخلاصة) يتحدث عن تكاليف الكتابة في زمن المسؤولية التي تحولت الى معنى التضحية من اجل قيم الحياة، وسجل “لقد وجدت نفسي على صفحات الورق، فمن يستطيع ان يرفعني عنها”
سئل الأديب والكاتب أورهان باموك الفائز بجائزة نوبل في الآداب هذا السؤال: لماذا تكتب؟ فقال: أكتب لأنني غاضب منكم جميعا.. أكتب لأنني لا أستطيع تحمل الحقيقة إلا وأنا أغيّرها”.
اما ارت بوكوالت، اشهر كاتب سياسي امريكي ساخر غفد كان يقول على الكاتب ان يرفع نهايات بنطاله عندما يريد ان يخوض في السياسة الامريكية، لكن العلم المدرسي للسياسة يقول ان كتاب هذا الميدان اقل انشغالا بذواتهم، لأن السياسة نفسها، خلاف أجناس النشاطات الاخرى، مطبخا للظواهر والاحداث والتحولات والاسئلة التي تجري خارج الذات والرغبات والمشيئات وهي تعني البشرية والمجتمعات والطبقات، وان النص السياسي يظهر كما لو انه مكتوب بعقل الجماعة، او مكتوب الى الجماعة، فيما النص الادبي يبقى رهن مبدعه وشكل تفكير شخص واحد.
ومن هنا تتأكد اهمية ما قاله بوكوالت بوجوب الحذر حين يتعين على الكاتب الخوض في شؤون السياسة، الامريكية بوجه الخصوص، والتسبيب هنا واضح، ويتصل بالمسؤولية المباشرة حيال الاخرين بالنسبة للكتابة بوجه عام .. تلك المسؤولية التي يتحدث عنها كتاب الادب والشعراء بالقول: انا مسؤول امام نفسي . امام ضميري. امام صدقيتي.
وعلى نحو تقريبي، يمكن تشبيه كاتب النص الادبي بالشخص الذي يدخل صالة السينما ولا يهمه غير حركة بطل الفيلم على الشاشة، وإنشاءات تلك الحركة في نفسه، فيما الكاتب السياسي يعاين تاثير الفيلم على جمهور المشاهدين واشكال التفاعل التي تظهر في مجرى العرض داخل القاعة، ثم خارجها.
واحسب ان العصر لم يغير من حقيقة ان الكتابة عملية رصد للافكار والظاهرات وإنشائها في عبارات سليمة المبنى والمعنى، لكني افترض بان الكتابة السياسية تبتعد خطوة عن عملية الرصد الى المشاركة، لتصبح جزءا عضويا من الحدث، ومن هنا تأتي التباسات الكتابة السياسية، بين ان تشارك من موقع المسؤولية المستقلة (بالمفهوم النسبي) حيال القيم والحقيقة وسلامة النية، وبين ان تشارك كملحق غير مستقل (او تابع) للجهة السياسية، او المشروع السياسي، رشيدا كان ام انكفائيا، والالتباس يعبر هنا نفسه في الخط الفاصل، الرفيع، بين الكتابة السياسية كإنشاء للوعي وصياغة المواقف او بوصفها دعاية تمليها اوامر او متطلبات السياسة.
الكتابة السياسية، تبقى في جميع الاحوال، مسؤولية تتجلى في اسطع معانيها في ساعة الحقيقة التي تملي فروضها قبل فوات الاوان، بان يقف الكاتب في منطقة الشجاعة ليقول كلمة الحق، من دون خوف، او مداهنة او تدليس.. وقد يقدِم الكاتب،في هذا الموقف، مساعدة للسياسي الذي يمضي في غيّه لكي يتراجع او يراجع، فلم يعترف موسوليني بهزيمته إلا عندما قرأ ما كتبه شوستر الكردينال قائلا: “حان الوقت للاعتراف بخطاياك”.
اتحدث عن الكتابة السياسية كتحسّب.. وليس كتكسّب.