اسم الكاتب : وليد يوسف عطو
يكتب الاب يوسف حبي في تقديمه لكتاب (علوم البابليين )تاليف ,مرغريت روثن : (ان اول حضارة عالمية عرفها الانسان هي حضارة وادي الرافدين , وانها كانت حضارة راقية متقدمة ,ومتكاملة الجوانب والابعاد , قلما ضاهتها حضارة من الحضارات القديمة الاخرى ,بل هي المعين الاول لجميع الحضارات اللاحقة ) .
الباحثة والعالمة مرغريت روثن من امناء المتاحف الفرنسية الوطنية .عملت في حقل الاثار ردحا من الزمن , ووضعت اكثر من دراسة وبحث عن الخط المسماري والرياضيات وبابل .
بسبب ارتباط حضارة سومر واكد بالماء والزراعة ,لذا لعب الطين والماء دورا مهما في الثقافة السومرية والاكدية . حيث تقول احدى الاساطير ان الانسان البابلي الاول خلق من طين . وتم العثور على لوحة طينية مرسوم عليها ادم وحواء البابليين وبينهما شجرة وحول الشجرة تلتف الحية .
ولهذا كانت الالهة البابلية مرتبطة بالماء والارض.فبرج بابل كان هيكل كبير الالهة مردوخ ودار استراحة الالهة ,حيث تنزل الالهة من السماء لتستريح فيه قبل نزولها الى المياه العذبة (الابسو ) . والالهة التي تصعد من الارض الى السماء ترتاح في برج بابل لاكمال رحلتها الى السماء . ولهذا اعتبرت الالهة تسكن في منابع الانهار , واعتبر الطين مادة الهية مقدسة ,واعتبر العلم والكتابة امرا موحى به من الالهة برعاية الالهة نيسابا ,الهة العلم . وهذا الكلام نجد مايماثله في الديانات التوحيدية ,يكتب الرسول بولس في رسائله : (كل الكتاب موحى به ونافع للتعليم والتوبيخ والتاديب في البر ) .
كان الكتبة يتدرجون في عدة مراتب ,مثلما كان هناك سلالة كهنوتية متدرجة.ولم يكن جميع الكهنة كتبة , كما لم يكن كل الكتبة كهنة او حكماء ان بعض النصوص لم تكن تعرض على البسطاء من الكهنة , كلوح هيكل مردوخ العظيم في بابل , حيث نقرا :
( واحد وعشرون سطرا سريا محفوظا لايزاكيلا ( esagil)لايراها احدعدا عظيم الكهنة ,اما في معظم الاحيان .فقد كانت نصوصا مقدسة يستنسخها الكاتب لتعليم المبتدئين , لانها مما يجب نقله الى الاجيال اللاحقة . ومرجع العلم الالهي هو التقليد الشفهي المتناقل عن قدامى الحكماء .لقد كان التلميذ يبدا دروسه وهو صغير جدا .حيث كان ينهض مع الفجر باكرا ,وبعد التغسيل والتنظيف ,يتناول على عجل طعام فطوره الذي تعده له امه , وياخذ من خبز الشعير كوجبة غداء ,ويسرع الى المدرسة .وان وصل متاخرا ,فعليه ان يندس في مقعده دون ان يلحظه المعلم , والا نال التوبيخ والقصاص مع تذكيره بالاخطاء السابقة ايضا ,كقيامه من دون طلب اذن ,او عدم احترامه معلميه , او انتقاد عملهم بقوله ( ان كتابتهم ليست على ما يرام ) .ولاتمر هذه الامور عادة دونما ضرب بالعصا. وتتكون الصفوف التي عثر عليها في حفريات سيبار وماري , عن مقاعد من الطابوق مرصوفة بكل انتظام , مهياة لجلوس التلاميذ فوقها . كما كان في متناول ايديهم اواني فخارية مدورة يعجنون فيها الطين بالماء الموضوع في اكواز طينية صغيرة مخصصة لهم . ويستنسخون بقصبة ويكتبون الامثلة التي يعطيها لهم المعلم , وذلك بكتابته نموذجا واحدا لهم , او بكتابة المثال لكل واحد منهم في اعلى الواحهم التي يمسكونها باليسار .
وفي حالة عدم نجاح الطالب في تمرينه , كان عليه ان يخلط اللوح ويستانف الكتابة من جديد .
كان لكل صف مواده الثابتة , وحين يتم اختيار المادة من قبل المتعلم , فان تعلمها يقتضي منه سنوات عديدة , غير ان مشاق هذه المهنة لم تكن جزافا , لان اصحابها ينالون تقديرا كبيرا .
لذا نرى الكتبة وخاصة من هم من السلالة الملوكية ,يتمتعون بمنزلة اجتماعية تفوق الحدود .وما عدا نصوص قليلة تلعن ايام الدراسة ,تمتدح النصوص عادة الكتبة الجيدين المضيئين كالشموس .
ثمة نصوص ذات طابع تهكمي ,نعرف منها بان المبتديء يعهد به الى شخص اكبر منه لكي يكون له بمثابة الاخ الكبير ,وكثيرا ما لايستسيغ هذا المعيد الطالب الصغير . لذا نجد الصغيريثور مهاجما الكبير فيشتمان بعضهما, ويفضي بهما الى الضرب .
ولا يتم كسب رضا المعلم الا بمحاولة دعوته من قبل ولي امر الطالب الى وليمة عشاء . وعند مقدمه يجد الهدايا بانتظاره , اما موضعه فيحتل صدارة المنزل .
ويتم على العشاء تناول العبارات الديبلوماسية . ويشكر الاب معلم ابنه على اتعابه التي يتجشمها في تعليمه . وبعد الانتهاء من المجاملات والعشاء يرفع الدعاء الى الهة الكتابة والتعليم :
المجد لنيسابا !!!
فقد كان الكاتب يضع نفسه تحت حماية الالهة نيسابا , فهي الهة العلم , ولاسيما علم العدد .
انشاء الخزانات وضبط الوثائق
لقد كان اول عمل للكاتب استنساخ الالواح ,فثمة مجموعة كبيرة من الوثائق كانت تنسخ مرارا حتى تشكل الخزانات او المكتبات التي نجدها في خرائب الهياكل والقصور .وكان لابد من تنسيق هذه الخزانات وضبط محتوياتها وفرز القديم منها ,وترتيبها وفق موادها بحيث يتهيا ما يمكن تسميته بمكتبة بحوث منسقة وفق المواد المختلفة .
ولكي يتمكن المرء من تتبع الالواح المرتبة وفقا لنصوصها وتسلسلها كان الكاتب يكرر السطر الاخير من اللوح في اعلى اللوح التالي , ويورد في نهاية كل فصل ذيلا يبين فيه مصدره وتاريخه واسم كاتبه . كما كان ثمة قانون للمكتبات يمنع من الاستيلاء على الالواح او اتلافها تحت طائلة عقاب اللعنة الالهية .
كان احترام النص القديم على انه شيء مقدس ,باعتبار العلم امرا موحى به يحمل الكتبة على استنساخ القوائم حرفيا ,حتى في حالة ورودها متكررة ,او محتوية على اغلاط كتابية او اكاذيب .
لقد كان اهتمام السومريين والاكديين كبيرا بالكتابة , ولهذا تجد العبارات التالية في الالواح الطينية :
(لاتهمل ثقافتك )
( هل يكون كاتبا جيدا من لايتقن السومرية ؟ )
لقد ذهل المنقبون والدارسون امام المستوى الحضاري الراقي الذي بلغه الاكديون في المنطقة الغربية (سورية )بما يكاد لايصدق.
فقد اوجدوا نظام المدارس المجهزة بالتجهيزات المختبرية ,والمزودة بنظم الامتحانات والتدريس ,والمكتبات والوظائف والموظفين .
كما عثر على المساكن الراقية لاستقبال الضيوف المزودة بكل ما تحتاجه المساكن الحديثة تقريبا من ملاحق .
يقول (اندريه بارو ) في كتابه (ماري ) :
لقد عثر في ماري على مدرستين في الجناح الملكي .تتميز هاتان المدرستان بتجهيزات لم نرى لها مثيلا لها حتى الان . ونحن لم نزل في حيرة تامة فيما يتعلق باستعمال ووظيفة هذه التجهيزات .ويجب ان نقول اننا هنا على مقربة مباشرة من المعامل والافران لمعالجة فلزات المعادن الثمينة . وكانت القاعة الاولى تضم 45 مقعدا مختلفة في اطوالها .وتضم الثانية 23 مقعدا .والقاعتان مبلطتان بالاجر الجميل .ونجد في جناح الموظفين عناية خاصة . لان كل غرفة مبلطة وبعضها مرفق بغرف حمام , واحداها تحتوي على مغطسين من الخزف على قاعدة من الاجر المطلي بالبيتوم ,وفي الزاوية مرحاض على الطريقة الشرقية السائدة اليوم صنع من كومتين من الاجر المكسو بالبيتوم , وفي الجداران صناديق صغيرة وجد في واحدة منها طاسة من الخزف لغرف الماء .
وفي الزاوية الجنوبية الغربية مدخنة مصنوعة من انابيب مصنوعة من الطين المشوي ومتصلة ببعضها , وتزداد اتساعا باتجاه الاسفل وتطل على قاعة تدل على موضع الموقد .فقد يكون الشتاء قاسيا قي ماري . كانت هذه المجموعة المعمارية انجازا مذهلا . اما الحكمة اللاتينية التي تقول
( الرئيس لايهتم بصغائر الامور ) فلم يكن لبها مكان عند الملوك الاكديين الذين تعلموا ان يجعلوا من العبارة الماثورة لديهم ( وفي قلبي حملت شعبي ) .لقد عثر في القصر الملكي في ماري على مدرسة لتعليم الموسيقى . وذكر الباحث حميدوحمادة ( 2002) ان الرقم المسمارية التي كان يبطل مفعولها كانت توضع تحت اساسات الجدران كنوع من التقدير والاحترام لعالم الكتابة .
على المودة نلتقيكم …
المصادر
1 – (علوم البابليين ) :تاليف مرغريت روثن , تعريب وايضاحات الاب يوسف حبي , منشورات وزارة الثقافة والاعلام – دار الرشيد للنشر – بغداد – 1980
2 – ( الملك سرجون الاكدي ) – د . عبد الكريم العلوجي – ط1- الناشر دار الكتاب العربي – 2010
3 –مغامرة العقل الاولى – فراس السواح –ط4 – 1985 – دار الكلمة – بيروت – لبنان