ديسمبر 6, 2024
33657360_1643723009074985_6930543139325214720_n

الكاتب : سلمان رشيد الهلالي

بدات رحلتي مع التصوف والمتصوفة معرفيا وثقافيا في مطلع التسعينات ابان دراستي الجامعية في بغداد تحت تاثير كتابات المستشرق ماسينيون (1883 – 1962) عن الشهيد الحلاج وافكار الدكتور كامل مصطفى الشيبي عن التصوف الاسلامي . وتمدد التاثير والانبهار والاعجاب الى المتصوفة الاخرين الذين لم يخضعوا للسلطان وتوجهاته الطائفية والاقصائية او يتملقوا للعامة وميولهم الشعبوية والعصابية والطرق الصوفية التي ظهرت لاحقا وما اعقبها من اختراع الدروشة وممارساتها الغريبة والمقززة . ويعد المستشرقون اول من نبه المسلمين الى اهمية المعطى الروحي والعرفاني والاخلاقي للتصوف , وبعثوا افكاره وتوجهاته ورموزه بالدرس والتحليل , ومجدوا معاني العشق والحب والاعتدال الزاخر فيها , مقابل الاسلام الاقصائي والثوري والسياسي , او الفقه الصارم والمتزمت للشريعة الاسلامية . واهم الشخصيات الصوفية التي درسها المستشرقون وبعثوا افكارها : رابعة العدوية والحسن البصري وأبو القاسم الجنيد بن محمد وأبوحامد الغزالي ومحي الدين بن عربي (ت 638ه) والحسين بن منصور الحلاج (ت 309ه) وشهاب الدين السهروردي (ت 580ه) وغيرهم . وتساءلوا هل إن التصوف هو الأساس المشترك الذي تلتقي عنده الديانات الثلاثة (الإسلام واليهودية والمسيحية)؟، كما بحثوا عن العلائق والصلات النظرية والعملية التي تربط بين التصوف الإسلامي والرهبنة لدى المسيحيين ، كما تساءلوا هل إن أصول التصوف الإسلامي أجنبية، من الرهبانية السريانية أو من الأفلاطونية المحدثة أو من الزرادشتية الفارسية أو الفيدانتا الهندية، أم أن أصوله نشأت من التعمق في تأمل القرآن واستخراج ما يدعو إليه من الزهد وحب الآخرة؟. وقد اثار اعجاب المستشرقين بالتصوف الاسلامي والترويج له العديد من الكتاب الاسلاميين الذين ينادون بنظرية المؤامرة , واعتبروه تشجيعا للخمول والكسل والزهد والتعبد على حساب الاسلام الثوري والاصلاحي . وكان من اهم هؤلاء الكاتب انور الجندي في كتابه (اخطاء المنهج الغربي الوافد) الصادر عام 1974 . لذا ليس من المستغرب ان نجد الكثير من الكتاب والباحثين العرب قد امتدحوا الحركة الوهابية واعتبروها اصلاحية , لانها وقفت بالضد من التصوف والكسل والزهد والتوكل وزيارة القبور والاتكال عليها في قضاء الحاجات وغيرها , وفاتهم ان السلفية الوهابية بعثت نمطا اسوء من الاتكالية والغيبوبة وهو التكفير والاسلام السياسي والغزو والارهاب وغيرها .
بلغ الهوس عندي بالتصوف الاسلامي الى مديات كبيرة استمر مايقارب العقد من الزمان . وقد تمظهر في البدء من خلال الاطلاع على الكتب والدراسات الخاصه به , التي بعضها من خلال الاستعارة من المكتبة الوطنية او مكتبة جامعة بغداد بالوزيرية او عن طريق الشراء من المكتبات التجارية في شارع المتنبي , وكان اهمها كتب الدكتور كامل مصطفى الشيبي (الصلة بين التصوف والتشيع)و(الحلاج موضوعا في الاداب)و(الطواسين والمناجيات) و(ديوان الحلاج) وكتاب متصوفة بغداد لعزيز السيد جاسم وكتاب شخصيات قلقة في الاسلام لعبد الرحمن بدوي وكتاب مراقد بغداد للشيخ يونس السامرائي وكتاب عطار نامة لفريد الدين العطار النيسابوري وكتاب احمدي خاني للدكتور عز الدين مصطفى رسول وكتاب الجنيد البغدادي للشيخ يونس السامرائي وكتاب بغداد بين متصوفة الامس وفلاسفة اليوم للدكتور علي حسين الجابري وكتاب الوحدة المطلقة عند ابن سبعين لمحمد ياسر شرف وكتاب من اعلام العارفين لصادق محمود الجميلي وكتاب ابن عربي فصوص الحكم بقلم ابو العلا عفيفي وديوان ابن الفارض بنسخة حجرية نادرة في مصر ترجع الى عام 1913 استعارها احد الاصدقاء ولم يرجعها وغيرها .
كما كانت لي زيارات لمراقد ومقامات المتصوفة في بغداد ابان دراستي في كلية التربية – جامعة بغداد . فقد زرت مقام المتصوف الشهيد ابو الغيث الحسين بن منصور الحلاج (244 – 309) هجرية قرب مستشفى الكرامة في منطقة (الفحامة) في الكرخ ببغداد ثلاث مرات : الاولى , بتاريخ 15/2/1993 وصادف في حينها اول ايام التطبيق في متوسطة الوحدة للبنين قرب شارع حيفا . والثانية , ويوم 2/4/1993 وكانت اخر ايام التطبيق .
ولد ابو المغيث الحسين بن منصور بن محمي البيضاوي في قرية الطور في الشمال الشرقي من مدينة البيضاء احدى مدن مقاطعة فارس الى الشمال من مدينة شيراز على بعد نحو (30) كيلومتراً في نحو سنة 244هـ/ 857م. نزلت اسرة الحلاج بمدينة واسط في فترة كانت تغلي بالحروب الداخلية ومنها قصد الحلاج مدينة شوشتر الايرانية على نهر الكارون مصطحباً صديقه احد كبار الصوفية في القرن الثالث الهجري 283هـ/ 896م سهل بن عبد الله التستري , وتنقل الحلاج بين شيوخ التصوف المعاصرين حتى وصل الى بغداد ليأخذ من الجنيد البغدادي شيخ الطائفة الصوفية في ذلك الوقت، لكن الجنيد لم يقبله قبولاً حسناً بسبب الثقة المفرطة للحلاج بنفسه ومبالغته في ممارسة الرياضات النفسية والجسدية. يقول الدكتور كامل مصطفى الشيبي : ان الدولة العباسية في تلك الفترة كانت تعاني من خطر الانهيار والسقوط على يد فرقة القرامطة، وهي الجناح العسكري للحركة الفاطمية الأسماعيلية فشنّت الدولة حملة على معارضيها، فبدأت بالقاء القبض على الحلاج سنة/ 301هـ- 913م بعد مراقبة من الشرطة استغرقت عامين بتهمة القرمطة وانتهى المطاف بقيام محكمة فقهية من المذاهب السنية الاربعة حكمت باعدامه وصلبه , واحرقت جثته وذرى رمادها في نهر دجلة , وهو مصداق قوله (ماشرب العشاق الا بقيتي …. وما وردوا في الحب الا على وردي) .
واما الزيارة الثالثة والاخيرة فكانت يوم 9/6/ 1993 (الخميس عصرا) مع الصديق حيدر كاظم طالب الصافي , حيث قمنا بالتجوال في شارع حيفا وزرنا في البدء مقام الشهيد الحلاج ثم مرقد المتصوف المعروف الجنيد البغدادي ووجدناه في اطراف القبور التابعة لمقبرة معروف الكرخي في نهاية محطة قطار بغداد والمحافظات الاخرى (المحطة العالمية) وبقربه مرقد خاله المتصوف السري السقطي .
والجنيد البغدادي (215 – 298 هـ) عالم مسلم وسيد من سادات الصوفية وعلم من أعلامهم. يعد من علماء أهل السنة والجماعة ومن أعلام التصوف في الآن ذاته، إذ جمع بين قلب الصوفي وعقل الفقيه، واشتهر بلقب “سيد الطائفة”. وعدَّه العلماء شيخ مذهب التصوف؛ لضبط مذهبه بقواعد الكتاب والسنة، ولكونه مصونًا من العقائد الذميمة، محميَّ الأساس من شُبه الغلاة، سالمًا من كل ما يوجب اعتراض الشرع. قال عنه أبو عبد الرحمن السلمي: “هو من أئمة القوم وسادتهم؛ مقبول على جميع الألسنة”. وهو أول من تكلم في علم التوحيد ببغداد. واما خاله المتصوف السري السقطي فهو أبو الحسن السَرِىُّ بنُ المُغَلَّسِ السَّقَطِي، أحد علماء أهل السنة والجماعة في القرن الثالث الهجري وأول من تكلم في بغداد في التوحيد وحقائق الأحوال، يقول عنه أبو عبد الرحمن السلمي أنه «إمام البغداديين وشيخهم في وقته». وكان تلميذ معروف الكرخي وخال الجنيد وأستاذه.
كما راينا مرقد المتصوف ذو النون المصري قرب مرقد الجنيد البغدادي , ولكن لم ندخل اليه لضيق الوقت . واسمه ثوبان بن إبراهيم، كنيته “أبو الفيض” ولقبه “ذو النون”، أحد علماء المسلمين في القرن الثالث الهجري ومن المحدثين الفقهاء. ولد في أخميم في مصر سنة 179 هـ الموافق 796 م وتوفي سنة 245 هـ الموافق 859 م ، وأبوه كان نوبياً. ومن مؤلفاته كتاب «حل الرموز وبرء الارقام في كشف اصول اللغات والاقلام» .
وبعدها عرجنا لزيارة مرقد زمردة خاتون والدة الخليفة العباسي الناصر لدين الله المعروف عند العامة بقبر زبيدة (زوجة هارون الرشيد) . ويقع في اطراف مقبرة معروف الكرخي الحالية , ووجدناه – للاسف – مغلقا . علما اني سبق وان زرت هذا المرقد قبل اشهر قليلة , ووجدت فيه قبرا فوقه قطعة قماش خضراء مكتوب عليها (الله , محمد , علي) .
ومرقد السيدة زبيدة أو جامع زمرد خاتون، وهو من المراقد الأثرية المشهورة القديمة في العراق، ويقع في مقبرة الشيخ معروف في جانب الكرخ من بغداد، ويحوي قبراً ينسب خطأ إلى السيدة زبيدة، وتعلو المرقد منارة مخروطية الشكل، وذكرت المصادر التاريخية إنها ليست زبيدة زوج هارون الرشيد بل هو مرقد السيدة زمرد خاتون أم الناصر لدين الله العباسي، وزوجة المستضيء بأمر الله، المتوفاة عام 599 هجرية/ 1202م، وقربها قبر عائشة خاتون أم أحمد باشا والي بغداد وزوجة حسن باشا الوالي في العهد العثماني. ولقد هدم المسجد كليا في عام 1195 هـ، وأعاد سليمان باشا بناؤه عام 1200 هـ.
ثم عرجنا لزيارة مرقد المتصوف معروف الكرخي وهو اكبر المراقد الصوفية في بغداد بعد مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني . ويقع وسط مقبرة كبيرة جدا , اغلب قبورها لقتلى الحرب العراقية الايرانية مكتوب عليها (ياقارىء كتابي ابكي على شبابي … بالامس كنت حيا واليوم تحت التراب) .
والشيخ معروف الكرخي : هو معروف بن فيروز الكرخي ويكنى أبو محفوظ، هو من أصل نبطي بابلي، عراقي قديم، وهو ما أثبتته عدد من الدراسات الأكاديمية التاريخية، ويقال انه اسلم على يد الامام الرضا . وهو من جملة المشايخ المشهورين بالزهد والورع والتقوى ، وسكن بغداد ومات فيها ودفن سنة مائتين هجرية، الموافق عام 815م، في مقبرة الشونيزية أو مقبرة باب الدير العتيقة على جانب الكرخ من بغداد، وسميت فيما بعد بأسمه مقبرة الشيخ معروف.
وبعد ايام زرت مرقد الشيخ عبد القادر الكيلاني في محلة باب الشيخ بالرصافة في بغداد ووجدت صورة الشيخ عبد الرحمن النقيب اول رئيس وزراء عينه الانكليز عام 1920 عقب اعلان الانتداب . ووجدت جماعة من السلفية من ذوي اللحى الطويلة والملابس القصيرة وهم يبعيون الكتب الوهابية مقابل مرقد الكيلاني , وهى مفارقة غريبة , لان السلفية يكفرون المتصوفة – حالهم حال الشيعة – وكان اهل بغداد في اواخر العصر العباسي يسمون الكيلاني بالعجمي , لانه من اصل فارسي من مدينة كيلان غرب في ايران .
عبد القادر الجيلي أو الجيلاني أو الكيلاني (470 – 561 هـ)، هو أبو محمد عبد القادر بن موسى بن عبد الله، يعرف ويلقب في التراث المغاربي بالشيخ بوعلام الجيلاني، وبالمشرق عبد القادر الجيلاني، ويعرف أيضا ب”سلطان الأولياء”، وهو إمام صوفي وفقيه حنبلي شافعي، لقبه أتباعه بـ”باز الله الأشهب” و”تاج العارفين” و”محيي الدين” و”قطب بغداد”. وإليه تنتسب الطريقة القادرية الصوفية.
ذكر االباحث سالم الالوسي : ان الرئيس أحمد حسن البكر في بداية حكمه، طالب إيران باسترجاع رفات الخليفة هارون الرشيد، كونه رمز لبغداد في عصرها الذهبي، وذلك بدعوة وحث من عبد الجبار الجومرد وزير الخارجية العراقي السابق في عهد عبد الكريم قاسم، ولكن إيران امتنعت، وطلبت بالمقابل استرجاع رفات الشيخ عبد القادر الكيلاني، كونه من مواليد كيلان في إيران، وعندها طلب الرئيس من العلامة مصطفى جواد، بيان الامر، فأجاب مصطفى جواد: ان المصادر التي تذكر ان الشيخ عبد القادر مواليد كيلان في إيران، مصادر تعتمد رواية واحدة وتناقلتها بدون دراسة وتحقيق، اما الاصوب فهو من مواليد قرية تسمى (الجيل) قرب المدائن، ولاصحة كونه من إيران أو ان جده اسمه جيلان، وهو ما اكده العلامة حسين علي محفوظ في مهرجان جلولاء الذي اقامه اتحاد المؤرخين العرب ، وفعلا أبلغت مملكة إيران بذلك ولكن بتدخل من دولة عربية اغلق الموضوع . واعتقد ان الكثير من الباحثين والمؤرخين ينطلقون من دوافع اما وطنية في اثبات عراقية الشيخ عبد القادر الكيلاني , واعتباره رمزا حضاريا وثقافيا عراقيا , او ضمن دوافع قومية عربية , هدفها نفي فارسية الكثير من العلماء والفقهاء والفلاسفة الفرس وارجاعهم للعرب , رغم التجاوز على الحقيقة والموضوعية في انهم يرجعون الى اصول فارسية .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *